تتعدّد الأسباب التي يقوم بها الشعراء، في وضع مختارات من كامل نتاجهم الشعري بمجموعة واحدة، لكنها تتحدّد على الأغلب بالقليل. ويأتي سبب الإحاطة بالتجربة الشعرية وأبعادها ضمن حياةٍ كاملةٍ محوراً لهذا القليل، إذ أن من يقوم بوضع المختارات في الغالب هم أصحاب المشاريع الشعرية الذين كانوا يدركون أبعاد تجاربهم ضمن ماضي وواقع الشعر، ويهجسون بمستقبله، وأضافت الدراسات النقدية في تاريخ صدور مجموعاتهم إلقاء أضواء عليها منفردةً، وعلى مكانة المجموعة المنفردة ربّما ضمن خط تطوّر تجربة الشاعر.
ولا يخدُعنا الشاعر المصري محمود قرني، أحد أعلام قصيدة النثر على مدى الخمس وعشرين سنة الماضية، باختياره كشاعر بستانيّ أكثر الثمار جمالاً وحلاوة وعبقاً، من نتاج بستانه، مجموعاً مع ما لا يُدرَك من فوائدها إلا بعد تذوّقه والإحساس بإغنائه للجسد والروح، كي يعبّر بها عن حبه لقارئه. قرني، في مجموعة مختاراته الشعرية التي وضعها تحت عنوان «أبطال الروايات الناقصة»، حتى لو غلبه تواضعه، هو صاحب مشروع شعري مهمّ في تطوّر وتطوير قصيدة النثر، كما يتضح للقارئ، من خلال ربطه الذي أصبح أكثر سهولة في مختارات متسلسلة تختزل نتاجاً ضخماً باتساع عشر مجموعات شعرية. هذه غطّت خمساً وعشرين سنة من حياة حافلة بالتفاعل، ليس مع جذورها وجذور الإنسانية والثقافة العربية والعالمية ماضياً وحاضراً فحسب، وإنما أكثر من ذلك، بما تفاعلت به فنياً، مع عصرها المتداخل مع العصور، كما اشتهر عن هذا الشاعر.
وإذن فإن «أبطال الروايات الناقصة»، كما سيكتشف القارئ، هي مختارات تشير إلى مشروع شعري ضخم، يحمل فلسفة انفتاح التجربة على الاحتمالات، بتواضعٍ ودون ادعاء، كما يدلّل بذلك العنوان الذي اختاره من جسد أحد قصائد المجموعات، محافظاً على طريقته في اختيار عناوين مجموعاته، وكما تدلّل قصيدته كذلك عليه، بانفتاحها التوليدي الذي لا تريد له أن ينتهي أبداً، بصورة عامة: «انظروا إلى المواخيرِ/ أيها الأصدقاء/ وشاهدوا كَمْ تكونُ مستأنسةً في آخرِ الليل/ استمعوا إلى أناشيدِ المَجروحين/ وأبطالِ الرواياتِ الناقصة/ استمعوا إلى الثوارِ/ الذين خطَبوا وُدَّ الجماهير/ في أوقات الذروة/ وعندما انصرفَ عنهم أتباعُهم/ تصرَّفُوا كالجاموس البري/ استمِعوا إلى الكيميائيين/ أصدقاءُ الفِلِزَّات/ وأنبياءُ العناصر/ الذين ضَلَّلَتْهُم الأفلاكُ وهُمْ يَعُدُّون نقودهم/ استمِعوا إلى خوارق المهَجَّرِين/ الذين أفلَتُوا مِن الموت/ ثم باعوا نساءَهم لقاء بضعةِ أرغفةٍ/ وحفنةٍ مِنَ البارود».
