أبريل: بين 68 و2013 ومشروع الدولة القومية المدنية الحديثة
17 - أبريل - 2013
حجم الخط
0
مساء الثاني من نيسان/ أبريل 1968ظهرت هالة من النور فوق قبة كنيسة العذراء بالزيتون، وفي تعليل هذه الواقعة المبهرة كان هناك تفسيران. التفسير الأول هو الذي صدقته يومها وآمنت به الأغلبية الغالبة من المصريين من المسيحيين والمسلمين على حد سواء، ويتمثل في أن تلك الهالة من النور هي العذراء ذاتها، وقد تجلت لكي تشد من أزر المصريين جميعا وتقوي من عزيمتهم في مواجهة ما يعيشونه من الكروب والمحن، وتبشرهم بأن الفرج قريب. أما التفسير الثاني فهو الذي اقتنعت به أقلية من المصريين يتمثلون أساسا في النخب المثقفة ذات التوجه العلمي، ويتمثل في أن هذه الهالة ما هي إلا مثال لظاهرة معروفة جيدا للمشتغلين بالفيزياء والفلك، ألا وهي ظاهرة: ‘نيران سان إلمو’، التي تنتج عن التفريغ الكهربائي البطيء الذي يعقب الأجواء المتقلبة (مثلما كانت الأحوال في أوائل أبريل 68)، ويترتب على هذا التفريغ ظهور هالات متوهجة قرب القباب، سواء كانت قبابا لكنائس أو قبابا لمبان أخرى ليس لها طابع ديني على الإطلاق، بل إن هذه الظاهرة كثيرا ما رصدت قرب نتوءات صخرية في هضاب شتى في أماكن مختلفة من العالم، ولسنا هنا في مجال المفاضلة بين هذين التفسيرين، ولا في مجال بيان ما إذا كان كل منهما يستبعد الآخر بالضرورة، بحيث يمتنع تماما على من يقبل بأي منهما أن يقبل بالآخر، ولا نحن كذلك في مجال بيان إن كان من الممكن طرح تفسير يمزج بينهما على نحو ما… لا يعنينا الآن شيء من ذلك كله، إذ أن ما يعنينا الآن هو تلمس المغزى السياسي والاجتماعي والثقافي لأن تنحاز الأغلبية الغالبة من المصريين في أبريل 1968 إلى تفسير مؤداه أن هذه الهالة من النور هي السيدة العذراء ذاتها وقد تجلت للمصريين مرة أخرى، وأن يرقى هذا التفسير لدى الكثيرين منهم ـ مسلمين ومسيحيين ـ إلى مرقى الاقتناع التام، بل إلى درجة الإيمان واليقين من دون أن يجد المسلمون منهم أية غضاضة في قبول هذا التفسير الذي تحمس له بعضهم إذ ذاك إلى درجة لا تقل عن حماس المسيحيين أنفسهم، رغم أنه يتمحور حول رمزين مهمين من رموز العقيدة المسيحية هما السيدة العذراء والكنيسة التي كانت في ذلك الوقت تلقى كل الاحترام والتقدير، حتى من النخب المثقفة التي رفضت قبول ذلك التفسير الغيبي لظاهرة هالة النور فوق قبة الزيتون. ولتقارن الآن بين مشاعر المسلمين المصريين نحو كنيسة الزيتون في أبريل 1968، وبين المشاعر الراهنة لقطاعات منهم نحو الكنيسة بوجه عام كرمز مسيحي، لكي نجد أنه بدءا من سبعينات القرن الماضي بدأت قطاعات معينة من المسلمين تشعر بنوع من النفور من الكنيسة، تحول فيما بعد إلى كراهية واضحة ومعلنة، كان من الطبيعي معها أن يتولد نتيجة لها رد فعل مسيحي متعصب ومضاد لكل ما هو إسلامي لدى قطاعات متنامية من المسيحيين، وهو ما ساعد بدوره على تغذية مشاعر النفور والكراهية لدى تيارات إسلامية متنامية أيضا، وهو ما وصل فى النهاية إلى ذروة التعبير عن نفسه في أحداث دموية شتى، أهمها أحداث الخصوص ثم بعد ذلك العدوان على الكاتدرائية في أبريل 2013 أي بعد خمسة وثلاثين عاما بالكمال والتمام، من مشاعر الحب والتعلق التي غمر بها عامة المسلمين وخاصتهم أيضا كنيسة الزيتون في أبريل 1968. ما الذي حدث على وجه التحديد في الفترة الواقعة بين الأبريلين 68 و2013؟ والجواب على ذلك ببساطة شديدة هو أن هزيمة 1967لم تكن في أبريل 68 قد أثمرت ثمارها بعد..لقد وجهت أمريكا وإسرائيل ضربة عسكرية ساحقة إلى المشروع الناصري الذي كان يرفع راية القومية العربية، واستقلال القرار الوطني، والدولة المدنية الحديثة، الذي أثبت أنه بتلك التوجهات كان يمثل تهديدا حقيقيا لمصالحهما الإستراتيجية، وقد أفسحت أمريكا بذلك الانتصار، أفسحت المجال لمشروع آخر أثبت أنه أقل تهديدا لمصالحها، بل إنه في الحقيقة حليف لها ألا وهو المشروع السعودي الذي يرفع الراية الإسلامية طبقا للرؤية الوهابية بكل ما تمثله تلك الرؤية من رفض للحداثة وإبقاء للأمة خارج معطيات العصر .. في أبريل 1968 كان المشروع الناصري مازال ينزف بعد أن أصيب بطعنة نجلاء لكن الجسد لم يكن قد انهار بعد، وكانت الإرادة ما زالت صامدة لم تنكسر، وكانت الروح التي بثها المشروع في عروق المصريين لا تزال نابضة، وحين رأى المصريون وهجا على كنيسة الزيتون تمثلوا فيه أنه بشارة لهم جميعا بأنهم سوف يجتازون جميعا محنتهم، وحتى أولئك الذين آثروا أن يتمسكوا بالتفسير العلمي لظاهرة هالة النور ظلوا مع ذلك محتفظين بحبهم وتقديرهم لكنيسة الزيتون ولكل رمز كنسي مصري . في 1968 لم يكن مشروع الدولة القومية المدنية الحديثة قد تراجع رغم هزيمة 1967، ولم يكن الزحف الوهابي بكل ما يحمله من الكراهية للرموز غير الإسلامية في ديار الإسلام، لم يكن قد استولى على ما استولى عليه فيما بعد، ولم يكن الأمريكيون والإسرائيليون وحلفاؤهم الإقليميون قد قطفوا الثمار بعد. وهو ما تحقق لهم في سنوات السبعينات وما تلاها وما زال يتحقق إلى الآن.