أدونيس… المراجعة ولعنة النقد

تتطلب مراجعة الأفكار جرأة كبيرة، لاسيما تلك التي تحوّلت إلى أيقونات متعالية، أو إلى أشكال مُعقّدة تعتاش على هيمنة التاريخي – الشعري والمعرفي والبلاغي- والتي جعلت أيّ اصطدم معها محكوما بـ«التخوين» وببداهة التمرد والمروق على «خطاب الجماعة» الذي كرّسه إدمان التلقي، الذي استغرقه الخوف، والتحوّل إلى ما يشبه الخضوع، الذي فرض شروطه على توصيفات واستعمالات الخطاب، وسياسات التداول، حدّ أن البحث النقدي عن المختلف، سيكون رهينا بحيازة شهوة التجاوز، والقطيعة أحيانا، وهي لعبة خطرة يتهيّب منها «عقلنا العربي» الخجول، والمتردد في فتح سجالات فكرية ساخنة، يمكن أن تُعيدنا إلى الثنائيات الملتبسة الجحيمية حول الغائب والحاضر، والمحذوف والموجود، وإلى «الثابت والمتحوّل»
قراءة أدونيس «المُختَلف عليه» أو مراجعته، قد تدخل في هذا السياق، فالرجل عمد إلى صناعة نسق له، مُختِلف ومُثير للأسئلة، ومفارق في مقاربته لعديد قضايانا الإشكالية، التي تتعاطى مع مفاهيم الوعي والحرية، والمسؤولية الثقافية/ النقدية، وإشكالية النظر إلى التاريخ/ النص، والقراءة/ التأويل، وهذا بطبيعة الحال سيجعل من الكاتب أدونيس، حاضرا بوصفه «الأيقوني» وبامتلاكه هواجس الناقد الساخط، وخصوصية التعالي في تسويغ التعبير عن أفكاره الخلافية، وتحويلها إلى نصوص ضدية، إذ يفترض في كتابة تلك النصوص وجود خارق للمألوف، وفي إثارة جدلٍ، يُتيح له أن يكون نافرا ومُفارِقا في التدوين والتوثيق والنقد والمكاشفة، وفي جعل «لغته الشعرية أو النقدية» مجالا لتمثيل الأفكار، التي يؤمن بخلافيتها وجَدّتها، عبر المجاهرة بها، أو عبر توريتها تحت غطاءٍ فخمٍ من الاستعارات والمجازات، والمقاربات، التي تجعل من فعل الكتابة، وكأنه فعلٌ قصديٌ يتوق إلى تصريح يجاهر بالدعوة إلى نزع المعاطف الأبوية، والذهاب إلى التورط بالبنوة الحداثية، كإيهامٍ بالتمرد، والرغبة في التجاوز، وفي إخراج العالم من مركزية التاريخ، وإدخاله إلى مركزية اللغة، إذ هي فأسه، وكيسه، وترياقه، ليجد نفسه في سياق لعبة ماكرة لهذا التجاوز، عبر الاندفاع إلى التعرّف والمواجهة، ومنها مواجهة أدونيس ذاته، عبر لزوم تبنّيه خطابَ المراجعة، بوصفه خطابا نقديا يشمل النصوص، وإشهاراتها الفكرية، ورؤاها المثيرة للجدل، التي تُعبّر عن حساسية مُغالية أحيانا، مع التاريخ الثقافي، ومع الفكر العربي الإسلامي، ومع قيم الحداثة، ومع الإنسان ذاته، بوصفه الكائن الباحث عن وجوده، وعن معناه، وعن هويته الشائهة داخل لعبة الأفكار الصاخبة..
النقد الأدونيسي قد يكون هو النقد الأكثر مدعاة للمراجعة، ليس لأنه نقدٌ يتجاوز الأيديولوجيا إلى البلاغة الجديدة، بل لأنه الأكثر تعبيرا عن «المُضمرات» النسقية للذات العربية، المسكونة بذاكرةٍ مفجوعة، وبمراثي حروبٍ عبثية، وهزائم فنطازية، دون استيضاح وتعرية الأسباب التي صنعت محنتنا الفكرية، وهي أسباب لها علاقة بمظاهر التخلّف البنيوي، والاستبداد السياسي، والخضوع الغرائبي لميتافيزقيا الموت، لذا ذهب أدونيس إلى أقصى لعبته الماكرة، وهي استدعاء اللغة بوصفها الاستعاري، والذهني، ليصطنع أسواطه البلاغية، التي يجلد بها الآخرين، الذين لا يملكون القدرة الحمائية على مواجهة «الحاكميات» بمعناها الرمزي والمادي، التي عمدت إلى حماية استبدادها عبر فرض الثابت، وتكريسه كأغطية لتسويغ الحكم والمعيش وتداول الأفكار، واستهلاك الظاهر من النصوص، وقطع الطريق على «المتحرك» الثوري أو التجاوزي، حيث فرضيات النقد والتأويل، وبالتالي فإن التفكير في التغيير سيكون موضوعا آخر، يتطلب وعيا فارقا، وإرادة فارقة، مثلما يتطلب موضوعية نقدية وشجاعة معرفية في تبنّي تلك المراجعات، والتعرّف على البنى الثقافية المتوارية، وحتى البنى السياسية المُعقّدة، التي تعتاش على ما تصنعه فاعلية الحكم والسيطرة والرقابة، وعلى ما تتركه من نكوصات ترتهن بسايكوباثيا
القلق الغائر في أعماق اللاوعي العربي، الذي يتركها دائما عند حافاتٍ لا وضوح لها، ولا أفق لها سوى التفجّع بمراثي التاريخ، وبما هو ظاهر في يوميات العجز والفشل والخراب والتدمير، بوصفها الحامل الشقي لتاريخ طويل من «الأزمات» الكبرى، بما فيها أزمة العلاقة مع الآخر.
الاكتفاء بجلد الذات، وتعريض الجسد الثقافي العربي إلى العقاب غير مجدٍ، لأنّ الذات المستلبة، ستظل قاصرة، تعيش دونيتها دون شغف في المواجهة، ولا في المساءلة الجادة وروح النقد المشدود إلى المغايرة. والجسد الثقافي المخصي، والمعزول سيظل متفرجاً ومُحبطاً، وربما ينزع إلى الاكتفاء بـ»إيروسيته المرآوية» للإيهام بصناعة وهم النص الفحولي، أو التعويضي، لمواجهة كلّ ضواغط الاغتراب والاستلاب الهوياتي والكينوني، وعندئذ سيسقط حقنا في تداول الكوجيتو الديكارتي، لأننا سنكون في منطقة اللاتفكير، واللاوجود، نعيش لذائذ ورهابات الآخر، وأوهام التاريخ في مُقدّسه وفي مُدنّسه، وفي تابواته الكبرى، التي تكتفي بتشغيل النص الثقافي عند الحدود الشرعية، أكثر من اشتغالها في ما هو معرفي وإنساني ونقدي..
قد يكون أدونيس ثائرا بالمعنى الثقافي، وأنه اصطنع لنفسه لحظة فارقة في ثقافتنا العربية، وفي نظرتنا إلى مفاهيم ملتبسة و»سرديات كبرى» كالحداثة والتقدم والحرية والثورة، لكن ذلك لا يعني تماهيا مع اصطناع فكرة الأب الفرويدي، الذي يمكنه احتكار النص والسرير، بل يعني إذكاءً لدعوة التجاوز، وبالسعي إلى ضرورة تغذية عوامل المراجعة، وجعل قراءة «الخطاب الأدونيسي» مفتوحة، بقطع النظر عن التوافق أو الاختلاف معه، فنحن نحتاج اليوم إلى ما يشبه الصدمة، وربما إلى ما يشبه القطيعة المعرفية كما وصفها باشلار، لتكون دافعا نقديا لوضع «العقل العربي» الثقافي أمام ضرورات الاستعمال الإيجابي النقدي والتداولي، ليس لمواجهة النقل فقط، بل لإعادة النظر في التاريخ وفي المؤسسات وفي الذات، وفي الحاكميات التي فرضت شروط استبدادها القامعة وسط هيمنات عقيمة على نُظم التعليم والتربية والمعرفة والتدين والمعيش والقمع وغيرها..
أدونيس الشاعر، لا يختلف عن أدونيس الناقد والمفكّر والأكاديمي، وربما يكون الكاتب، هو العنوان الكبير الذي يختصر توصيفه في الكتابة، وأحسب أن هذا التلازم بين النقدي والتعليمي، سيكون حافزا، هو الآخر لمراجعة ما جرى، وما يمكن أن يجري، لاسيما بعد وقائع «ربيعنا الرمادي» الذي يفترض وجود نقد فاعل ومراجعة مكشوفة لتاريخ الخيبة، على مستوى إنتاج وتداول المفاهيم، وعلى مستوى إعادة فحص سجلات كل حرّاس البوابات الثقافية والبلاغية في واقعنا المعرفي، الذين تكرّسوا، أو ربما تواطؤوا مع أشباح حرّاس الأيديولوجيات الكبرى..
الحديث عن الحاجة إلى الثورة والمغايرة والاختلاف، يعني الحاجة إلى الخروج، لعبة ذلك «التواطؤ» الذي يشبه المغايرة، ومواجهة ما تُرِك لنا من ركامات هائلة من النصوص والوثائق والأحكام السلطانية، التي تكفي لصنعِ حرائق خارج الاستعمال، ليس لأنها أصبحت من حصّة المتحف، بل لأنها مصادر مهمة لتأطير فاعلية النقد، ولتنشيط محركات المراجعة، وأحسب أن مثل هذه المراجعة، ستكون فاعلة عبر قراءة فاحصة لمشروع شاعر وناقد بأهمية أدونيس إذ ستمنحنا لذة الغواية بمواجهة صادمة مع مخازن التاريخ ومتاحف اللغة، ومع أيقوناتها، التي هي بعض أحلام أدونيس ذاته، الذي ظل يحلم ويتشهى التمرد من خلالها، على معطف الشيخ «العامودي» والفكر «العامودي» وعلى سلطة «حارس المكتبة» ولما يُخفيه من أشباح وكتب صفر، والقيام بوظيفة التحريض على استدعاء لصوص المعرفة، أولئك الذين يتشهون حرق مكتبته الملعونة، المسكونة بأشباح «جمعية الشعراء الموتى» لذا لا تتبدى أسئلة المراجعة النقدية، إلا بوصفها أسئلة لتغذية تلك المواجهة، ولتجاوز مألوف النقد النمطي إلى النقد التمثيلي الذي يمكن أن يجعل من الفكرة لصيقة الجملة الثقافية، ومن التوصيف النحوي عالقا بالتوصيف الثقافي..
تتبدى خطورة المراجعة من خلال الحفر في سيرة أدونيس المُفكّر، الذي يُعدّ من أكثر مثقفينا صناعة للشكوك المعرفية، وللصخب البلاغي، من خلال مقاربة مشغله النقدي، والتعرّف على طريقته في تقعيد ولي عنق المفاهيم، وفي النظر إلى وظائفية الكتابة الضد، والتفكير الضد، وهي ممارسات قد تكون غير مأمونة، لكنها ستكون أكثر تحريضا في معاينة مشروعه النقدي، وعلى طريقته في النظر إلى معطيات واقعٍ عربي معقّد، وعلى نحوٍ قد يجعل من فاعلية «نقد النقد» متاحا في نقد المشروع الأدونيسي، وكذلك في نقد الواقع، وفي ما يُخفي ويحجب تحت غطائه الرسمي، من خرابات فكرية مريعة، ومن استبدادات تطال منظومات الحكم والعقل، التي ظلت تفرض شروطها على عودة التاريخ إلى المكتبة وإلى السلطة وإلى الفرد، وصولا إلى إعادة تموضعنا إزاء آخرٍ غامض، حتى وإن ترجمنا نصف كتبه، لأننا سنظل مسكونين بعقدة ثنائية هيغل، «السيد والعبد» وبكل أشباح الماضي، التي لا نملك قدرة على طردها بسهولة، ولا إزاحة وجودها في مطابخنا الثقافية، فالإزاحة ليست لعبة تغيير كراسي العائلة، بل تحتاج إلى مغامرة في التقويض، وفي التسلّح، وفي التنمية، وفي وعي نقدي خارق لمسؤولية التشييد، التي يدخل فيها الصناعي والثقافي والمعرفي والعلمي، فضلا عن غواية وحساسية الهجس بالآتي..

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية