ما زال الناس يعتقدون اليومَ أن اللساني هو ذلك المتعلم ذو السقف العالي في التعليم، الذي يتقن ألسنة كثيرة يمكن أن يتحدث بها جميعا متى شاء ومع من شاء. ربما فهم الجمهور ذلك من توهم الجمع في عبارة (لسانيات) التي باتت منذ 1981 الترجمة الرسمية لمصطلح Linguistics أو من عبارة الألسنية التي تداولها الناس قبل ذلك الوقت وما تزال.
اللسان ما يزال في استعمالاتنا العامية لا يعني اللغة، بل يعني الكلام أي الإنجاز ويفهم ذلك في استعمالاتنا اليومية العامة، حين نقول عن شخص إنه طويل اللسان إذا كان جريئا متمردا لا يراعي للكلام حدودا ولا حرمة مع المتلقي، لكن لا يقال لمن أفرط في مراعاة الحدود قصير اللسان، فليس عيبا أن يقصر لسانك وتتراجع منكمشا مفرطا في الخشية ممن تعتقد أنه عليك المبالغة في احترامه. ربما قيل لمن كانت هذه صفاته وفي سياق عتاب: تكلم هل ابتلعت لسانك؟ حركة اللسان التقابلية عند العامة ليست في الطول والقصر، بل في الطول والعمق أو الغمر، وهذا تصور واعِ بإطار تحرك اللسان في الفم، ويتخيل أن اللسان يمكن أن يتراجع فيغوص في الحلقوم، هذه حالة موت لا شك فيها وهي موت الكلمة الدالة على تراجع غير محمود في الكلام أو الجبن عنه.
اللسان عند العامة ليس اسما للغة، مثلما هو الأمر في استعمالنا الفصيح، بل هو عندهم يعني الكلام لأن تصورهم أن الكلام ينجزه هذا العضو المرن وقديما تصور الناس أن من العقوبات أن يقطع لسان المرء حتى لا يتطاول مرة أخرى على أصحاب الصول والطول؛ وإلى اليوم يقول المرء أقص لساني ولا أقول كذا، ويقول من يهدد غيره لأقطعن لسانك لأريحك منه.
اللسان في استعمال النحاة القدامى كان يعني اللغة الطبيعية وهذا المعنى الذي استعمل له فردينان دي سوسير معنى Langue الفرنسي في دروسه الشهيرة المؤسسة لفن اللسانيات، إذ عنى بها استعمال جماعة لغوية معينة لجملة من الأنظمة الصوتية والصرفية والإعرابية، مخصوصة في التواصل والتعبير. وهي تختلف عن اللغة Langage وهي القدرة البشرية الكونية التي تمكن أي فرد منا من أن يتحدث ويتواصل مع غيره، بقطع النظر عن اللسان المخصوص الذي نستعمله. أما الكلام فهو إنجاز فردي للسان، أو مخصوص بكل فرد يدخل فيه صوته ونغمته وأنواع الكلم واختيار الجمل وغيرها.
لقد استطاعت اللسانيات التي مضى على تأسيسها أكثر من قرن أن توجد مناخا علميا فرض جملة من المبادئ على الباحثين في هذا المجال، وعلى الأخلاق التي كرستها طيلة هذه المدة من إنتاج العلم. أول أخلاق اللسانيات التي فرضتها على دارسي اللسان هو ما أسميه العدالة اللسانية، وتعني أن لا يعتد شعب أو ثقافة بلغته على شعب آخر، وأنه لا مجال في هذا الفن من أن يقال مثلا إن العربية هي أفضل اللغات، أو أقلها حظا في الرفعة، وإنه لا فضل لعربي على أعجمي في لسانه. والأمر نفسه يقال عن العاميات والفصحى فلا يمكن أن نقدم هذه على تلك بدعوى أنها راقية. قيمة اللغة أو اللهجة في دورها التعبيري، وما من لغة إلا وهي تؤدي هذا الدور. هذه العدالة اللسانية الجديدة ما تزال إلى اليوم شيئا لا يعلمه كثير من الناس، ولا يمكن صد الرأي العام عنه، لأن الحس المشترك ما يزال يميل إلى المفاضلة بين اللغات واللهجات بمقاييس انطباعية، وربما جنحوا بها إلى العلمية، حين يقولون إن عمق المعنى بلغة معينة هو أشد بيانا من لغة أخرى.
يمرض المتكلمون أمراضا لغوية كثيرة من بينها الحُبسة واللثغة ويصابون بالنسيان في حالة ما يسمى «الكلمة على طرف اللسان». أنت تكاد تنطق بالكلمة، لكن شيئا ما من النسيان يغيبها، حتى تجد أنت من ينساها، من يساعدك على تحريرها من النسيان.
علينا أن ننتظر اللسانيات العرفانية كي نصل إلى فكرة أعمق تتمثل في أن الفرق بين كلام وكلام ليس في الجمالية والعادية، بل الفرق في الكيفية في بناء الوضعيات فلكل طريقته في ذلك.
ثاني الأخلاق اللسانية الثأر للمنطوق من المكتوب، فقد ساد اعتقاد منذ قرون طويلة بأن المكتوب هو أصل الكلام، لأنه أرقاه، وأن الشفوي لا يمكن أن يكون إلا كلاما بسيطا خاليا من البلاغة، وأنه لا يعتمد في التقعيد النحوي أو اللساني. سمي هذا في ما بعد بالخطأ الكلاسيكي، لأنه خطأ استمر عهودا وضيم فيه حق الشفوي من الكلام، وعدّ هو الأصل في الكلام وفي اللغة، بما أن اللغة تكون منطوقة ثم تكتب بل إن هناك لغات تعيش على عزف النطق، ولا تجد ريشة تدون نوتاتها.
ثالث أخلاق اللسانيين اليوم خمر اللسان وغدا أمره، وهذا المبدأ يعني أن نهتم بعمل اللسان الآني ونترك الزماني وهذا رد على سيطرة الوجهة الزمانية في الدراسات القديمة، سيطرة ربما جعلت الدراسة اللغوية غير مقصودة لذاتها، بل دراسة فيلولوجية مرتبطة بغيرها من العلوم والوثائق التاريخية. يدرس اللساني عمل اللسان أثناء اشتغاله ويعنيه أيضا أن يدرس تطوره، لكن التطور مرحلة لا تقضي على يوم العمل اللساني الراهن.
رابع أخلاق اللسانيين أنهم يكرهون القواعد، ولا يعنيهم نصب فاعل ورفع مفعول مثلما هو شأن جميع النحاة، ويسمون أخلاق سابقيهم بالمعيارية التي تعني ضربا من استعمال القانون لمراقبة الكلام، مثلما يراقب كل ذي سلطة من يخالف مألوف الأحوال التي أقرت سلطته بأنها هي المألوف.
في عهد اللسانيات لم يعد هناك شرط على الاستعمال الصحيح السليم، والاستعمال اللاحن الخاطئ، لأن الأصل في اللغة وهي تعمل، الأصل أن تعمل كما ينبغي لأن المتكلم بها قادر على أن يتبين الخطأ من الصواب، فهو متكلم مستمع مثالي حسب عبارة شمسكي: يتحدث لسانه الأصلي، أو الأم فلا يخطئ المرء إلا إذا تكلم لسانا أجنبيا عنه.
خامس أخلاق اللسانيين، وهذه تبدو غريبة، لمن لا يعرف حقيقة علمهم، أن اللساني وهو يعالج اللغة لا تعنيه إن كانت لغة ما ضاربة في القدم، أم لغة حديثة العهد، إذ تستوي اللغات في الأعمار ما دامت لا تفيد أعمار اللغة شيئا. والحديث عن لغة قديمة وأخرى جديدة، وعن لغة تشارف على الموت، وأخرى في أوج عطائها، هو مسألة لا تعني كثيرا اللسانيين. لا يوجد عمر محدد للسان ولا يوجد حوله ناعون أو مهنئون، لا يعني ذلك أن اللساني يؤمن بخلود اللغات ولا أنه لا توجد لغات تموت وأخرى تظل مستمرة، بل يعني ذلك أن اللسانيات لا تنشغل بالأعمار لأنها لا تداوي من أسقام فلا أسقام في اللغة مثلما يمكن أن يكون لمتكلميها من أسقام.
يمرض المتكلمون أمراضا لغوية كثيرة من بينها الحُبسة واللثغة ويصابون بالنسيان في حالة ما يسمى «الكلمة على طرف اللسان». أنت تكاد تنطق بالكلمة، لكن شيئا ما من النسيان يغيبها، حتى تجد أنت من ينساها، من يساعدك على تحريرها من النسيان.. تقول له هي على طرف لساني انتظرني قليلا، ريثما أذكرها سأتذكرها حين أتذكرها سأقولها لك، ثم تمضي تتحدث وأنت تعتقد أن لسانك انحبس عن تلك الكلمة وهو نشيط يدور ويتكلم، وكلما دار وتكلم كان الذهن يرفده بالكلمات وبالمركبات، وبالجمل فلا يتوقف عن الكلام وعن التفكير في الكلمة التي ضيعها ونسيها، فانحبست عنه ولم ينشطها.. ساعتها يتذكرها فيعود ليقول ما هي الكلمة.. ساعتها ربما مضى به الكلام إلى أشياء أخرى، سيجد من السخف أو الخلل بأن تقطع حبل الكلام ليقول لمن يخاطبه: وجدتها.. وجدتها.. مثل أرخميدس أو سيكون نيوتن زمانه وهو يكتشف جاذبية جديدة هي جاذبية الكلمات.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية