منذ السطور الأولى يعلن محررو كتاب «الشعبوية وأزمة الديمقراطية»، غريغور فيتزي ويورغن ماكيرت وبريان ترنر، وجميعهم أساتذة علوم اجتماع وسياسة في جامعة بوتسدام؛ أنه «ما من خطر يهدد الديمقراطيات الغربية بالمقارنة مع صعود شعبوية اليمين»، وأنه إذا كانت الشعبوية قد لعبت دوراً متزايداً منذ تسعينيات القرن الماضي، فإنّ العواقب الاجتماعية للأزمة المالية العالمية سنة 2008 هي التي منحت التيارات الشعبوية نقلة أسفرت عن «بريكست» في بريطانيا، وانتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة.
وهذا الكتاب، الذي صدر مؤخراً عن منشورات روتلدج في لندن ونيويورك، يقتصر في جزئه الأوّل على تحديد المفاهيم وتصويب مدلولاتها، على نحو بالغ الصرامة في الواقع؛ إذْ أنّ أولى الأسئلة في هذا المضمار ذاك الذي يتساءل ببساطة: هل ثمة شيء اسمه الشعبوية بالفعل، وما كنهه على وجه التحديد. أسئلة أخرى، يتناولها باحثون متخصصون، تستكشف إشكاليات تعريف الشعبوية، وصلاتها المباشرة وغير المباشرة بالسياسة، والمقاربات النظرية في موازاة الاستقصاءات العملية والتطبيقية، والبُعد الانتخابي في نشوء أو ثبات أو صعود الشعبوية، والروابط الإيديولوجية التي تجمع، وأحياناً تفرّق، مختلف التيارات الشعبوية، ثمّ أقنية الاتفاق والاختلاف مع مدارس اليمين التقليدية في قلب الديمقراطيات الغربية.
والحال أنه ما كان للكتاب أن يصدر في توقيت أكثر ملاءمة من هذه الأيام، الآن إذْ أطلق الرئيس الأمريكي حملة ترشيحه لولاية رئاسية ثانية؛ وانتهت مآزق الـ»بريكست» بالمحافظين البريطانيين إلى خشبة إنقاذ بائسة اسمها بوريس جونسون، الكاذب والمخادع وشبه المهرّج. كذلك فإنّ نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة أتت بنتائج للتيارات الشعبوية، وضمنها فئات اليمين المتطرف والعنصري، ليست مسبوقة بهذه المعدّلات في التصويت واتساع الرقعة الجغرافية. غير أنّ هذه كلها ليست سوى علائم السطح وحده، لأنّ السويّة الأخطر للظاهرة الشعبوية/ اليمينية المتطرفة إنما تكمن في مكوّنات الباطن العميق الاجتماعي ــ الاقتصادي والسياسي، غير المنفصل عن قرائنه التاريخية والثقافية أيضاً.
يتوجب، بادئ ذي بدء، تسجيل نقطة خلاف مبدئية مع خلاصة الكتاب التي تعزو انتخاب ترامب والـ»بريكست» إلى صعود الشعبوية؛ إذْ أنّ ترامب، حتى إذا لاح بالفعل أنه نموذج صارخ وفاضح للشعبوية المعاصرة، ليس أوّل الشعبويين في لائحة رؤساء أمريكا، والمنطق البسيط يتيح القول بأنه قد لا يكون الأخير. ألم يكن انتخاب جورج بوش الابن، في دورتين رئاسيتين وليس واحدة فقط، بمثابة تجسيد صريح لطراز من الشعبوية الأمريكية، عنوانه فقدان الاقتراع الشعبي في الرئاسة الأولى، وحيازتها بالضربة القاضية وبفارق أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون صوت في الرئاسة الثانية؟ ألم يُدخل أمريكا في حرب خارجية بذرائع كاذبة، فاحتلّ العراق تحت لواء «حملة صليبية» وبهدي من محافظين جدد عتاة وصقور زرعوا بذور الشعبوية وأتاحوا حصادها في سجن «أبو غريب» ومعتقل غوانتانامو؛ كلّ هذا قبل أن تُفتضح أكذوبة أسلحة الدمار الشامل؟
السؤال يضرب بجذوره في أعماق التأزّم الرأسمالي الراهن بين أقطاب اقتصاد السوق أنفسهم، وعلى صعيد مؤسسات مالية كبرى مثل صندوق النقد أو البنك الدولي، أسوة بمؤسسات عسكرية عليا مثل الحلف الأطلسي
وعلى الضفة الأخرى من المحيط، في بريطانيا، ألم يكن رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، شريك بوش في الحملة الصليبية إياها، وفي صناعة الأكاذيب والنفاق الشعبوي؛ هو السابق الذي كان من الطبيعي أن يعبّد الطريق أمام اللاحق، بوريس جونسون، رغم انتمائهما إلى قطبَيْ التنافس التقليديين في الحياة السياسية والحزبية البريطانية؟ في عبارة أخرى، أيّ فارق جوهري بين اشتغال أمثال جونسون، اليوم، على الرهاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، ودغدغة المشاعر القوموية، وتغذية حسّ الانغلاق خلف المانش والمحيط؛ وبين انضمام بلير إلى فريق الحرب الأمريكي، بصفة تابع عملياً، وتأجيج الأحقاد الإمبراطورية القديمة، واستنهاض «القِيَم» الأنغلو ــ سكسونية ضدّ شعب لم تكن مصادفة محضة أنه مستعمرة بريطانية سابقة، وليس البتة ضدّ نظام أياً كانت خطاياه؟
طريف مع هذا، ولافت جدير بالتأمل، أنّ السجالات النظرية والأكاديمية حول المعضلات التي تجابهها الديمقراطيات الغربية اليوم، لم تعد تستسهل الاستناد على «الثوابت» التي قيل إنها ولدت مع انهيار جدار برلين؛ سواء تلك التي جزمت بانتهاء التاريخ، على غرار ما فعل فرنسيس فوكوياما؛ أو تلك التي تحيل سرديات الصراع الكوني الكبرى إلى صدام الحضارات، كما بشّر صمويل هنتنغتون؛ أو مدارس اختزال الصراعات الاجتماعية، على مستويات محلية أو كونية، إلى ثنائيات بائسة وكسيحة بين ليبرالية كلاسيكية وأخرى جديدة، أو اقتصاد سوق واقتصاد دولة. السجالات اليوم، وتشخيص الأخطار الكبرى ضدّ الديمقراطيات الغربية، يدور حول أمثال ترامب في أمريكا، ونايجل فراج في بريطانيا، ومارين لوبين في فرنسا، وفكتور أوربان في هنغاريا، وماتيو سالفيني في إيطاليا.
نحن، إذن، على مبعدة من تلك الأحقاب التي شهدت التبجيل الغنائي للنظام الرأسمالي بعد تفكيك نظام القطبين وانتصار المزيج السياسي والاقتصادي والعسكري الذي تكاتف في صنعه رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر، ثمّ حيازة الرمز الأيقوني الأعظم بسقوط جدار برلين وقَرْع أجراس انتصار الرأسمالية الختامي.
يومذاك قيل لنا، بل فُرض علينا، التسليم بأنّ الاختراع الغربي للرأسمالية ـ وكذلك للعلم والأنوار والديمقراطية الليبرالية… ـ يتقدّم حثيثاً لاجتياح العالم القديم والعالم الحديث في آن معاً، ما قبل الحرب الباردة وما بعدها، ما قبل الحداثة وما بعدها، ما قبل التاريخ وما بعده؛ خالياً تماماً، ومعافى، من أمراض القومية والانعزال والقيود، بعد أوبئة الشيوعية والنازية والفاشية. فماذا عن الشعبوية؟ السؤال ذاته لم يُطرح بصيغة الحذر أو التخوّف، فما بالك بالإنذار والخطر، كما يحدث اليوم؛ في أربع رياح الديمقراطيات الغربية.
غير أنّ الاعتلال الشعبوي، كي لا يتحدث المرء عن وباء يستشري وينتشر ويستوطن، لا يقتصر على تيار شعبوي بالقياس إلى خصومه على الضفاف الأخرى، يمينية كانت أم يسارية أم في الوسط؛ بل هو يتصارع داخلياً أيضاً، ويتفكك في سيرورة الصراع ذاتها، ويفرز بالضرورة شعبوية أقلّ أو أكثر، وتطرفاً «معتدلاً» أو أقصى، وتكاملاً في هذا كلّه أو تنافراً. خذوا «الجبهة الوطنية» في فرنسا على سبيل المثال، التي أنشأها جان ــ ماري لوبين في سنة 1972، ثمّ انقسمت على يد برونو ميغريه في سنة 1998، وأطاحت بالمؤسس على يد ابنته مارين في سنة 2011 وهي التي تقود الحركة اليوم تحت اسم «التجمع الوطني»؛ ليس من دون انشقاق آخر يتزعمه فلوريان فيليبو الناطق باسم الحزب، و«حرد» أشبه بالانشقاق تقوده ماريون ماريشال حفيدة المؤسس وأوّل نائبة للحزب. كلّ هذا التاريخ الانقسامي دار حول أفضل التكتيكات، وليس الستراتيجيات، لاكتساب شعبوية أكثر ضمن سقوف الثوابت التي لا تنازل عنها.
وهكذا فإنّ سؤال الشعبوية يضرب بجذوره في أعماق التأزّم الرأسمالي الراهن، بين أقطاب اقتصاد السوق أنفسهم، وعلى صعيد مؤسسات مالية كبرى مثل صندوق النقد أو البنك الدولي، أسوة بمؤسسات عسكرية عليا مثل الحلف الأطلسي، بحيث يبدو المشهد وكأنه ينسف تماماً صورة الظفر التي شاعت مطلع تسعينيات القرن المنصرم. على العكس، تبدو المشاهد أقرب إلى استعادة طبق الأصل لكلّ أحقاب الـ «ما قبل» في السرديات الكبرى للحضارة الغربية؛ ابتداءً من اليونان القديم، ومنافستها روما القديمة، مروراً برحلة كريستوفر كولومبوس وعصر الأنوار والحداثة، وصولاً إلى أورلاندو ـ فلوريا: حيث تُبّح الحناجر في الهتاف بحياة كبير الشعبويين: دونالد ترامب.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
[وهكذا فإنّ سؤال الشعبوية يضرب بجذوره في أعماق التأزّم الرأسمالي الراهن، بين أقطاب اقتصاد السوق أنفسهم]…
عرض مفيد وشيق لما كُتب عن الشعبوية على المستوى الأكاديمي موخرا… وأسلوب أبي صُبَيْح بدأ يتألق أدبيا بالفعل… !!!
الشعبوية (لا أدري إن كانت هذه هي الترجمة الدقيقة للمصطلح Populism بالإنكليزية) غير قابلة للتعريف الثابت في واقع الأمر لأنها كالأميبا بأرجلها الكاذبة تتخذ أشكالا متعددة ومختلفة وغالبا ما تكون متناقضة فيما بينها… لكنها تظهر على السطح وتسطع ببريقها «الودي» إلى أبعد الحدود سطوعا يخفي أو يموّه سوادا عدائيا إلى أبعد الحدود كذلك، حينما تصل أزمة الرأسمالية إلى ذروتها على كافة المستويات الكمية والكيفية – وقد وصلت بالفعل إلى هذه الذروة في الآونة الأخير في شكل الرأسمالية الجديد المسمى بـ«الليبرالية الجديدة»… وهنا لا بد من الإشارة إلى حقيقة أن لينين نفسه كان من أوائل المنظرين الماركسيين الذين أشاروا إلى هذه العلاقة الوطيدة بين «سطوع» الشعبوية بهذا المعنى وبين تأزم الرأسمالية أيا كان شكلها، في مقاله شبه المغمور «من هم أصدقاء الشعب؟» الذي يعود تاريخه بنسخته الأصلية إلى العام 1893… !!!