أخبّئ أصابعي مستسلماً للندم

تتسعُ المنفردة لاثنين، لثلاثة، لأربعة، لأكثر من هذا بكثير، تتسعُ لحزنِكَ الذي كنتَ تظنّه يوما أكبر من أن يُحتوى. فجأةً تغدو الجدران مرايا، ويفقد الوقت قيمته الفيزيائية والفلسفية، إنّه المكان المناسب لإجراء الحوارات الجريئة، وممارسة الموت ببطءٍ خارجَ الزمن، لا شيءَ يأتي بغتةً ودفعةً واحدة، والموتُ كذلك، بدأَ منذُ زمن، لكنّكَ تظلّ تغضُّ الطرفَ عنه، لأنّه مخيف، كلّ النهايات مخيفة، إذ لا مكان للخلود، كلّ شيء منذورٌ للنسيانِ، ولا شيء يؤنسُ وِحدة المنفردة سوى الندم. فتح الشرطيّ البابَ وطلبَ منّي الدخول بعد أن استأذنني بمصادرة ساعتي، هاتفي، ووثائقي التي أحملها. قبل ذلك بقليل، استأذنني شرطيّ آخر بأخذِ بصماتي، مقاس حذائي، والقليل من لُعابي. قبلَ ذلك بقليل، تلا عليّ شرطيّ ثالث ما نسمعهُ في الأفلام، حين يتمّ اعتقال أحدهم، ثم استأذنني بأن يضع أغلالاً في يديّ، رغمَ أنّي سلّمتُ نفسي بنفسي. لم أقبلْ، قلت له: عبرتُ أوروبا مشياً، جرحتني الأسلاك الشائكة وحاولَتْ أن تبتلعني الأمواج، نمتُ ليالي في العراء، وتحمّلتُ الكثير فقط كي أصلَ إلى هنا وأصبح صحافيا لا مجرما، وكي لا تُوضع أغلال في يدي، وهأنذا أسلّم نفسي. لكنّ الشرطيّ لا يفهمُ الأحلامَ، وكذلك القانون. أربعة جدرانٍ، كرسيّ لقضاء الحاجة تحتَ كاميرا لا تحترمُ الخصوصيّة، ومصطبةٌ عليها غطاءان. رائحةُ الخوفِ والخيبة تفوحُ منّي مثلُ سكيرٍ لم يغتسل منذُ أنْ هربَ إلى عوالمِه. الضوء مخفيّ، والبابُ وراءه باب، وراءه تجلس الحريّة. أجلسُ فوقَ المصطبة متهما بالتمادي في الحلم، أسندُ رأسي إلى الحائط، وأبدأُ باستعادةِ قصّتي منذ البداية، أشعرُ بالبردِ كلّما قرأتُ سطرا، لم أنتهِ من المقدّمة حتى بدأتُ أرتجفُ من شدّة الندم.
مددتُ غطاءً، استلقيتُ عليه والتحفتُ الآخر، كثافة الصور التي ترِدُ إلى مخيلتي تزيدُ من ارتعاشي، أحاولُ أن أنسى أينَ أنا، أهربُ إلى الأمام، لا أمامَ هنا. أدقّ الجرسَ لعلّي أرى أحدا يثبتُ أنّي لستُ وحيدا في هذا الزمكان، لا أعرفُ كم انتظرتُ حتى ردَّ عليّ صوتٌ ما، قلتُ له عبرَ الهاتف: مرحبا هل يمكنني الحصول على قلمٍ وأوراق؟ مرّةً أخرى لم أعرفْ كم انتظرتُ حتّى فُتِح الباب الأوّل، سمعتُ أصواتا كثيرة: شتائم، صُراخا، وقع أقدام مضطرب ثمّ صوت الشرطيّ بعد أنْ فتح البابَ الثاني ومدّ يدهُ من ورائه قائلًا: تفضل! قلمُ حبرٍ ناشف وخمسُ ورقاتٍ بيضاءَ لا هوامش عليها، حاولتُ أن أكتبَ أيَّ شيءٍ، لم أستطع، رسمتُ بابا مفتوحا كي يخرجَ منه كلّ العالقين، وكي أخرجَ أنا، هكذا بلحظات تحوّل كلّ شيء إلى لعبةٍ، تذكرّتُ سجونَ الأسد، يا إلهي، هل قضى أخي ثلاثة أشهر قبل أن يموت، حياةً كهذه؟ هل قضى المعتقلون ذوو الأرقام.. لحظة، هل سأقارنُ سجون الأسد المقبلة من أبشع أفلام الرعب، بسجني هذا، المقبل من مسلسلات نتفلكس الكوميدية الرديئة؟ بالطبع لا. غفوتُ على عتبة الباب المرسوم، وحينَ صحوت لم أعِ أين أنا أو كم لبثت، لم أعرف كم مضى عليّ وأنا في هذا الثقبِ الأسود، هل أتى الغد، أم أنّهُ غير موجود هنا؟ كثيرا ما كنتُ أظنّ أنّ كلّ ما يحدث في حياتي ليس إلا كابوسا سأستيقظُ منه قريبا، تماما كيوم استيقظتُ فوجدتُ أنّ أهلي أبعد من الأحلام، وجواز سفري يقول: يُسمح له بزيارة العالم كلّه عدا أهله، شممْتُ الحبرَ على الورقة، كانَ طازجا، يبدو أنّني لم أنم إلا دقائق.
مرّ عشرون عاما حتى خرجتُ إلى غرفة التحقيق، كانَ العالمُ في ممرّ السجنِ مختلفا عن عالمِ المُنفردة، بينما ظلّ المحقّق يشبه صورتَه، رجلا عريض المنكبين، أصلع ذا شاربٍ أسود غليظا، حاول أن يصل لاعتراف يثبتُ صحّة ظنون الرجل الأبيض، كلّ ما قيل في حقّي خطأ لن يُعاقبَ أحد عليه، أحيانا يكونُ الخطأ جميلاً إلى درجة أنّك تعتاده، لكن هذا خطأ نشاز، والخطأ النشاز تصلُ به القساوة إلى قطع حبلِ الوصال، كيف إنْ كنتَ البدويّ الذي لا آلة لهُ إلا الربابة؟ رغمَ قوّة وترها، سينقطع، إن علّقتَها ستبدو للناظرِ أنّها مستعدة لدفْقِ حنينها على المسامع صبوا، فيما لا صوتَ لها، لقد فُتّتتْ وترُها كمسودة وما عاد هنالك نصّ، كُسرِتْ ربابة البدوّي، ماتت خيله، يبسَتْ مواسمه التي سقاها من عينه اليسرى بيُمناه التي اهترأتْ أصابعها من الندم. بعد أربعٍة وعشرين عاما، أو ساعةً كما يقول القانون، خرجتُ بريئا لكنّ الأحلامَ ظلّت عالقةً في المنفردة، وظلّتِ الأغلال موشومة على يدَي.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد خالد بديوي:

    رائع وبديع.. ما بين الألم والأمل، وميض متعة مشروعة..يتبعها الندم ودموع منثورة..وأحلام مهدورة.
    شكرا على وجبتي الإبداع والإمتاع.
    مودتي واحترامي

إشترك في قائمتنا البريدية