في إيقافها الاكتمال على حافّة انفتاحها، تتجلّى تجربة قرني، في مشروعه التطويري، بملامح عامة تظلّ ناقصةً في القراءةِ عن إيفائها أبعادها. ويمكن للقارئ تلمس حسم القرني لاتجاه تجربته بنصل سهم قصيدة النثر، بدءاً من ديوان شعره الثالث «هواء لشجرات العام»، 1999؛ بعد ديوان «خيول على قطيفة البيت»، 1998، الذي ينهج أسلوب قصيدة التفعيلة، رغم صدوره بعد ديوان قصيدة نثر هو «حمامات الإنشاد»، 1996. وفي هذا الديوان الثالث، يلاحظ القارئ إدراك قرني لمشروعه الشعري بتأكيد ما بدأه في ديوانه الأول من تراكب الجملة الشعرية المتداخل، وتراكب الأسطر، بلغةٍ شفافةٍ تفور بحمحمات أحصنة التاريخ والتراث والأسطورة، حيث يعلن:
«حَذَار يا عهدَ الشفقةِ
أن تتسلّى بحرَارَتي واخْتِراعَاتي
فسوف أتمردُ على كل شيء:
علَى الطباشيرِ
التي مَلأَتْ حفلَ زِفَافي
على المهزلةِ الموروثةِ بطريقٍ شريف
على غُصّةِ أعضائي منذُ عامٍ
إلى ما لا نهاية
على الشعراء الذين سرقوا خيمةَ القديسين
على موهبةِ الطيرِ
في تأديبِ أولادي
على جسارةِ الأحصِنَةِ
في التَبَولِ على بَزّةِ المأمور».
وفي ما بعد هذا الديوان تتضح وتتطور أبعاد تجربة قرني في تطوير قصيدة نثره، فتسلك القصيدة دروب الدهشة في دواوينه اللاحقة: طرق طيبة للحفاة» 2001؛ «الشيطان في حقل التوت»، 2003؛ «أوقات مثالية لمحبة الأعداء»، 2006. وتبلغ مستويات عالية من التركيب الثري المتداخل، مع الإدهاش، في ديوانه السابع المميز «قصائد الغرقى»، 2008؛ وبالأخص في قصيدته إلى شاعرة قصيدة النثر الأمريكية الشهيرة كيم إدونيزيو، وتأخذ الطابع الملحمي المتداخل مع اليومي بما يمكن تسميته «الملحمية اليومية»، إن صحّت التسمية، في قصيدة «نزهة خلوية مع الموت»، ثم «شرفات بولاق»، ثم «الجنرال يموت مرتين»، ثم قصائد «انفجار في الرأس» عن الشاعر التركي أورهان ولي، و»قناة السويس»، و «زيادةٌ مطردةٌ في الوزن» التي تستكمل السخرية، المميزة لقصيدة نثر ما بعد الحداثة، بأسلوب قرني.
وتجدر الإشارة إلى بلوغ الشاعر في هذا الديوان ما يتمنّى الشعراء الوصول إليه من تثبيت أسماء قصائد لهم في سجل الشعر وذاكرات القراء، مثل القصائد المدهشة التي مرت: «كانت الحياةُ تبدأُ مِنْ هنا/ قبلَ أن ينعقَ فينا الغرابُ/ ليعلّمنا كيف نخفي جثامينَ الأشقّاء/ ثم ننصرفُ إلى الشؤون نفسها،/ ومع ذلك سوفَ نطالعُ ببالغ الدهشة/ أخبارنا في صحف الصباح /: ـــ ممثلٌ كوميديٌ منْ أبناء الشعب/ يبني أربعةَ حوائطَ حولَ عائلته/ حتى لا يعرفَ الفقرُ طريقًا إليها/ ـــ بِنتٌ ، لا زالتْ تعتقدُ بمسألة الشرف،/ قفزَتْ أمام المترو هرباً من الفضيحة /.ـــ متعلمٌ شابٌ يقفزُ في النيل/ لأن مسئولاً رفيعا ذَكَّرَهُ بوضاعةِ أصلهِ /.ـــ متشردٌ يحقنُ البرلمان/ في مؤخرته بالماكستون فورت/ في حارة بشارع لاظوغلي /.ـــ مجلسُ الوزراء يقدم عرضاً/ لربطاتِ عُنقه المعفاةِ من الضرائب/ والمستوردة مع الكبد والقوانص».
تتكامل الملحمية في تجربة قرني، مع ديوانه الثامن «لعنات مشرقية»، الذي تبلغ فيه قصيدة «أنس الوجود مع ورد الأكمام» ذراها في التداخل مع حكايتها في ألف ليلة وليلة، ليروي في هذا التداخل، قصة الشرق والغرب من خلال الثقافة، ويتداخل مع غوته وطاغور كأمثلة، وعوالم الشرق واستيهامات الاستشراق، مع ابتكار حكاياته الخاصة، بـ 45 صفحة، وبتقسيم القصيدة الذي يحافظ عليه إلى مقاطع بأرقام.
