أبعد من بيروت

حجم الخط
4

الاحتفال الموسيقي الكبير الذي جرى في مسرح «أريسكو بالاس» في الحمرا، ليلة التاسع من آب/أغسطس 2019، حمل دلالات كبرى تبدأ بالردّ على فضيحة منع عرض «فرقة مشروع ليلى» في مهرجان جبيل، لتصل إلى تقديم إدانة شاملة لآلة القمع الطائفية اللبنانية، التي تدفع بلبنان إلى الهاوية.
منع «حفلة مشروع ليلى» جرى وسط أجواء تهديد، شارك فيها ناشطون في التيار العوني إلى جانب المركز الكاثوليكي للإعلام ومطران جبيل ورهط من طغمة الأكليروس، الذين نجحوا في خلق أجواء مشحونة مرتبطة بهستيريا التفوق العنصري، ومناخ الكراهية المخزي ضد اللاجئين السوريين، الذي أطلقه وزير الخارجية، وقرارات وزير العمل الخرقاء ضد اللاجئين الفلسطينيين.
اللافت أن الطبقة السياسية الحاكمة كشفت عن أظافرها القمعية في مواجهة الثقافة والفن والموسيقى، وأعلنت أنها تتوحد ضد الناس، وضد حقهم في الحياة والتعبير، من دون أن تنسى أن زعاماتها كلها مرهونة باستمرار مناخات الحرب الأهلية النائمة.
السيد جبران باسيل اكتشف أن عليه، كي يصير زعيماً، النفخ في جمر الطائفية، والتلويح بقدرته على استعادة أكثر مشاهد الحرب بشاعة، ما أوصل البلاد إلى انسداد سياسي كامل بعد حادثة قبر شمون. فاستغل العونيون واقع أن زعيمهم انتخب رئيساً بقوة التعطيل، وأنه ليس مديناً لأحد من النواب الذين انتخبوه، دَيْنَه الوحيد هو نحو حزب الله الذي لولاه لما كان التعطيل المديد للانتخابات الرئاسية ممكناً، كي يتابعوا سياسة الابتزاز والتهديد بالخراب.
في هذا الجو المشحون الذي خلق مناخات انهيار اقتصادي حقيقي، بدت الطبقة السياسية غير مبالية بمصير البلاد والعباد، وانصب همّ أحد أجنحتها على خوض معركة غير متكافئة وتفتقر إلى الصدقية مع فرقة موسيقى روك لبنانية، فقاموا بتشويه دلالات الأغاني، ولعبوا على وتر المثلية، وخلقوا مناخات صيد الساحرات والشياطين، كل ذلك من أجل أن يسيطر العونيون على مهرجان جبيل، ويحولوه إلى حفلات زجل.
في معركة «مشروع ليلى»، بدا أن أبو كسم ومن لفّ لفّه قد انتصروا، فتحت ضغط التهديد والوعيد وعزوف الأجهزة الأمنية عن القيام بواجبها في حماية حفلة مهرجان جبيل، أعلنت لجنة المهرجان أُنها أُجبرت على إلغاء الحفل «منعاً لإراقة الدماء». والغريب المستهجن أن الأجهزة الأمنية قامت بالتحقيق مع أفراد فرقة «مشروع ليلى» بينما لم يُلاحق أحد من الذين ملأوا وسائل التواصل بالتهديد والوعيد وصولاً إلى استباحة دم الفنانين.
غير أن هذا الانتصار سرعان ما تبدّد، ففي حفل «الاريسكو بالاس»، احتشد حوالي أربعة آلاف من الشابات والشبان احتفالاً بالموسيقى والحرية، وقدمت أربعون فرقة وفناناً عروضهم.

لبنان الطوائف والمافيات خاض معركة أطرافه الداخلية بنزق وخطاب تحريضي طائفي، كما خاض معركة تزوير كبرى ضد الفن وحريته.

