فضلا عن العودة المتوقعة لجلسات الحوار الوطني والمقترحات التي ستخرج عنها وتوجه إلى رئيس الجمهورية وحكومته خلال 2024، تحفل أجندة مصر السياسية والوطنية بتحديات عديدة. فهناك انتخابات برلمانية بالغة الأهمية ستعقد في 2025. التنافس على المقاعد البرلمانية، والذي سيبدأ من التعديلات المنتظرة للقوانين الناظمة للانتخابات ولتقسيم الدوائر الانتخابية والتي ينبغي أن تستهدف تقوية حضور أحزاب البرامج في البرلمان ولن ينتهي عند تحسين شروط حضور كافة عناصر العملية الانتخابية من مرشحي قوائم حزبية ومرشحين فرديين وناخبات وناخبين وإشراف قضائي ورقابة المجتمع المدني، هذا التنافس يستدعي دورا نشطا للأحزاب السياسية وتجديدا لأبنيتها التنظيمية وكوادرها البشرية التي تكلس الكثير منها خلال سنوات انغلاق المجال السياسي، ودعما لمصادر تمويلها الشرعية والعلنية التي تحول دون سيطرة المال السياسي عليها وتحول أيضا دون استتباعها من قبل الحكومة والمؤسسات العامة، وتواصلا حقيقيا ومستداما مع القواعد الشعبية في المدن والمناطق الريفية. يتطلب الإعداد لانتخابات برلمانية تنافسية أيضا توسيعا لسياقات حرية التعبير عن الرأي لتشمل وسائل الإعلام المختلفة وعلى نحو يمكن الأحزاب والسياسيين والمشاركين في الحياة العامة من تنظيم اللقاءات الجماهيرية واللقاءات النوعية في المدن والمناطق الريفية، ويرفع من القيود الأمنية التي طويلا ما فرضت على حريات الرأي وحريات العمل التنظيمي وآن أوان تراجعها. يتطلب الإعداد لانتخابات برلمانية تنافسية قادرة على إنتاج مجالس تشريعية تضطلع بمهام التشريع للوطن والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية وتمثيل مصالح الناس في الدوائر الحضرية والريفية؛ يتطلب بكل تأكيد استمرار الحوار بين الحكومة والأحزاب، وبين أحزاب الموالاة والمعارضة، وبين المجال السياسي والمجال العام عبر بوابة وسائل الإعلام لكي تحل قضايا الحقوق والحريات العالقة وأبرزها مسألة سجناء الرأي، ونصل إلى المساحات المشتركة وبناء التوافق حول قضايانا الكبرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
هذه هي سبل تنظيم انتخابات برلمانية تنافسية في 2025، هذه هي سبل الوصول إلى مجالس تشريعية مستقلة وقوية وفعالة رقابيا. قولا واحدا، ستكون الانتخابات البرلمانية القادمة هي الاختبار الحقيقي لهندسة الانفتاح السياسي في بلادنا بعد سنوات الانغلاق والبوابة الكبرى للانطلاق إلى الأمام السياسي المتمثل في التخلص من اختلالات حقوق الإنسان والحريات وتدعيم إجراءات الرقابة والمساءلة الشعبية على ممارسي العمل العام. وفيما خص كافة هذه السبل، سيكون دور الأحزاب السياسية أساسيا وسيكون تنشيطها برامجيا وتنظيميا وبشريا وماليا ضرورة قصوى لصالح الوطن والمواطن. ومن تنظيم انتخابات برلمانية تنافسية ومشاركة واسعة للأحزاب، يمكن لحياتنا السياسية أن تتحرك إلى تحدي تنظيم انتخابات المحليات التي طال انتظارها وتشكل ركيزة رئيسية لتطوير الكوادر الحزبية والكوادر التنفيذية التي تحتاجها مصر.
كذلك تحفل أجندة مصر الوطنية خلال الفترة القادمة بتحديات داخلية وإقليمية ودولية كثيرة تستلزم توسيع قنوات التواصل بين الحكومة والأحزاب وتشجيع النقاش السياسي والعام حولها. واجهت مصر في السنوات الماضية تحدي الإرهاب المقيت، ونحتاج اليوم إلى تكاتف وطني ومجتمعي وسياسي واسع يحول دون تمكين عصابات التطرف والعنف من العودة إلى أرض سيناء الطاهرة ومواصلة الحفاظ على أمن مصر القومي وسيادتها الوطنية.
ثمة حزام من الأزمات يلتف حول مصر ويهدد مصالحها الوطنية وسيادتها ويستدعي الانتباه المتواصل والحوار البناء بين الحكومة والأحزاب والمجتمع المدني ووسائل الإعلام
واجهت مصر أيضا خلال السنوات الماضية ومازالت خطرا وجوديا على أمنها المائي بسبب التعنت الإثيوبي في إدارة ملف مياه النيل والتفاصيل العديدة المرتبطة بسد النهضة، وذلك على الرغم من السعي المصري المستمر إلى التفاوض والتسويات السلمية وبناء التوافق المبتعد عن المعادلات الصفرية والضامن للمصالح الوطنية لكافة الأطراف، إن في سياق المفاوضات الثلاثية مع إثيوبيا والسودان أو سياق التفاوض الجماعي مع بقية دول حوض النيل وبمشاركة الاتحاد الإفريقي والمنظمات الدولية والدول الغربية. هنا، يصير لزاما على الأحزاب ومعها منظمات المجتمع المدني والشخصيات العامة ووسائل الإعلام المشاركة في النقاش السياسي والعام بشأن حماية حقوق مصر المائية وضمان أمنها في ظل الالتزام بالتفاوض والامتناع عن المعادلات الصفرية وتوفير فرص لحماية مصالح جميع الأطراف دون انتقاص وصولا إلى توزيع عادل ومستدام للموارد المائية لنهر النيل العظيم.
في السنوات الماضية، تبلورت تجربة تنموية مصرية عمادها استثمارات حكومية واسعة في مجالات البنى التحتية والمرافق الأساسية والمشروعات القومية الكبرى واستثمارات حكومية متصاعدة لمد شبكات الأمان الاجتماعي والحماية الاجتماعية. نجحت السياسات الحكومية في تحقيق معدلات نمو مرتفعة للاقتصاد الوطني وهبطت بمعدلات البطالة، غير أنها اتسمت باختلالات بالغة الخطورة ارتبط بعضها بغياب الاستثمار في اقطاعات التصنيع والتصنيع الزراعي والاقتصاد الأخضر، وبعضها الآخر تعلق بالاستدانة الخارجية المتزايدة دون تقدير للانعكاسات السلبية على الأوضاع الاقتصادية والمالية في البلاد التي تعاني اليوم من أزمة حادة في النقد الأجنبي ومعدلات تضخم غير مسبوقة. ونتج البعض الآخر من الاختلالات عن أزمات عالمية كجائحة كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية زاد من قسوتها في مصر تراجع الاستثمارات الخارجية، بينما نجمت معضلات أخرى عن سيطرة المؤسسات العامة على قطاعات حيوية في الاقتصاد وصعوبة منافسة القطاع الخاص لمؤسسات مملوكة للدولة في ظل غياب قواعد تنافسية وشفافة.
في كل هذه السياقات، لم يعد ممكنا أن تستأثر الحكومة بصناعة القرار وتطبيق السياسات دون مشاركة مجتمعية واسعة وشق من المشاركة الواسعة تلك هي مشاركة الأحزاب بصياغة الرؤى والأفكار ومقترحات السياسات البديلة وشق ثاني منها هو النقاش السياسي والعام في وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني حول الأفضل لإخراج مصر من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية الحادة وشق ثالث هو التواصل مع الناس والاستماع إلى أوجاعهم وتفضيلاتهم دون تجاهل.
وفي المحيط الإقليمي والدولي، ثمة حزام من الأزمات يلتف حول مصر ويهدد مصالحها الوطنية وسيادتها ويستدعي الانتباه المتواصل والحوار البناء بين الحكومة والأحزاب والمجتمع المدني ووسائل الإعلام. إلى الجنوب حرب أهلية في السودان، إلى الغرب غياب للاستقرار وتدهور مجتمعي وبيئي شامل في ليبيا، إلى الشرق حرب تستعر في غزة وغياب لأفق التسوية السياسية للأراضي الفلسطينية وخطر التهجير القسري أو الناعم للشعب الفلسطيني وسط تعنت إسرائيلي واستمرار التنازع الفلسطيني بين سلطة وفصائل، وفي عموم الشرق الأوسط غياب للأمن الإقليمي وخطر متصاعد لتمدد الصراعات إلى البحر الأحمر وفي الخليج عطفا على أماكن الصراع القائمة بالفعل في فلسطين، ولبنان، وسوريا، واليمن.
دوليا، لم تزل الحرب الروسية-الأوكرانية تعيد صياغة حقائق العلاقات بين القوى الكبرى التي صار التنافس في كافة مجالاتها بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين هو خيطها الناظم مثلما أصبح بحث بلدان الجنوب العالمي عن انتزاع مساواة اقتصادية ومالية وتكنولوجية وعلمية وبيئية مع بلدان الشمال المتقدم من ركائز الوعي العام في القارات الإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية ومن عوامل انضمام بعض بلدان الجنوب إلى تجمعات دولية كبرى لا يسيطر عليها الغرب (تجمع البريكس نموذجا) ومن عوامل تعالي أصوات حكومات الجنوب في تجمعات كقمم المناخ ومطالبتها بحتمية تعويض حكومات الشمال لشعوبنا على ما تراكم تاريخيا من مظالم بيئية واقتصادية ومالية.
في المحيط الإقليمي والدولي أيضا تستطيع الحكومة تشجيع الحوار السياسي والعام مع الأحزاب، موالاة ومعارضة، حول التحديات المطروحة والتفكير معها ومع المجتمع المدني في بدائل لاحتواء المخاطر الواردة على الأمن القومي المصري وعلى المصالح والسيادة الوطنية، إن بسبب الحرب المستعرة في غزة وجنون اليمين الإسرائيلي المتطرف أو بسبب التعنت الإثيوبي بشأن سد النهضة أو فيما خص التعامل مع التداعيات البالغة للتغير المناخي.
كاتب من مصر