ويؤكد قرني خط مشروعه الشعري من خلال تركيزه على الشعر والشعراء في ديوانه التاسع «تفضل، هنا مبغى الشعراء»، الذي يبحر فيه مع الشعر والشعراء مخترقاً الأمكنة والأزمنة، مورداً الحكايات والفلسفات المتداخلة لهم مع قصائده، ومبتكراً حكايات وحوارات تعكس تداخل القصيدة خارج حكاياتهم مثلما فعل بإقامة حوار كيتس مع نيوتن كمثال، ومُثرياً قارئه بتداخل وتفاعل غنيّ مع بوشكين، مالارميه، المعري، امرئ القيس، بشار بن برد، ابن الراوندي، طرفة بن العبد، أبي تمام، في «تفاعلات ومنابذات على أبواب رسالة الغفران»، وتأملات في الشعراء على مقاعدهم في الجحيم.
ويختم قرني مختاراته بما اختار، بعدد أكبر، من ديوانه العاشر الأخير «ترنيمة لأسماء بنت عيسى الدمشقي»، بتداخلات وتفاعلات قصيدته، وابتكاره كالعادة أسماء وحكايات تتداخل مع التراث والأساطير المرتبطة بها. ويمكن للقارئ في هذه المجموعة، ملاحظة بلوغ تجربة «بطل الروايات الناقصة» كما يحمّل قرني نفسه من تشابه وتداخل مع غوستاف فلوبير، مستوى أقرب إلى بلوغ التجربة كمالها، مع الحفاظ على النقصان الذي يبقيها مفتوحة، بمزايا تكامل أسلوب قرني في قصيدة نثره التي تثير فضول القارئ حول قصيدة النثر المعاصرة وأسلوب أحد معلّميها. ÷ذا إلى جانب متعةَ فضّ أسرار تركيبها، والتساؤل عن القصائد التي تظلّ عذراء أبداً، مع عيش متعةِ تفكيك تراكيب جملها الشعرية وتداخلات عناصرها اللغوية، ومتعةِ رؤية خروجها المتألّق بعد انصهارات العناصر على صيغة قرني المبهرة.
وتجدر الإشارة في هذا إلى تسليح قرني لقارئه بما يساعده على التفاعل الخلّاق، سواء بالفهم أو الجدل مع تداخلات عناصر القصيدة، بشمولها للشخصيات والحكايات وارتباطاتها المباشرة وغير المباشرة. وذلك بوضع مفاتيح معرفةٍ أكبر بين يديه من خلال الهوامش الثريّة عن تفاعلات القصائد في نهاية المختارات، وتقديم شروحات ثقافية مستفيضة عمّن تتداخل معه القصائد، واحترام الفن بترك تفسيرات كيفية التداخل وأبعاده للقارئ الذي سيجد فيه ما يضيفه كذلك من تجارب حياته ومفاهيمه:
«أنا بطلُ الروايات الناقصة/ أعني أنني، بالضرورة،/ سيدُ العشاقِ الخائبين/ أنا الذي يَتَنَشَّقُ هُرَاءَ مَجدِه/ ولا يرى سبيلاً لِقلب حبيبته/ فيَدُقُّ صورتَها بإبرةِ الحِجَامة/ على ثَنْيَاتِ بطنِه/ يسلم حذاءه للطير/ وتخْرُجُ شِكَّةُ صَيدِه خاليةَ الوِفاض/ وأنا الرسّام الأرعَن/ اسمي «محمود»/ وصنعتي تربية النظر/ أقرأ «جوستاف فلوبير» كبحَّار مغامر/ وأعتبره مِثْلي/.. غبيًا أنيقًا/ لكنه يَغرَقُ على ما يرام/ أخمّنُ آلام الأشجارِ/ قَبْل الزفرة الأخيرة/ لِفصل الربيع/ وعندما تتساقط الثمراتُ حَوْلَ قدميَّ .. أقول/ : غداً سآكُلُها/.. وفي الغد تكنسها الرياح/ أسعى لِأنْ أتعلّقَ بالعجلات/ التي حَملَتِ الفاتناتِ مِنْ مَسْقطِ رأسهنّ/ إلى مَصَارعِ الخديعة/ أتعلَّقُ بالحبِّ/ وأشعر أن الربَّ جعله مَجرَّته الوحيدة/ ثم دهنَهُ بأحمرِ الشفاه».
محمود قرني: «أبطال الروايات الناقصة»
دار الأدهم، القاهرة 2021
314 صفحة.