أبناء الماء والنار والغياب

حين ترتفع الشمس ناصعةً أيام الشتاء المعتدلة، ثم تدب أشعتها الدافئة، تدريجياً، في ثنايا الهواء البارد. تكشف بيوتنا البسيطة عن أكثر أجزائها دفئاً. وهي الجدران التي تواجه الشمس، لكنها لا تواجه حركة الريح. وكأنها منطقة يتجمع فيها الدفء. ويسمى هذا المكان عادة: «الكوْسَرْ». هناك، في ذلك المكان، غالباً، ما يجمعنا الوالد في أيام الشتاء تلك.
كان أباً حنوناً وصارماً في الوقت ذاته. جمعتنا البداية ذاتها: تعلم معظمنا القراءة والكتابة على يديه، ثم اختلفت مصائر كل منا ذهنياً ونفسياً واجتماعياً. كان شقيقنا الأكبر أقربنا إلى التمرد على أوامر الحفظ والتلقين. لذلك كانت القبيلة، لاحقاً، ثم الانتماء الحزبي قد أخذاه بعيداً حتى عن ذاته. كنت أسرع من أشقائي إفصاحاً عن ميولٍ أدبيةٍ، واضحةٍ إلى حد ما، استحوذت على مسارات حياتي جميعاً بداية ومصيراً.
وكان التأمل والقراءات الدينية أكثر اهتمات شقيقي الأصغر في الحياة والموت أيضاً. أما أخونا من زوجة أبي الثانية فلم يتعلم القراءة جيداً بسبب حنوّ والدته عليه حنواً مبالغاً فيه أحياناً. كانت لا تتردد في أخذه من بيننا لتحرره من قسوة الدرس ومتطلباته. وهكذا لم نكن متشابهين، نحن الأخوة، تشابهاً عميقاً، في شيء أساسي، إلا في كوننا من أب واحد، ومن أمّيّن اثنتين تقيم إحداهما في بيت، بعيداً عنا قريباً من اخوتها، مع ما بينهما من علاقة طيبة يشهد بها الجميع. غير أننا اختلفنا في مآلاتنا إلى حدود بعيدة: كنا أبناء الماء بامتياز، وكنا لاحقاً هدفاً للنار، حين التهمت بعضاً منا. وفي النهايات، كنا أبناء الغياب، الذي لا شمل مجتمعاً بعده.

٭ ٭ ٭

كان من أجمل المشتركات بيننا، وأكثرها حزناً ربما، أن لنا اختاً واحدة ووحيدة. كبرت بيننا، وتقاسمنا محبتها، وطالما أسرتنا، كما أسرت كل من حولها، ببراءتها وما تتحلى به من بياض وأمومة، حتى قبل أن تغدو زوجة، أو أماً ورغم حياتها التي لم تكن راضية بها تمام الرضا. التحقت بنا في بغداد مع أسرتها، وسكنت على مقربة منا. وذات يومٍ، أو ذات كآبةٍ ربما، اختارت أن ترحل عنا بطريقتها الخاصة، تاركة فيّ أثراً لم يكن محوه يسيراً، ولن يكون :
أذهلتنـا طـريقتُهـا
في الغيـابْ :
لـم تودّعْ أخـاً..
لـم تودّعْ حبيبـاً، أوابنـاً..
وما فتحتْ للمغيـثينَ بـابْ..
أخذتها النار منا في ضحى يوم لا أنساه. كنت في السنة الثالثة من المرحلة المتوسطة. حين علمت بما حدث، بعد أن عدت إلى البيت ذات ظهيرة، كانت أيامي قد بدأت تخلو من تلك الأخت المباركة. وقبل أن أفتح باب غرفتها في المستشفى داهمتني رائحة شديدة النقاء والقسوة، لحمٌ بشريٌّ محروقٌ ما زال ينزُّ دماً، وكانت فردة الباب الموارب مشدودة إلى أول كلمة في همهمة مقبلة، كانت بداية قصيدة تتخبط في نقيع من الدم واللحم المشوي. وظلت رائحة تلك الفجيعة تتصاعد من روحي، كلما تذكرت حادثة الموت تلك. نشرت القصيدة، بعد ذلك، في مجلة «الأديب» البيروتية في أحد أعدادها الصادرة في أوائل الستينيات.
وكثيراً ما يحضر، في ذهني، حديث باشلار المدهش عن النار وقدرتها التطهيرية. بعد أن تأتي على كل شيء تقوم بحرقه، وتنحيته عن الوجود. غير أنني حين أمسك بالخيط الرابط بين ما فعلته النار، تلك اللحظة، في أيام ذلك الصبيّ الذي كنته، فإنني أغرق في استرجاع تلك الحادثة المرعبة ثانية. لا بد أن النار ذاتها صارت أكثر نقاءً وأشد نبلاً، حين تحررت من بُعدها الشرّير والجهنّمي، بعد أن لامستْ جسداً بتلك الطهرانية وروحاً بذلك البهاء الجليل..
يتكرر أمامي هذا المشهد مراتٍ ومرات. فيعودني ما مضى بلهبٍ أشدّ، ورائحةٍ أكثر مرارة: أزيح الكلمة الأولى من القصيدة ذاتها، فأدخل إلى النصّ كاملاً. تهبّ عليّ ذاتُ الرائحة. ذاتُ اللحظة، بل الحدثُ ذاته، بعد كل تلك السنوات الطوال:
حضنتْ نارهـا فجـأةً
ومضتْ تأكلُ اللهبَ المرَّ
حتى رأتْ بعضَ أحشائها في الإنـاءْ..
أمَةُ اللهِ تلكَ، تشــدُّ إلى قـدميها البراري
وتمضي إلى حتفها حــرّةً
كالهـواءْ..

