تونس-“القدس العربي”:أجدابيا التي تتبع محافظة الواحات وتبعد 160 كيلومترا عن مدينة بنغازي من جهة الجنوب، هي واحدة من أهم المدن الليبية في الشرق بل هي بوابته بالنسبة إلى القاصدين إقليم برقة والقادمين من الغرب، توصف بأنها مدينة الشعراء والأدباء والثقافة والرياضة. كما أنها كانت في عصر ما بوابة الجيوش الإسلامية لفتح أفريقيا (تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا) والتي استمرت محاولات السيطرة عليها لأكثر من سبعة عقود انطلاقا من إقليم برقة. وهي أيضا محطة هامة في الماضي لرحلات القوافل التجارية بين جنوب ليبيا وتشاد من جهة وإقليم برقة من جهة أخر باعتبارها أيضا بوابة برقة من جهة الجنوب.
ويرى البعض أن كلمة أجدابيا مشتقة من كلمتي “جاد بيا” بينما يرجع آخرون التسمية إلى أحد أعلام المدينة ويدعى ابراهيم الأجدابي، الذي يقول البعض أيضا أنه هو من نسب إليها وليس العكس. وتتميز أجدابيا التي يبلغ عدد سكانها حوالي 250.000 ساكن، بتنوع قبلي استثنائي، ففيها قبائل الزوية وقبيلة المجابرة وقبيلة المغربة والفواخر والسعيط والعريبات وأولاد الشيخ وغيرهم.
عراقة تاريخية
كانت المنطقة التي تقع فيها أجدابيا اليوم وعلى غرار الشرق الليبي مستعمرات إغريقية في حقبة ما قبل ميلاد المسيح في حين كان الغرب الليبي جزءا من جمهورية قرطاج الإمبراطورية التي توسعت شرقا إلى حدود خليج سرت. وعن رسم الحدود بين القرطاجيين والإغريق يقول المؤرخ التونسي محمد حسين فنطر مقتبسا من صلّوستيوس من كتاب “حرب يوغرطة”: “كانت قرطاج تسوس القسط الأكبر من أفريقيا وكان الإغريق ينافسونها ثروة وسلطانا، وكانت بينهما ربوع مترامية الأطراف ولا شيء يحدّ من رتابتها، فلا نهر فيها ولا جبل يفصل بين الدولتين ممّا دفع إلى حرب ضروس دامت زمنا طويلا وقد تصارعت الجيوش برا وتصارعت بحرا وبقيت الحرب سجالا أنهكت قوى الخصمين دون جدوى.
ولما خاف الطرفان من السقوط فريسة بين مخالب أخرى لثالث يستغلّ ضعف الغالب والمغلوب أبرما الاتفاق التالي: في يوم محدّد يعين الطرفان ممثلين اثنين عنهما ينطلقان من تخوم أرض الوطن من مدينتي قرطاج وقورينة، ونقطة اللقاء بين الأربعة يعترف بها حدّا بين الطرفين. عيّنت قرطاج الأخوين فيلن فعجّلا السير تعجيلا فائقا وكان سير الإغريقيين بطيئا، فهل كان ذلك من باب التقاعس أم كان حدثا غير منتظر؟ لا ندري! ففي تلك الربوع تعيق العاصفة السير فهي تفعل في الصحراء كما تفعل في البحر، فإذا هبّت الريح على هذا السهل الصحراوي المنبسط ثارت سحب من الرمل تدفعها قوّة جبّارة فتملأ أفواه المسافرين وعيونهم وتحجب الرؤية وتعطّل السّير.
فلمّا تأكد الإغريقيان من تأخّرهما تأخرا كبيرا خشيا تهمة الخيانة وما ينجر عنها من عقاب، اتهما القرطاجيان بمغادرة ديارهما قبل الوقت المحدّد وطعنا في نتيجة المناظرة، فقد كان الإغريقيان يؤثران كلّ شيء على قبول عار الهزيمة. ولمّا كان ذلك كذلك، طلب القرطاجيان تحديد شروط أخرى على أن تكون عادلة فترك لهما الإغريق الخيار بين وأد نفسيهما في المكان الذي وصلا وترسم الحدود هناك أو يتركان الإغريقيان يتقدمان في نفس الظروف حتى المكان الذي يبغيان وهناك ترسم الحدود.
