اللقب الرسمي تبدّل مراراً، فابتدأ من «مستشار الشعر لدى مكتبة الكونغرس» وانتقل إلى «الشاعر المتوّج لدى مكتبة الكونغرس» وهو يستقرّ اليوم على «شاعر الولايات المتحدة المتوّج» US Poet Laureate؛ الصفة الرسمية التي يحملها، طوال سنة أو أكثر، شاعر يختاره أمين مكتبة الكونغرس، على سبيل رفع الوعي الوطني بتذوّق أعلى لقراءة الشعر، وكتابته. ومنذ تأسيس اللقب في سنة 1937، وتحوّله إلى وظيفة فعلية في نهاية المطاف، تناوب على التتويج عدد من كبار شاعرات وشعراء أمريكا؛ بينهم، حسب ترتيب تاريخي، روبرت بن وارن، كارل شابيرو، روبرت لويل، إليزابيث بيشوب، وليام كارلوس وليامز، راندل جاريل، روبرت فروست، ستيفن سبندر، جيمس ديكي، ماكسين كومين، غويندولين بروكس، مارك ستراند، جوزيف برودسكي، ريتا دوف، لويز غلوك، شارلز سيميك، و. س. مروين… ويسعدني شخصياً أنني اقترحت على القارئ العربي ترجمات لقصائد سبعة من هؤلاء، بينهم دوف، غلوك، سيميك، ومروين).
وثمة اعتبار أوّل هامّ هو أنّ المتوّج ليس بالضرورة شاعر الولايات المتحدة الأفضل وفق إجماع الذائقة العامة أو النقاد، رغم أنه غالباً في عداد الأكثر قراءة وشيوعاً، بصرف النظر عن خياراته في المحتوى والشكل والجماليات؛ وكذلك، وقد يكون الأهمّ، مدى اقترابه من جماهيرية الشعر أو عدم اكتراثه بها، ومدى انخراطه في التجريب أو التزامه بالتقليد. اعتبار ثانٍ يتصل بما يمارسه الشاعر المستشار من فعاليات تخدم قضية الشعر على نطاق التذوّق والتوعية والتثقيف، فيُذكر مثلاً أنّ كومين دشنت ورشات كتابة شعرية للنساء، ودوف أدارت حلقات لدراسة آداب الشتات الأفريقية. اعتبار آخر على صلة بما يمثله المستشار من خطوط تنوّع ثقافي أو إثني داخل المجتمع الأمريكي، كأن تكون دوف أوّل شاعرة أفرو – أمريكية تحظى باللقب، سنة 1993؛ أو تشغله جوي هارجو، سنة 2019، كأوّل شاعرة تنتمي إلى أقوام أمريكا الأصلية، أو «الهنود الحمر» كما تسير التسمية الخاطئة.
الطليق هنا هو لغة منسرحة، طافحة بالطبيعي والتلقائي والبصري والحسّي، غير مُعرِضة عن التجريد والمجاز والترميز. وليست هذه أقلّ من أوراق اعتماد لشاعرة انتدبتها الطبيعة، في المقام الأوّل
وقبل أيام أعلنت كارلا هايدن، أمينة مكتبة الكونغرس، أنّ مستشارة الشعر المقبلة (التي ستخلف هارجو، بعد ثلاث سنوات في الموقع) سوف تكون الشاعرة أدا ليمون (46 سنة)، صاحبة سبع مجموعات شعرية؛ الأولى صدرت سنة 2006، بعنوان «أنقاض محظوظة»؛ والأخيرة بعنوان «ملجأ: رسالة حبّ إلى الأشجار»، هذه السنة. وقد يرى البعض، وهذه السطور أيضاً، أنّ اختيار ليمون يعكس نقلة لافتة على الجانب «الرسمي» من مؤسسة الشعر الأمريكية، إذا جاز التوصيف هكذا؛ نحو شعر الطبيعة واستحضار المشهد الرعوي، بما يقترن بتوجّهات كهذه من ميول غنائية أو رومانسية لم تعد مفتقَدة في كتلة الشعر الأمريكي الأعمّ، فحسب؛ بل يساجل كثيرون، وهذه السطور في عدادهم أيضاً، أنها باتت نادرة أو أقلّوية ربما.
والتصانيف النقدية، وبينها تلك المدرسية تحديداً، يمكن أن توزّع النتاج الشعري الأمريكي على «أبواب» تشمل المحتوى أو الشكل بالطبع، ولكنها تشدّد على التالي: شعر الجماليات السوداء، الآسيوية، شعر اللاتينية، الأقوام الأصلية، النسوية الجديدة، المثلية، المناهضة للإمبريالية… بحيث يمكن أن تُحشر شاعرة مثل إتيل عدنان في خانة عجيبة هي «الشعر التسجيلي» DocPo لكن ليس من المألوف أن يتجاسر الكثيرون على الإفصاح عن نزوع عميق نحو مخاطبة الطبيعة لدى هذه الشاعرة أو ذاك الشاعر. وبهذا المعنى، ثمة ما يفاجئ في اختيار ليمون، وثمة ما يبهج استطراداً، إذْ يبدو القرار أشبه بإقرار (رسمي، للتذكير مجدداً) بأنّ للطبيعة مندوبة/ شاعرة؛ وأنها، إلى هذا، يمكن أن تعكف على امتداح الأنقاض مثلما تستسهل هجاء النشيد الوطني؛ وأن تمعن في قدح «العالم الكبير الزائف»، عنوان مجموعتها الثانية، 2006؛ مثلما تغازل «أسماك قرش في الأنهار»، عنوان مجموعتها الثالثة، 2010…
ومع ذلك، وسواه عناصر أخرى كثيرة تضع ليمون على أكثر من حافّة مغايرة في مشهد الشعر الأمريكي المعاصر، ثمة ما يدهش في إلحاح الشاعرة على أنّ واجب القصيدة مخاطبة الهواجس العامة، بل الإيغال في مقاربة شؤون الحياة اليومية؛ ليس تماماً على مبدأ الالتزام، السياسي أو الاجتماعي أو العقائدي، بل لجهة إطلاق الصوت في أكثر من برّية واحدة، والإكثار من الحوار حتى بين الذات ومضاعفاتها، وصولاً إلى أعرض تواصل حول توسيع التسميات وإشاعة التنوّع. في قصيدتها «اسم»، التي تستهلّ مجموعتها الخامسة «اضطلاع»، 2018، تكتب ليمون: «حين سارت حوّاء بين/ الحيوانات واسمتهم -/ عندليب، صقر أحمر الكتفين/ سرطعون كماني، أيل أسمر -/ أتساءل إنْ كانت قد رغبتْ مرّة/ في أن يبادلوها الحديث، فنظرتْ إلى/ أعينهم الواسعة المدهشة و/ همست: سَمّوني أنا، سمّوني أنا».
وقصيدة النثر هي الشكل الذي تستقرّ عليه ليمون بصفة إجمالية، الأمر الذي لا يعيقها عن التلاعب بالهيئة الطباعية للنصّ، كأن تعتمد الكتلة المتراصّة، أو تختار تجزئتها إلى سطور قصيرة لا تطمس مع ذلك حسّ التكتّل والمقطع المتعاقب بحيث تختم سطراً بحرف عطف أو استئناف، أو تراوح بين هذه وتلك ضمن خضوع لا يخفى لمتطلبات الإيقاع الضمني الغالب في القصيدة. وأمّا الطليق هنا فهو لغة منسرحة، طافحة بالطبيعي والتلقائي والبصري والحسّي، غير مُعرِضة عن التجريد والمجاز والترميز. وليست هذه أقلّ من أوراق اعتماد لشاعرة انتدبتها الطبيعة، في المقام الأوّل.
مقال جميل عن الشاعرة الامركية أدا ليمون.اختياراتك دائما متمييزة للقراء..لديك قدرة على رصد مزاج الرأي العام.
اكيد . اكتشفت الكثير مع كاتبنا المرموق صبحي حديدي
(( وقبل أيام أعلنت كارلا هايدن، أمينة مكتبة الكونغرس )).نحتاج لمقال عن مكتبة الكونغرس ايها القلم المبدع والرائع.
يشكر الكاتب صبحي حديدي على المقال المفيد بمعلوماته عن الشاعرة أدا ليمون ، حقا كما أخذ بتوصيات أسماء ألمعية استنكفت عن الظهور لأسباب واضحة فإن تسمية «الهنود الحمر» ليست في محلها إطلاقا ويجب أن تُلغى من الخطاب “العربي” نهائيا
(ويسعدني شخصياً أنني اقترحت على القارئ العربي ترجمات لقصائد سبعة من هؤلاء، بينهم دوف، غلوك، سيميك، ومروين).
والشكر موصول للمترجم المذكور