أبو الخصيب العراقية مدينة السياب وعاصمة ثورة الزنج

صادق الطائي
حجم الخط
0

مدينة أبو الخصيب أحدى مدن جنوب العراق التاريخية، وهي اليوم مركز قضاء تابع إداريا لمحافظة البصرة. تقع أبو الخصيب على ضفة شط العرب اليمنى، وتبعد عن مركز محافظة البصرة حوالي 20 كم، تكثر فيها بساتين النخيل وهي عامرة بأنواع الأشجار المثمرة. ويقع مركز قضاء أبو الخصيب جنوب مدينة البصرة، يحده شمالا نهر الخورة وجنوبا حدود قضاء الفاو وغربا شط البصرة وشرقا نهر شط العرب، ويعتبر من أقرب الأقضية من الناحية الجغرافية إلى مركز محافظة البصرة، فلا تفصله عن مركز المحافظة أراضِ صحراوية شاسعة كما هو حال قضاء الفاو أو قضاء الزبير، ولا تفصله مساحة مائية واسعة كما هو الحال في قضاء شط العرب، ولا تبعده مسافات طويلة كما هو الحال في قضاء القرنة، إذ لا يفصل قضاء أبو الخصيب عن مركز محافظة البصرة سوى نهر صغير هو الخورة.

وترتبط المدينة بمركز المحافظة بطريق سياحي جميل تحف به بساتين النخيل الكثيفة، وتقطعه الأنهار التي تسقي مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الممتدة على جانبي الطريق، إذ تتزود هذه الأنهار بالمياه من شط العرب وتمتد حتى طريق البصرة – الفاو. تبلغ مساحة المدينة 298كم مربع، وعدد سكانها 500 ألف نسمة تقريبا. ومن مناطقها ونواحيها أبو مغيرة، والسراجي، ومهيجران، وحمدان، ومحيلة، والصنكر، ونهرخوز، وجيكور وناحية السيبة.

التركيبة السكانية للمدينة تتكون في الأصل من عوائل تتحدر من أصول عربية ضاربة في القدم، إذ هاجر أجدادهم من شبه الجزيرة العربية واستقروا فيها مع تمصير البصرة إبان الفتح الإسلامي للعراق وتوسعاتها التاريخية اللاحقة، ثم شهدت المدينة التي اشتهرت بصناعة التمور وكبسها وتجارتها، هجرة العديد من قبائل محافظات المدن القريبة كالعمارة والناصرية واستقرارهم فيها، كذلك اجتذبت المدينة الثرية بحياتها الاقتصادية الزراعية والصناعية عددا من قبائل الأحواز العربية التي استقرت فيها وباتت من سكانها.

أصل التسمية

 

يذكر مؤرخ مدينة أبو الخصيب الاستاذ ياسين صالح العبود في كتابه “أبو الخصيب في ماضيها القريب” أن أصل تسمية المدينة يعود إلى وقائع تاريخية من العصر العباسي الأول، إذ سميت بهذا الاسم نسبة إلى أبو الخصيب مرزوق، مولى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي أرسله إلى المنطقة عام 140 ھ، وقد أقطعه هذه المقاطعة لإعمارها وتطويرها وكذلك لتأمينها وحمايتها من غزوات الأعداء. ولما أستقر أبو الخصيب في المنطقة توجة إلى إصلاحها فقام بحفر نهر فيها لإيصال المياه إلى المناطق الأخرى لتطوير الزراعة فيها وسمي النهر الذي حفرة بأسمه “نهر أبو الخصيب” .

وبعد أن أكتمل حفر النهر بنى جسرا عليه لربط ضفتي النهر كما بنى له قصرا ضخما على الضفة اليسرى من النهر، ثم معسكرا كبيرا لجيشه وبيوتا لجنده، وقد بنيت بعد ذلك جسور عديدة على هذا النهر بعد أن توسعت المنطقة. وكانت تلك الجسور تبنى من الصخور، وهي ضخمة البنيان ومنها جسور عسكرية شيد على جانبيها بناء يشبه القلعة للدفاع عنها، وبمرور الزمن تناثرت البيوت وتوسعت المنطقة ثم صار اسم أبو الخصيب يطلق على المنطقة الممتدة من نهر أبو الفلوس حتى نهر الخورة.

كما ربط بعض من كتبوا عن المدينة بين اسمها وبين خصوبة تربتها، فهي وافرة المياه معتدلة الجو ثرية بمختلف بساتين النخيل والفاكهة، وقد تحولت نتيجة ذلك إلى ضاحية للترفيه بالنسبة للعوائل البصرية الثرية التي تملكت فيها الأراضي والبساتين. ويذكر المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه “العراق قديما وحديثا” الصادر عام 1958 أن المدينة؛ “تخترق أراضيها جداول كثيرة، وهي عبارة عن غابة من النخيل تمتد على الضفة اليمنى من نهر شط العرب إلى مسافة بعيدة، ولما كان معظم البصريين الأثرياء من أصحاب المقاطعات الكبيرة في هذا القضاء، فقد شيدوا لهم قصورا بديعة، وبنوا لآلهم وذويهم مساكن جليلة، وأبنية مزخرفة بديعة يطل بعضها على الشط المذكور، فيخيل للناظر إليها أنها جنة من جنان الدنيا وحديقة من حدائقها الغناء”. ويمكننا الإشارة إلى أبرز قصور المدينة كقصر الحاج محمود باشا العبد الواحد، وقصر الحاج غانم الهارون في باب سليمان، وقصر الحاج نعمة في قرية يوسفان، وقصور السيد طالب النقيب في السبيليات، وقصر السباع لصاحبه آغا جعفر في السراجي، وقصر الزهير في محولة الزهير.

كما تشير بعض المصادر التاريخية إلى أصل آخر لاسم المدينة، إذ بعث الخليفة العباسي هارون الرشيد (170 ھ -193ھ) أحد رجاله وأسمه أبو الغصيب، إلى المنطقة ليكون عاملا عليها، وقد بنى للخليفة الرشيد في المدينة قصرا ضخما على ضفة شط العرب بالقرب من التقاء نهر أبو الخصيب بشط العرب في منطقة تسمى البريم، وكان الخليفة الرشيد يقيم في هذا القصر أثناء زيارته للبصرة، وتوجد بعض أطلال وبقايا هذا القصر في المدينة. ويذكر بعض المؤرخين أن أبو الغصيب حاول تغيير اسم المدينة لتتسمى باسمه، وقد استطاع أن يفعل ذلك لمدة وجيزة، إلا أن المدينة عادت إلى أسمها الأصلي مرة أخرى واستمرت تحمله حتى يومنا.

قرية جيكور ومدينة المختارة

من منا لم يسمع بقرية جيكور ونهرها بويب التي وردت في قصائد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب؟ هذه القرية هي إحدى قرى مدينة أبو الخصيب، ويذكر الاستاذ ياسين صالح العبود في كتابه عن تاريخ المدينة أن؛ “كلمة جيكور ذات أصل فارسي، وتعني الرجل الأعمى، وربما كان يسكن القرية في زمن مضى رجل أعمى ولكنه صاحب نفوذ في المنطقة لهذا سميت القرية بهذا الاسم” لكن بعض الباحثين يشيرون إلى إن أصل كلمة جيكور هو “جوى كور” الفارسية التي تعني النهر الأعمى، وربما يكون المقصود بالنهر الأعمى هو بويب الذي يسقي بساتين قرية جيكور. كذلك نجد في إشارات عدد ممن كتبوا عن البصرة وأبو الخصيب، أن عائلة السياب قد سكنت في المدينة وامتلكت البساتين فيها، وما يزال منزل جد السياب الذي بني مطلع القرن التاسع عشر والذي اشتهر بالتسمية التي أطلقها عليه بدر شاكر السياب “منزل الأقنان” موجودا في قرية جيكور، وقد تحول مؤخرا إلى متحف للشاعر، وهو اليوم شاهد على تاريخ عائلة السياب في هذه المدينة.

