‘كتبت إثر استشهاد والدي بطائرات الأسد’ أبي…طالما فخرت بحملي اسمك على هويتي. عاش أبي مثالاً لذاك السوري الذي يحرق عمره، ليجعل من حياته شمعةً تنير درب أبنائه. عظيماً كالفرات يفيض حبّاً وحناناً، في يدي أبي تاريخ وطني، وتلك التجاعيد في جبينه تحكي تفاصيل حكاية وطني المتعب. لم يكن أبي غضوباً أو حقوداً، لم يعرف اليأس أو الملل. دؤوباً في عمله متفانياً في بناء أسرته الصغيرة. كثيراً ما كان أبي يُسعد الآخرين بطرفةٍ وحديثٍ يزيد من حلاوة روحه، التي كان يخفي وراءها تعب السنين. عاندته الحياة كثيراً… فعاندها وبقي مصمماً على بناء أسرته بعرق جبينه، مؤثراً على نفسه في سبيل غيره. أفنت الظروف جسد أبي… فلم تفنِ حلاوة روحه تلك السنون . كان أبي صخرة صلدة في الملمات، يبحر في لُجّة الأمواج العارمة…تنوء الجبال وتشتكي من ثقل حمله، ولكنه مبتسمٌ على الدوام. كم كان أبي عظيماً.. ولو نقص أحد فراخه على مائدة الطعام، لا يشعر براحة ولا يقوى على هضم زاده، يكابر على نفسه ولا يشتكي. وطالما لبس الأسمال بتواضع الكبار كي يفرح بلباس أولاده في العيد. وإذا نجح أحدنا في امتحانٍ تراه لا يعطي فرحته لأحد، تتراقص جوارحه فرحاً وطرباً، ليرى نجاحه فينا، ويستعيد شبابه الفاني بنا. ومع زقزقة أوّل عصفورٍ في كلّ صباح أرتشف قهوتي وإيّاه، أجاذبه أطراف الكلام.. أشعر بطعم الفرح وأنا أراه يجاهد المرض وحمل السنين كي يستقبل يومه بحيويةٍ ونشاط. ذات صباح استيقظ أبي وراح يمارس طقوس حياته… يرقب إبريق الشاي وينفث دخان سيجارته مصغياً باهتمامٍ بالغٍ إلى نشرة الأخبار. يتابع تحليلات الصحف حول الغارة الإسرائيلية، يرفع كفيه إلى القوي العزيز يدعو أن يحفظ له عائلته، ويحمي أبناءه، وينتقم من الطغاة. كان أبي يأمل بالخلاص من الطاغية المجرم الذي حرمه رؤية فلذات كبده، يكابر على جراحه، ويحلم بضمهم إلى صدره واللعب مع أحفاده، يمنّي نفسه بحياة رغيدة بين أبنائه، ويحلم أن يمتلئ بيته بأحفاده. تساءل أبي مستنكراً : هل سيردّ النظام على الغارة الإسرائيلية؟ وكيف سيكون الرد؟ لم يتأخر الرد…فما هي إلا ساعات قليلة كانت حمم الغدر والحقد تنذر أبي برد الطاغية. تأكد أبي أن النظام سيثأر لكرامته، ولكنه لم يدر أن النظام ردّ عليه هو لا على إسرائيل. مات أبي… تناثرت أشلاء الضحايا من حوله، وأيقن هنا أن ردّ النظام على إسرائيل سيكون قاسياً. تفجّر رأس أبي وهو يستقل حافلة الموت عائداً إلى بيته، بعد رحلةٍ قاسية ليؤمن قوت أهل بيته، رأيت أبي مضرّجاً بدمه، بينما كنت أرقب الردّ البربري من طائرات الحقد على بلدي. أبت السماء ألا يبقى أبي بين هؤلاء الوحوش، فاصطفته واختارت له مرافقة أطفال بانياس المذبوحين. صعدت روحه ترفرف فوق سماء بلدي، فرحةً برحلة الشهادة إلى بارئها… حملت روحه أطفال ‘البيضا’ إلى الملك الجبار ليكونوا شهداء على مذابح الهمجية والبربرية الأسدية. كنت أفخر بأبي دوماً، وأفاخر بأني سليل ذاك المواطن السوري الفقير البسيط، وكذلك أبي كان يفخر بما بناه فينا. اليوم أفخر بك يا أبي… وتفخر بك عائلتك ومدينتك… حياتك كانت سجلاً حافلاً بالتضحيات… باستشهادك أتشرف ويتشرف أهلك وجيرانك وأحباؤك. ‘ فتحنا لتموز أبوابنا …ففي الصيف لابدّ يأتي أبي ‘