وتمّ الاتفاق وضحّى الأخوان فيلن بحياتهما في سبيل الوطن. وتمّ وأدهما ونالت قرطاج مساحة هامة، وأقام القرطاجيون للأخوين فيلن في ذلك المكان (يقال أنه خليج سرت) مشهدا يحمل اسميهما فضلا عمّا قدّمه القرطاجيون لهما من آيات التمجيد والتكريم في المدينة”.
ورثت روما أراضي قرطاج بعد انهيار الأخيرة وسيطر الرومان على كل الساحل الليبي بما في ذلك الأراضي التي كانت خاضعة للإغريق. وأسس الرومان أجدابيا تحت مسمى كورنيكلانم. وبعد سقوط روما ورثت القسطنطينية البيزنطية مستعمراتها إلى حين إرسال الخليفة عمر بن الخطاب لواليه على مصر عمرو بن العاص لفتح إقليم برقة.
وخضعت برقة للأمويين في دمشق وحقبة من دولة العباسيين في بغداد ونمت وازدهرت مع استقرار الفاطميين في المنطقة المغاربية وتحديدا بالحواضر التونسية التي اتخذوا منها عواصم لهم وهي المهدية وصبرة المنصورية بالقيروان التي خرج منها المعز لدين الله الفاطمي إلى مصر بمعية قائده جوهر الصقلي، وفي الطريق أقام المعز بمدينة أجدابيا بالقصر الفاطمي وأمر بأن تصنع في المدينة صهاريج لجمع مياه الأمطار مثلما هو الحال في مدينة القيروان.
وقد ساهم تدمير الفاطميين الشيعة، للدولة الإخشيدية في مصر ثم بناء مدينة القاهرة، في ازدهار أجدابيا التي كانت على الطريق بين الحواضر الفاطمية في تونس اليوم وبين مصر. وكان الاستقرار الفاطمي في مصر عوضا عن البلاد المغاربية، الهدف منه بالأساس الاقتراب من الخلافة العباسية في بغداد لإنهاء وجودها والحلول مكانها والانتصار لأهل البيت في خلافة النبي محمد. لكن ذلك لم يحصل واكتفى الفاطميون لاحقا، وبعد استقرارهم في مصر، بالوصول إلى بعض المناطق في بلاد الشام ولم يلتحموا بأنصار أهل البيت في العراق.
وللإشارة فإن الفاطميين وبعد أن غادروا قصورهم ومقرات حكمهم في صبرة المنصورية بمدينة القيروان التونسية تركوا قبيلة صنهاجة الأمازيغية مكانهم في القيروان للحفاظ على مصالحهم في البلاد المغاربية. فازدهرت التجارة بين البلاد المغاربية ومصر ونمت أجدابيا وازدهرت على هذه الطريق التجارية وكثر عمرانها إلى أن أعلن المعز بن باديس الصنهاجي في القيروان عن استقلاله عن الفاطميين واستئثار أسرته بحكم أفريقيا (تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا اليوم).
وانتقاما من الصنهاجيين شجع الفاطميون بني هلال وبني سليم على غزو تونس وسائر بلاد المغرب وتخريب مدينة القيروان عاصمة الصنهاجيين، فمرت هذه القبائل بأجدابيا وأقامت بها ردحا من الزمن ما بين القرنين الرابع والخامس للهجرة. وهناك من استقر في أجدابيا ولم يشترك في الخراب الذي طال تونس وجزءا كبيرا من بلاد المغرب ومدينة القيروان نتيجة لهذا الغزو الذي أعاد أفريقيا الإسلامية قرونا إلى الوراء.
وخضعت أجدابيا إلى العثمانيين شأنها شأن غالبية مدن شمال أفريقيا ثم إلى الاستعمار الإيطالي وذلك منذ سنة 1914 وخلف فيها الإيطاليون دمارا لافتا. ثم اتخذ منها إدريس السنوسي عاصمة لإمارته سنة 1920 لعدة أسباب منها أنها أقرب مدن برقة إلى كبرى حواضر البلاد أي طرابلس، كما أنها واحدة من أهم المناطق في تجارة القوافل، وباعتبارها أيضا، وهذا الأهم، موطناً للعديد من القبائل التي كانت تؤيد الحركة السنوسية.
فكانت أجدابيا مقرا لرئاسة الحكومة التي مارست سيادتها على جميع أراضي برقة إلى حدود سرت غرباً، أي الحدود التي كانت تفصل بين مناطق نفوذ الإغريق ومناطق نفوذ قرطاج في ليبيا اليوم. أما المنطقة الساحلية من إقليم برقة فقد كانت خاضعة للمستعمر الإيطالي وذلك تطبيقا لاتفاقية الرجمة.
معالم أجدابيا
ترك الفاطميون آثارا هامة في أجدابيا مثل القصر والمسجد الفاطمي الذي عرف أيضا بمسجد الإمام سحنون. ومن معالم أجدابيا أيضا قصر الصحابي عبد الله بن أبي السرح، وهو قلعة بنيت خلال الفتح الإسلامي لإقليم برقة، والحصن الروماني الذي اكتشف أواسط سبعينيات القرن العشرين.
وتحدث بعض الرحالة عن معالم أجدابيا على غرار اليعقوبي قائلا “وهي مدينة عليها حصن وفيها جامع وأسواق قائمة.. وترسي بها المراكب” وقال عن معالمها ابن الحوقل في كتابه “صورة الأرض” الذي كتبه سنة 336هـ “مدينة أجدابية على صحصاح البحر من حجر في مستواه، بناؤها بالطين والآجر وبعضها بالحجارة ولها جامع نظيف ويطيف بها من أحياء البربر خلق كثير”. وقيل فيها أيضا هي “قرية صغيرة في الصحراء، أرضها صفا وآبارها منقورة في الصفا طيبة الماء… وبها جامع حسن البناء بناه أبو القاسم بن عبيد الله، له صومعة مثمنة بديعة العمل وحمامات وفنادق كثيرة وأسواق حافلة مقصودة … ولها مرسى على البحر يعرف بالمحور، ولها ثلاثة قصور وبينها ثمانية عشر ميلاً، وليس لمباني مدينة أجدابية سقوف إنما هي أقباء طوب”.
ووصف الإدريسي معالم أجدابيا في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” بالقول: “وأجدابية .. كان لها صور فيما سلف، وأما الآن فلم يبق منها إلا قصران في الصحراء. ويطوف بها من أحياء البربر خلق الكثير، مياههم من مواجل” فيما يصف الرحالة المغربي العبدري المدينة في القرن السابع هجري بالقول: “أنه ليس هناك في أجدابيا إلا قصر ماثل في الخلاء من الأرض لا ماء جار ولا شجرة واحدة” وهو ما يؤكد على تراجع دور المدينة بعد أن غادرتها قبائل بنو هلال وبنو سليم باتجاه البلاد المغاربية.
أنشطة متنوعة
تعتبر أجدابيا اليوم واحدة من أهم المدن الليبية التي تعج بالحياة رغم الوضع الإستثنائي الذي يعيشه بلد عمر المختار، ففيها ميناء نفطي هام هو ميناء زويتينة يعطيها أهمية استثنائية في بلد يعتمد اقتصاده على ريع النفط. ويتم تصدير النفط الخام والغاز المسال من هذا الميناء الذي كثيرا ما مثل ورقة لأطراف الصراع في ليبيا يقايضون بها لتسجيل النقاط على الخصوم من خلال السيطرة عليه وإيقاف التصدير منه أو التلويح بذلك. ويتكون هذا الميناء من وحدة حركة الزيت ومعمل الغاز بالإضافة إلى قسم البحرية.
وتوجد في أجدابيا مصانع على غرار مصنع البيتروكيميائيات ومصنع أنابيب البولي إيثلين ومصنع الحبوب والأعلاف ومصنع الأفران، وغيرها من المصانع التي تجعل من المدينة قطبا صناعيا رغم أن البلد لا يعتمد اقتصاده كثيرا على التصنيع. كما يوجد في أجدابيا نشاط ثقافي ورياضي لافت وهي توصف بأنها مدينة الشعراء والأدباء والثقافة والرياضة باعتبار أن عديد الأنشطة الغنائية والشعرية والمسرحية والرياضية تنتظم بها على مدار العام. ولدى المدينة فضاءات هامة لاحتضان هذه التظاهرات على غرار المركز الثقافي ولديها أيضا فرق مسرحية نشيطة تساهم في إثراء الحياة الثقافية.
ويرى الباحث والمؤرخ الليبي خالد المجبري في حديثه لـ “القدس العربي” أن أجدابيا يمكن تصنيفها ضمن المدن الخالدة التي تندثر كل الحضارات التي تتعاقب عليها وتنتهي وتبقى هي صامدة بوجه الزمن. فهناك، وبحسب محدثنا، مدن ترتبط بحضارة أو ببعض الحضارات وتندثر مع اندثارها وينتهي دورها وتنتهي أهميتها، وبالمقابل هناك مدن تستمر في الزمن وتستمر أهميتها مع الحضارات المتعاقبة عليها على غرار أجدابيا.
ويضيف المجبري قائلا: “لقد أفل نجم الرومان، مؤسسو أجدابيا، ولم تأفل المدينة من بعدهم وكانت ملتقى القوافل التجارية بامتياز. ورحل العرب الفاتحون عن برقة وأجدابيا إلى القيروان التونسية واتخذوها عاصمة لبلاد المغرب في الدولة الإسلامية الجديدة وبقيت أجدابيا همزة الوصل بين عواصم الخلافة في المشرق والقيروان موطن والي بلاد المغرب.
وازدهرت في العهد الفاطمي وازدادت أهميتها وغادرها الفاطميون لاحقا باتجاه المشرق ثم عرب بني هلال وبني سليم باتجاه المغرب لكنها صمدت وحافظت على أهميتها. ولم يكن اختيار الأمير إدريس السنوسي لها لتكون عاصمة إمارته من فراغ فقد كان يدرك أهمية موقعها الإستراتيجي في إقليم برقة فهي بوابته للقادمين من الغرب والجنوب على حد سواء.
فالمدن التي تزدهر تاريخيا هي تلك التي تقع على طريق تجارية برية أو بحرية كما هو حال المدن التي تحولت اليوم إلى مناطق عبور جوية تربط بين قارات العالم الخمس وفيها مطارات كبرى. وأجدابيا تنتمي إلى هذه الفئة من المدن الواقعة على الطرقات التجارية ما يجعلها هامة في كل العصور وازدادت أهميتها اليوم بوقوعها في منطقة تزدهر فيها صناعة النفط والغاز استخراجا وتكريرا وتسييلا وتصديرا.
ولعل ما يبعث على الأسف والأسى هو أنه ورغم أهمية المدينة من الناحية الاقتصادية إلا أنها تفتقر إلى بنية تحتية راقية من جسور وطرقات وقنوات صرف صحي وصرف لمياه الأمطار وحدائق وغيرها، تليق بعراقتها كحاضرة وجدت منذ العهد الروماني وازدهرت مع الحضارة الإسلامية. فمداخيل الميناء وحدها لو تم استثمارها بشكل جيد ستغير وجه المدينة نحو الأفضل، رغم الوضع السياسي الرديء الذي تعاني منه عموم ليبيا وليس فقط أجدابيا والذي يؤثر سلبا على التنمية والاستثمار في البنى التحتية وتحسين حياة المواطن الليبي الذي يبقى المتضرر الأكبر من كل ما يحصل من صراعات من قبل طبقة سياسية آخر همها تحسين حياة المواطنين”.