كما ارتبط اسم أبو الخصيب بثورة الزنج التي اندلعت في العصر العباسي الوسيط، والتي استمرت حوالي خمس عشرة سنة، وهي تعد من أعنف حركات التمرد التي واجهت الدولة العباسية، فقد سيطر المتمردون على أغلب مناطق جنوب العراق، بل باتت الحركة في أوجها تهدد عاصمة الخلافة بغداد نفسها. وقد ارتبطت مدينة أبو الخصيب بقائد الثورة علي بن محمد، الذي أطلق عليه المؤرخون لقب صاحب الزنج الذي بنى عاصمته “المختارة” في أبو الخصيب وتقع بالقرب من قرية جيكور الحالية وتحديدا في المثلث المحصور بين نهر أبو الخصيب وشط العرب ونهر أبو الفلوس.

ويصف مدينة المختارة المؤرخ العراقي د. صالح احمد العلي في كتابه “خطط البصرة ومنطقتها” وهي دراسة في أحوال البصرة العمرانیة والمالیة في العهود الإسلامیة الأولی، إذ ينقل عن تاريخ الطبري فيما ذكره عن عاصمة صاحب الزنج فيقول؛ “غير أن أبرز ما في الجانب الغربي الذي تحول إليه صاحب الزنج واتخذ مقره فيه، هو مدينته التي أسسها وقد سماها المختارة، وكانت في منعتها وحصانتها بالسور والخنادق المحيطة بها، وما عور من الطرق المؤدية إليها وأعد من المجانيق والعرادات والقسي الناووكية وسائر الآلات على سورها ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان. وقد اتخذ صاحب الزنج بابا انتزعه من حصن آروخ بالبصرة، وكانت لداره مسناة ويمتد سورها إلى نهر منكي ونهر ابن سمعان، ونهر جوى كور (ربما هذه أصل تسمية قرية جيكور) والنهر الغربي، وبالقرب من قصره بني دار ابنه انكلاي، وبقربه يقع الميدان.

كما يذكر د.فيصل السامر في دراسته الرائدة “ثورة الزنج”؛ “إن صاحب الزنج هو اللقب الذي أطلقه المؤرخون على علي بن محمد، الذي ظهر في فرات البصرة سنة 255 هـ، فقاد الزنج في ثورتهم الكبرى التي دامت نحوا من أربع عشرة سنة (255هـ – 270 هـ) وفي الكلام على نسب علي بن محمد يلاقي الباحث صعوبات جمة، فهناك من يزعم أنه فارسي بل ويؤكد على فارسيته، وهناك من يرد نسبه إلى أصل عربي، على حين نجد فريقا آخر يسكت عن نسبه فلا يثبت هذا أو ذاك”. لكن تنبئنا بعض كتب التاريخ بأن الرجل أدعى أصلا علويا، وأنه قاد جموع الزنوج المجلوبين من شرق أفريقيا للعمل في ظروف غير إنسانية في كشط السباخ واستصلاح الأراضي البور في بطائح البصرة، وأنه وعدهم بالحرية والمكانة الإنسانية عند انتصار ثورتهم وإقامة دولة العدل التي كان يدعوا لها، إلا أن الخليفة المعتمد بالله العباسي كلف أخاه الموفق بقيادة جيش لقتال صاحب الزنج، فتوجه من بغداد إلى واسط سنة 267 ھ، فهزمهم الموفق وأسر عددا كبيرا منهم واستطاع إخراجهم من واسط ، كما تمكن من إجلائهم عن مدينة الأحواز التي كانت تحت سيطرتهم، ثم حاصر عاصمتهم المختارة وتمكن من الاستيلاء على الجزء الغربي منها، وبعد حصار شديد بدأ بعض قادة جيش صاحب الزنج بالانضمام إلى الموفق، وعندها انهارت الحركة وتمكن الموفق من قتل صاحب الزنج والاستيلاء على عاصمته المختارة التي دمرت تدميرا تاما لم يبق منها أثر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية