بدأ هاني الراهب تجربته مع الرواية من نقطة معلقة، ولم يكن جازما بخياراته، ووضع المفهوم الكلاسيكي للشخصية في خدمة رؤية حديثة في البناء والأسلوب. بمعنى أنه قدم تجربة ذات هم شبابي ووطني مختلف. كانت الرواية تبدأ من مشكلة عامة ثم تتوسع مع الشخصيات، ودائما تكون العلاقة جدلية بين الطرفين، لكن عند هاني الراهب خدمت الشخصيات نفسها فقط، أو عبّرت عن رؤيتها النفسية بكل ما فيها من نقاط ضعف وقوة، وبعيون هذه الشخصيات كنا نلاحظ المشهد العام. وأهم مثال على ذلك أولى أعماله وهي رواية «المهزومون». وفعلا كانت الشخصيات مأزومة، وتقدم صورة عن خرابها الروحي وإفلاسها النفسي. ويمكن القول إنه أول من تعامل مع مفهوم أبطال بلا بطولة. وإذا كانت الرؤية الإيجابية إحدى أدوات التعبئة في الرواية، وبالأخص في فترة الخمسينيات والستينيات، كانت رؤية هاني الراهب تحمل نوعا من الضبابية تجاه كل شيء. فهي شخصيات لا تدرك نفسها، مستلبة أو ضائعة، إنما لديها وعي معرفي بما يجري. وعلى هذا الأساس بنى أيضا شخصيات روايته الثانية والمتميزة «شرخ في تاريخ طويل».
كانت «المهزومون» مجرد تمهيد لثاني أعماله «شرخ»، وقد اشترك العملان بمجموعة من الصفات الموضوعية. أولا كانت الشخصيات من طلاب الجامعة. وثانيا كان الموضوع هو الهم الستيني العام، وأقصد ظلال نكبة 48 على الشباب العربي، والتهيئة لمعركة التحرير. ولكن المفارقة الغريبة أن «المهزومون» هربت من عار الخسارة العسكرية باللجوء إلى القرية، وهناك كانت المعركة تأخذ أبعادها، وتتحول لصراع مع الطبيعة من جهة، ومع العقل البشري من جهة ثانية. بمعنى أن المعركة لم تكن تنتهي بخسارة جسيمة، كما حصل فعلا، ولكنها عادت للأسباب وباشرت بنفيها، حضاريا واجتماعيا. غير أن روايته «شرخ» تنتهي بإدراك مجسم للفاجعة، يرافقها فشل في عدة علاقات غرامية، مع اكتشاف لعدم نزاهة هذه العلاقات، ولوجود خيانة وازدواجية أحيانا، ولذلك لم يجد الراوي مهربا من إراقة دم شخصياته بأبسط وسيلة معروفة وهي الانتحار.
ويمكن أن نضع بدايات هاني الراهب في عداد ما يسمى أدب المدينة الجامعية. ولا أجد أمثلة على هذه الظاهرة إلا في عدد قليل من التجارب، مثل «قالت ضحى» 1985 لبهاء الطاهر، و«أنت منذ اليوم» 1968 لتيسير سبول، ومؤخرا «الجليد» 201» لصنع الله إبراهيم و«الخطايا الشائعة» 2010 لفاتن المر. لكن هذه الأمثلة لم تكن درامية. فالأحداث حملت علامات تجارب أشخاص فقط، حتى أن رواية صنع الله إبراهيم لا تعدو أن تكون قصة شخص واحد يجد نفسه وسط كابوس اقتصاد الندرة في المجتمع الروسي. وتستطيع أن تلاحظ أن الرواية عملت مثل المنشار. فهي تستغل توجيه سهام نقدها للتجربة السوفييتية للكشف عن ضعف وتفاهة الواقع العربي. وتحاول كل الوقت أن تنحى باللائمة على الحضارة وليس السياسة، كما كان يفعل في أعماله المحلية وعلى رأسها «ذات» و«شرف» وقبل ذلك «تلك الرائحة».
لقد كانت هذه الروايات تجريبية، ولديها مشروع لإعارة ترتيب وتدوير مستويات ومحاور كل عمل، فالمقدمة تتطور بالتزامن مع الخاتمة، والأحداث تحاول أن تكشف عن نفسها بصوتها الخاص أو بواقعيتها الفجة.
ويبدو أن تميز الراهب لم يتوقف عند عمر أبطاله، بالإضافة إلى أنهم من الطلاب والشباب، ويعانون من أزمة مقلقة مع الوجود المشكوك بحدوده، والمنقسم على نفسه بين روح المسؤولية ورغبات غير محددة ولا مفهومة، ويسيطر عليها الغموض أو أقله الحياء، رفد الحبكة بتحليل تاريخي لعدة مراحل، ولكن هذا لا يعني أن شخصياته تتطور وتنضج بسرعة إنما هي تتجاور، وهناك دائما شخصيات رديفة في الخلف (الجدة في «المهزومون» مثلا). لقد كان الشباب يحتلون ساحة الأحداث ووراءهم رموز الجيل السابق. وهذا يعني أن الدراما توزعت بالتساوي على بؤر.. ذاكرة مؤجلة للشباب أمام ذاكرة الماضي للكهول والمعمرين. ووجدت هذه الذاكرة أفضل طريقة للتعبير عن نفسها دراميا من خلال تقابل بديل، أو تحويل فرويدي مباشر، وهو صور بيت الطلبة وقاعات الجامعة (مكان حاضن) أمام صور القرية (مكان منفصل). وشكل هذا الاغتراب المكاني جرحا معرفيا زاد من التهاب الرغبات، وبالضرورة من زخم وإيقاع الدراما العسكرية، التي تدور حولها الحبكة بشكل عام. ويمكن قراءة هذه الأعمال على أساس أنها تعبير حضاري عن عقدة أوديب، حيث أن مكان الأب يكون بخلاف مع مكان الابن، أو أن المجتمع البطريكي يتناحر مع الإدراك والمعرفة. لقد أسس الدكتور الراهب ببداياته لرواية الأجيال المكتوبة باللغة العربية، وأضاف أبعادا جديدة لمن سبقه إليها أمثال مطاع صفدي وسهيل إدريس وشكيب الجابري. غير أنه مع تقدمه بالعمر بدأ يتابع شخصيات الكهول فقط. وسرعان ما تخلى أبطاله عن عنفوانهم ودخلوا في مرحلة من اليأس وخيبة الأمل، وأصبحوا يجترون ماضيهم، وغابت الميول العدوانية المليئة بحب الانتقام من الذات ومن الآخر، وحل مكانها شيء يسمى «الخوف» من رهبة الخصاء، أو إدراك موضوع الرهبة. وقد عبر عن هذه المشكلة المزمنة بتصوير موظفين متقاعدين وضباط مطرودين من الخدمة ، وباستعمال مصطلحات كامو: لم تعد لديه شخصيات تفاجئ نفسها. وهذا هو حال روايته المعروفة «ألف ليلة وليلتان». فهي عمل بلا حبكة، وتخنقها المونولوجات البطيئة عن هزيمة 48 ثم 67. وتكرر ذلك أيضا في «الوباء» ثم في «بلد واحد هو العالم». وفي كل هذه السلسلة من الأعمال الضخمة كانت ذاكرة الأحداث تنظر إلى الخلف، لكن بدون أن تعرف كيف تعيش في الماضي، أو أن تلجأ إليه. كان هناك فصام مرضي تسبب للبنية بمشكلة الجسم المفقود. فالإحساس باللحظة لم يكن يتساوى مع الإحساس بالموضع. لكن إذا كانت هذه نقطة سلبية من ناحية الموضوع، فهي أيضا نقطة إيجابية من ناحية الذات، لأنها تترك علامة على طموح فني، أو على تحديث يبدأ من نقطة اختلاف مع حداثة حزام الستينيات.
لقد كانت هذه الروايات تجريبية، ولديها مشروع لإعارة ترتيب وتدوير مستويات ومحاور كل عمل، فالمقدمة تتطور بالتزامن مع الخاتمة، والأحداث تحاول أن تكشف عن نفسها بصوتها الخاص أو بواقعيتها الفجة. وربما من هنا جاءت قصص مجموعته المهمة «جرائم دون كيشوت». وفيها إعادة تعريف لمعنى الأدب التسجيلي. كان هاني الراهب يستعير شخصياته من المدونة، ثم يعيد ترتيب محتوياتها، وسمح لنفسه باستعمال كل أدوات ما بعد الحداثة من ميتا نص، وتعالي صوت الكاتب على صوت الراوي (بطريقة التلقين في المسرح)، وتنشيط الذاكرة بواسطة الإلغاء أو التغييب وهكذا. ومع أن البطولة جماعية فهي لم تكن بطولة جيل، وإنما شريحة تضم كافة الأعمار وتنقل الإحساس باللاجدوى وبعقم الإدراك. ولذلك كانت الشخصيات تذبل ثم تموت، أو تدخل مرحلة احتضار سريري. وبهذه الطريقة تناقصت شخصيات الراهب، وبقيت أمامه نماذج أفراد ختم بهم مشواره مع فن الرواية، وبدأ يكتب عن أزمات أشخاص يمرون بمحنة مع الذات أو بعدم انسجام مع المجتمع، كما هو حال بطلات أهم آخر أعماله ومنها «رسمت خطا في الرمال»، «خضراء الحقول»، «خضراء كالمستنقعات» وغيرها. وفيها رسم صورا مؤسفة لشخصيات تستسلم لواقعها المجحف، وتتكسر عند حدود تجاربها الخاصة، وتستعد للسقوط في حفرة الوجود الخامد أو للتصالح معه..
٭ كاتب سوري
/كانت الرواية تبدأ من مشكلة عامة ثم تتوسع مع الشخصيات، ودائما تكون العلاقة جدلية بين الطرفين، لكن عند هاني الراهب خدمت الشخصيات نفسها فقط، أو عبّرت عن رؤيتها النفسية بكل ما فيها من نقاط ضعف وقوة، وبعيون هذه الشخصيات كنا نلاحظ المشهد العام. وأهم مثال على ذلك أولى أعماله وهي رواية «المهزومون». وفعلا كانت الشخصيات مأزومة، وتقدم صورة عن خرابها الروحي وإفلاسها النفسي. ويمكن القول إنه أول من تعامل مع مفهوم أبطال بلا بطولة/..
ملاحظتان على تقييم الكاتب لرواية هاني الراهب /لا على تقييم الأخير/:
أولا.. النوع الأول يسمى باصطلاحات المنطق /النوع الاستنباطي/ لأنه يبدأ بالشكل العام لكي يستنبط شكل أو أشكال الخاص.. والنوع الثاني /نوع الراهب، بحسب الكاتب/ يسمى على النقيض /النوع الاستقرائي/ لأنه يتبع المسار العكسي في الاستدلال.. يعني هذا أن النوع الثاني ليس تجاوزا ولا تطورا إزاء النوع الأول، ولكن مرحلة أقل تقدما وأكثر “تخلفا” منه.. تماما كما هي حال الاستدلال المنطقي..