هل تكفي القيمة الأدبية الفنية لمنح جائزة الغونكور؟
يبدو أن الأمر أكثر تعقيداً مما نتصور. فقد صاحبت الجائزة أسئلة كثيرة، الأمر الذي أغضب الكثير من الكتاب الجزائريين الذين يعتبرون أنفسهم السباقين إلى هذا النوع من الأدب الذي يحمل تسمية إشكالية: الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية. السؤال الذي طرح بعد الاستقلال، كيف لأدب أن يكون جزائرياً وقد كتب باللغة الفرنسية؟ لم تكن كلمة كاتب ياسين «اللغة الفرنسية غنيمة حرب» كافية للقبول. الأدب عموماً ينسب إلى اللغة التي يُكتب بها؟ هو إذن فرنسي، لكن والتيمة جزائرية بامتياز.. كيف يكون فرنسياً بشخصيات جزائرية تحتل المشهد الروائي: عيشة، وسكورة. لويزة، رحمة… وأمكنة تحيل إلى البلد: تيزي راشد، دار السبيطار، تاوريرت، وهران، درب اليهود… بعد نقاش دام سنوات طويلة، فرق بينه وبين الأدب الفرنسي. واستقر المفهوم في أحد اجتماعات اتحاد الكتاب العرب في بغداد، وتم ترسيم هذا النوع من الأدب «عربياً» كُتِب بلغة فرنسية بسبب وضع طارئ هو الكولونيالية، لكن وجوده لم طارئاً بل ما تزال النخب تبدع فيه وبشكل مميز. الفرق بين الأجيال الأولى وأجيال التالية يتلخص في استراتيجيات النص ومراميه. الجيل الأول كانت هواجسه وطنية، والنص يحمل قضية، ويقف من ورائه هاجس الاستقلال الوطني. فاللغة الفرنسية كانت أداة تعبيرية للقول والتحرر: محمد ديب، كاتب ياسين، مولود معمري وغيرهم. لم يمنعه ذلك من تحقيق إبداعيته وتمايزه فرنسياً وعالمياً. لنا في كاتب ياسين ونجمته مثالاً حياً، والجيل التالي هواجسه أخرى؛ انضم إلى خطاب ما بعد الكولونيالية الذي يراهن على الحاضر بدل عيش معضلات الماضي. الماضي جزئية يعطيها الحاضر المتحول معنى. على الرغم من ذلك، لا الجيل الأول ولا الجيل الثاني فازا بجائزة وطنية كبرى يراها تاريخياً من حقه: الغونكور تحديداً.
فجأة يخرج صحافي حاد ومميز من شبه العدم، كمال داود، ويكتب رواية «ميرسو، تحقيق مضاد» (ترجمت بشكل غير صحيح تحت عنوان «معارضة الغريب»)، استقبلت في فرنسا بحماسة كبيرة وهي تجسد نقدياً أدب ما بعد الكولونيالية، وكاد يفوز بجائزة الغونكور إذ بقي من بين آخر الأربعة، ويبدو أن الطاهر بن جلون، إذا صدقنا بعض الكتابات الإعلامية التي صاحبت منح الجائزة، كان وراء سحب الغونكور وتسليمها لكاتبة في وضع صحي صعب. لكن الرأي العام الأدبي العام ظل مصراً على المظلمة. فأعْطِي جائزة الغونكور لطلبة الثانويات، لجبر الخاطر.
يجد الروائي نفسه اليوم على أبواب الفوز، في نهائي أهم جائزتين فرنسيتين: الغونكور Goncourtورونودو Renaudot، بروايته الأخيرة «حوريات»، أفضل عليها سياقياً عنوان «نساء الجنة»، مع العلم أن جائزة رونودو، أهم ثاني جائزة فرنسية، يترأس لجنتها هذه السنة الكاتب الكبير الحائز جائزة نوبل، لوكليزيو. الأمر الذي يبعدها عن أي شبهة محاباة، ويرفع نزاهتها عالياً. اختيرت الرواية ضمن الرباعي الأهم لنهائيات 4 نوفمبر 2024. المنافسون مهمون بلا شك وكتاب كبار، لكن رواية «حوريات» بعيدة من حيث القيمة الفنية والثقافية، وغنى التيمة تتعلق بالعشرية السوداء والاغتصابات التي تعرضت لها نساء الجزائر وقته، وسط مجتمع مضبب فرضته الرواية بناء على أطروحة: من يقتل من؟ مع أن الجماعات المسلحة والجيش الإسلامي للإنقاذ اعترفت بأغلبية جرائمها.
هل تقول أخيراً رضيت الغونكور على الجزائريين؟ يبدو أن الأمر يسير بهذا الاتجاه. لقد قضى الكتاب الجزائريون الفرانكفونيون زمناً طويلاً يجتهدون للحصول على هذه الجائزة، دون جدوى؛ لا حاج حمو صاحب أول رواية فرانكفونية «زهرة، زوجة المنجمي» في العشرينيات، وهو من المؤسسين الأوائل للأدب المكتوب باللغة الفرنسية، بهوية ظل حاج حمو يجتهد لأن تكون جزائرية، كانت في طور التكوين كوعي، ولا محمد ديب فاز بها على الرغم من كونه الأب الروحي الذي منح الأدب الفرانكفوني شرعية الوجود بعد أن سمى لويس أراغون ثلاثيته «الدار الكبيرة، النول، الحريق» ملحمة الجزائر. هو من أعطى لهذا الأدب حق التمايز الوطني، ولا العظيم كاتب ياسين الذي ثور الرواية العالمية وليس فقط المغاربية برواية «نجمة»، لكنه غادر هذه الحياة بجائزة وطنية فرنسية كبيرة، دون الغونكور، ولا حتى آسيا جبار المرشحة لنوبل العديد من المرات، بقيت في خلفية مشهد الغونكور على الرغم من احتلالها كرسي الخالدين في الأكاديمية الفرنسية؛ كل شيء إلا الغونكور؟ لماذا؟
جميل أن تنتهي معاناة عدم الاعتراف بهذا النوع من الأدب عند كتاب اللغة الفرنسية من الجزائريين وكأن هناك شيئاً يمنع أو يقف ضد.
هل تغير الوضع الأدبي في فرنسا؟ نعيش اليوم وضعاً استثنائياً، صورة العربي في الحضيض وتكاد تكون هوية العربي مقرونة بالإرهاب. الوضع في غزة وأحداث 7 أكتوبر (طبعاً لا حديث عما سبق، سبعين سنة من الاحتلال والتقتيل السهل) والانتفاضة في المناطق المحتلة والضفة الغربية، والجرائم ضد الإنسانية الممارسة ضد أطفال فلسطين و45 ألف ضحية القصف والحرق والتدمير، وإبادة مدينة، كل هذا لا يعني كثيراً كمال داود، بل يسير وفق الرؤية المهيمنة في فرنسا التي تعتبر أن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها. هو حقه، نعم، لكن الخطاب الكمالي يسير في هذا الأفق، والموائد المستديرة التي كان بطلها بلا منافس تقول ذلك. لهذا، يأتي السؤال القاسي: هل القيمة الأدبية، لا ينكرها قارئ عاقل على كمال داود، عاملاً أساسياً في ارتقاء الرواية نحو أكبر جائزتين فرنسيتين، حتى إن هناك من أطلق عليه تسمية «سيلين الرواية الجديدة»، نسبة إلى الكاتب الفرنسي الكبير سيلين.
الفرق الوحيد بينهما هو أنهما يقفان على طرفي نقيض. سيلين حورب حياً وميتاً بسبب موقفه السلبي من اليهود واتهامه بمعاداة السامية، وقد رفضت سلسلة «الثريا « la Pléiade، التي نشرت كل كتبه إلا كتابين فيهما هذه المعاداة. لهذا نسأل ونحن على مشارف حدث مهم: هل القيمة الفنية هي المحدد الوحيد والأساسي للجائزة؟ أم أن موقف كمال داود من القضية الفلسطينية، من العالم العربي، من اللغة العربية، ومما حدث ويحدث في بلده، من أحداث غزة وغيرها، من مفهومه للإرهاب (الذي يراه بعين واحدة ويغض الطرف عن إرهاب الدولة وتقتيل الفلسطينيين في غزة وتحديداً جباليا حيث الجثث المحروقة) له أثر أيضاً في هذه الجائزة؟ إذا كانت الأدبية وحدها المقياس، فلماذا إذن حرم سيلين من الغونكور التي كان فائزاً بها قبل ساعات من الإعلان الرسمي عنها. الرفض جاء بسبب بعض كتاباته المعادية للسامية، وتم سحب اسمه، وحرم من الجائزة بسبب سياسي بحت؛ لأن الأدبية كان سيدها بامتياز. أغلب الظن، سيفوز كمال داود بالغونكور لأول مرة في تاريخ الأدب الفرانكفوني الجزائري؟ وقد يفوز بجائزة رونودو وربما بالاثنتين، لا يوجد ما يمنع قانونياً، ونقول ألف مبروك لكمال بهذا الفوز العظيم، ولكن لا شيء يمنعنا من طرح السؤال: مقابل أي ثمن يا كمال؟ سؤال لا يطعن مطلقاً في هذا الاستحقاق أدبياً.