في 9 أب/أغسطس عاشت بيروت عرساً للحرية، وكانت الكلمة الافتتاحية التي ألقاها الممثلان كريم أبو شقرا وندى أبو فرحات، ملخصاً مكثفاً لقضية الحرية، من قضايا اللاجئين ورفض العنصرية إلى قضايا حرية المرأة وحقها في إعطاء الجنسية لأولادها، إلى مسألة حرية الفنان وأولوية الإبداع وصولاً إلى الحرية الفردية.
في احتفال الموسيقى في شارع الحمرا عادت بيروت إلى بيروت، ففي مواجهة لبنان الطائفية والعنصرية والجهل، هناك لبنان حيّ يرفض خطاب الطبقة الحاكمة الحاقد، وممارسات النهب وعقلية المافيا الطائفية، ويعلن أن لبنان الحرب الأهلية الدائمة لم يعد مكاناً صالحاً للعيش.
انهزم دعاة الرقابة والقمع والمنع، وارتفع صوت منع المنع ليكون هو الأعلى، وبدا الفاشيون والطائفيون والعنصريون على حقيقتهم بصفتهم آلة تخويف وترهيب، لم تعد تخيف من قرر أن يدافع عن كرامته وحقوقه.
أما على مستوى أزمة قبر شمون فقد حدث أمر مستغرب، فبعد بيان السفارة الأمريكية المعيب والمخجل، الذي تعامل مع لبنان بصفته جمهورية موز، انحلت المشكلة بصلح عشائري جرى في القصر الجمهوري، وعاد مجلس الوزراء إلى الانعقاد.
فجأة، ابتلع جهابذة الدفاع عن القانون ألسنتهم وتبخّرت التُهم التي فُبركت ضد وليد جنبلاط، وخفت الصراخ، واختفى جبران باسيل من مشهد المصالحة.
ماذا جرى؟
هل هو التهديد الاقتصادي الذي أفهم الجميع أن اللعبة تجاوزت حدودها، وهذا ما أشار إليه البيان الأمريكي، أم هي «حكمة» حزب الله ونبيه بري، التي أفهمت باسيل أنه في لعبته سيوصل النظام بأسره إلى الكارثة، أم هو قرار وليد جنبلاط بردّ سلاح التعطيل إلى أصحابه، عبر إفهام البرتقاليين أن التعطيل الذي أوصل عون إلى الرئاسة بسبب خوف الجميع من الانهيار الشامل سلاح ذو حدين، وأنه سيرتد على أصحابه، وقد يقود إلى انتهاء العهد بكارثة تشبه كوارث حربي «التحرير» و«الإلغاء»، وبذا ينتهي حلم الصهر بأن يرث الرئاسة من والد زوجته؟
هذه العوامل مجتمعة قادت إلى نهاية عبثية لمعركة عبثية، كان هدفها الوحيد هو تسلق الزعامة عبر التطرف الطائفي.
معركتان ولبنانان.
لبنان الطوائف والمافيات خاض معركة أطرافه الداخلية بنزق وخطاب تحريضي طائفي، كما خاض معركة تزوير كبرى ضد الفن وحريته.
ولبنان العلماني الديمقراطي خاض معركة الدفاع عن الحرية عبر تعبير فني راق، ومن خلال إشهار سلاح الموسيقى في مواجهة الجهل والفكر المتزمت والنوايا السيئة.
لبنان الطوائف هزم نفسه بنفسه، فالمعركة حول حادث قبر شمون انتهت بلا شيء، وبإفهام أصحاب الرؤوس الحامية أنهم ينتحرون سياسياً. هذا اللاشيء يدل على العقم وانعدام المسؤولية. والاستنتاج المنطقي الوحيد هو أن لبنان الطائفي والعنصري صار خطراً على وجود لبنان.
أما لبنان العلماني الــديمقراطــي، لبنان الفن والحــرية والشـــباب، فقد نجح في استعادة معنى بيروت، بل أخذ بيروت إلى أبعد من نفسها، ليقول إن الحرية في المشرق العربي، رغم كل شيء، هي الأفق الوحيد للخروج من زمن الانحطاط.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    الخوف هو من انتقال هذه الطائفية البغيضة إلى الإنتقام الدموي كما حصل سنة 1975 !! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول سوري:

    لكل داء دواء يستطب به إلى الحماقة اعيت من يداويها, لا سلاح ضد الجهل والحقد الطائفي والحماقة السياسية سوى الثقافة ولا شيء سوى الثقافة. شكرا استاذ الياس

  3. يقول سنتيك اليونان:

    لبنان هو البلد العربي الوحيد اللذي تتعايش فيه ١٧ طائفة بسلام ولكن وللأسف الأخوة العرب والأخوة في العالم الإسلامي يستغلون لبنان لتصفية حساباتهم
    السعودية تؤيد أهل السنة وإيران وراء حزب الله والأسد مع فرنجية وأرسلان الدرزي وراءه حزب الله يحارب اكثرية الدروز بقيادة جنبلاط وإسرائيل كانت يوما ما تساعد الكتائب
    والجنرال عون حارب سوريا وهو الان حليفها
    اول ما دخلت اسرائيل جنوب لبنان استقبلها الشيعة بالورد والزهور ثم حاربوها
    شيعة نبيه بري حاربت شيعة نصرالله والآن هم حلفاء
    القول ان حرب ١٩٧٥ كانت حرب طائفية تبسيط ساذج للأمور
    المهم ومع كل ذالك يتميز لبنان بجو الانفتاح والحرية ووجود مجتمع مدني علماني فعال

  4. يقول غدير ماهر:

    بيروت ستضل دوماً عاصمة الحرية العربية، وسأنادي كما نادت غادة السمان بلبننة العالم العربي كله، لبنان بلد جميل من جميع النواحي جغرافياً وثقافياً وموسيقاً .. أعيش منذ سنة في بيروت وتنقلت في كافة مناطق لبنان، يؤسفني أن أرى القمامة في شوارع بيروت والمدن الساحلية الجميلة مثل صور وصيدا، ويؤسفني التناحر السياسي الفارغ الذي يقوم به السياسيون. للأسف اللبنانيون جاهزون للحرب ولكن يتنظرون الشعلة التي ستفجرها .. وأرجو ألا يحدث ذلك .. لبنان لا يستحق

إشترك في قائمتنا البريدية