٭ ٭ ٭

وقفت أمام الموت الثاني، وقفةً هي مزيج من حيرة وخوف كانا ينموان مع كل يوم. لم يكن هناك موتٌ فعليّ، لكنه موتٌ من نمط مختلف. مع وقف التنفيذ. إن جاز لي قول ذلك، وكان بطله أو ضحيته، لا فرق، شقيقي الأصغر. كان يصغرني بسنوات ثلاث أو أقل من. لكنه يكبرني بموتين أو أكثر. فارقني منذ نهاية الدراسة الإعدادية. بعد أن خلط قراءاته الدينية ببعض من التراث الأدبي، ومازج بين نسيج الجغرافيا كما يمازج لاعب الشطرنج بين مكونات اللعبة، لا عن دهاءٍ ولا عن سوءٍ في الطوية، بل عما فيه من زهد الدرويش، أو هشاشة المبتدئ في المران على الغياب الطويل. من بغداد، كركوك، السليمانية، إلى مانهايم في المانيا، ثم يضيق الحبل ويتسع الصمت بين مجاهيل لا بدايات لها ولا خواتيم. كان يأخذه غياب الخائف، أو المحتاط، أو مستبق الوقائع، ثم يظهر ثانية بعد أن تجود علينا به يد الدولة. كان يثير ريبتها بسهولة. حين يسول له حسن النية أن يضع نفسه موضع الشبهات. كان بيننا من الشبه قدر ما بيننا من التباين، والإمعان في الشتات. نتوق إلى اللقيا ونعرض عنها بدافع قدر عارض أو صدفة حمقاء:
كم انكسرنا..
كم تأبّطنا عصا الأخطاءِ دونَ رحمةٍ..
فأيّنا احتاطَ لمحنةِ الغيابِ؟
أيّنا انتبهْ؟
كم كانَ فـظـاًّ بيننا الشَّــبَهْ!
وقبل أن أغادر إلى صنعاء بعد حرب الكويت عام 1991، غاب غيبته الكبرى، كما يقال في السرديات الدينية ذائعة الصيت. أكثر من ثلاثين عاماً. وبعد أن تهدّمت البلاد على أهلها، وعمّت الفتنة، ودفن تحت الأرض كثير من البشر، وكثيرون منهم خرج من باطنها، ذهب الكثيرون يطالبون بعظام موتاهـم. وبحث كلكامش عن عظام أخيه الصغير فلم يجدها بين الموتى ولم يجدها بين الأحياء، فعاد يحمل صُرّته خاوية.
في عام 2014 تحديداً، مجرة صغيرة من ضوء لا يصدقه أحد، تنفجر فجأة في أرجاء روحي. شقيقي يظهر على الأرض ثانية بعد موته الطويل، باحثاً عما بقي من وطنه، وعمن ظلّ من أهله وأصدقائه. يحاول لملمة ما تطاير من كيانه بفعل الخديعة. كان صوته يرجعني إلى طفولتنا المشتركة، لكنّه، مع ذلك، يوقظ فيَّ عتباً مُرّاً كان يأكل من صبري ومن لغتي طوال سنوات الصمت :
عشـرينَ قرنـاً أغنّي في العــراءِ..
ألـمْ يصلْكَ من لغـتي بعـضُ الـرذاذِ؟
أما رأيتَ في النـومِ طـيراً ذابلاً؟
بلــداً لا زرعَ فيـهِ؟
بقايـا صاحبٍ ثمـلٍ
يبكي على كلّ قـبرٍ يلتـقـيه؟

٭ ٭ ٭

كانت أزمنة الغياب وأمكنته تتجمع، وتشف، وتضيق، وتختصر وتذهب إلى ما يشبه العدم. ثم تتركز أحاديثنا كلها، بعد ذلك، على زمن بذاته: موعد وصوله إلى الإمارات، حيث أقيـم. كنت أحس، أن وراء صوته الشاحب، خيبة أمل تمتد مثل قافلة طويلة. خيبة بمن خذلوه وبمن عاد من أجلهم. كان يرى أمامه من اختطفوه من أيامه بالأمس، ومن باعوه الكثير من الأوهام التي ظنها، يوما ما، بديلاً عن وطنٍ أرضيّ، بكل أنهاره وسماواته ومواهبه. كان يراهم، وهو الزاهد، البريء، المغلوب على أمره، ينتشرون في كل مكان، يتاجرون، حتى اليوم، بالأوهام ذاتها، باسم الدين، ويكذبون على السماء في كل لحظة. وبينما كنت أتلفت حولي. كان شيءٌ من الندم على سجادة صلاته، وكان ثمة سجدة لم يكملها. ليس لي، إذن، إلا أن أبكيه، مرة أخرى، بكاء النساء الندابات.

شاعر عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ريام الكنعاني:

    دائما متألق أيها الشاعر الألق، في نثرك الجاحظ وفي شعرك صفي الدين الحلي.في غربتك حضور.وفي حضورك سطوع.

    1. يقول ميساء:

      فعلا والله

إشترك في قائمتنا البريدية