أديان توني بلير

حجم الخط
1

لا يُدهَش المرء، بل قد يُتاح له الضحك إلى حدّ القهقة العالية، إزاء تطوّر يفيد بأنّ توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، هو المنجذب الأحدث إلى إغواءات نظرية صمويل هنتنغتون حول صدام الحضارات والأديان؛ الآن وقد شبعت احتضاراً، ودُحرت مراراً وتكراراً على أرض الواقع، معظم أطروحات تلك النظرية. كأنّ بلير يدخل إلى أسواق التنظير القديمة، هذه وسواها، على هيئة زائر منذهل مأخوذ بما يكتشف من عجائب؛ أو كأنّ تمثيل اكتشاف الجديد هو التكتيك الأصلح لاستغفال العقول، و… استدراج التمويل، قبلئذ وبعدئذ!
ذلك لأنّ راعية هذا التطوّر هي ‘مؤسسة توني بلير للإيمان’، التي أسسها صاحبها سنة 2008، في نيويورك، ولها فروع وشراكات وتعاقدات ومشاريع في عشرات البلدان، وقد جمعت تبرعات بعشرات الملايين، ورواتب كبار مسؤوليها تُحتسب بستة أرقام. وإذْ تعلن المؤسسة أنّ فلسفتها المركزية هي التقريب بين الأديان التوحيدية الثلاثة، فضلاً عن البوذية والهندوسية والسيخية؛ فإنّ بلير نفسه لا يعود إلى استلهام هنتنغتون إلا لكي يشدّد على اصطراع الأديان والمذاهب، وأنّ ‘الخلاف الديني، وليس الايديولوجيا، هو محرّك المعارك الملحمية في هذا القرن’، كما يقول عنوان مقالته التي نشرتها صحيفة ‘الأوبزرفر’ البريطانية، يوم أمس.
ما نشهده من ‘هجمات إرهابية فـــــي الأماكن الواضحــــة’، يكتب بلير، ويسمّي ســـورية وليبيا والعـــــراق ولبنان ومصر واليمن والباكستان (ثمّ، في استطراد لاحق: نيجيريا، وأماكن كثـــيرة في أفريقيا الوسطى، وروسيا، وآسيا الوسطى…)؛ هي بعض تلك ‘المعارك الملحمية’، التي قد يعتبرها البعض منفصلة، أو ـ كما يوصي حكيم الإيمان، وتعايش الأديان ـ يتوجب ‘البدء في رؤية القاسم المشترك بينها، والبدء في إنــــتاج ستراتيجــــية كونية أصيلة للتعامل معها’. كيف؟ الوصفة بســيطة، جدّاً في الواقع، ولهذا فإنها سحرية استطراداً: ‘يجب أن نشجّع التعليم والتسامح، إذا شئنا تحقيق السلام في الشرق الأوسط والعالم’؛ هكذا، ليس أكثر!
كذلك، إذْ يضرب بلير سورية مثالاً على تصارع الأقليات الدينية، فقط ـ وليس، البتة، صراع الشعب ضدّ نظام استبداد وفساد، متعدد الطوائف، فاشيّ البنية، وحشيّ الأدوات، همجي الأجهزة، بربريّ الأنصار… ـ فإنّ ‘الديمقراطية ليست سبيلاً في التصويت. بل هي سبيل في التفكير’. نحن، بذلك، شعوب لن تتخذ معاركنا صفة الصراع من أجل أنظمة سياسية أفضل، كالديمقراطية ضدّ الاستبداد مثلاً؛ بل سيكون جوهر الصراع هو ‘الفارق الثقافي والديني’، وحده وحصرياً. وهيهات، حسب بلير، أن نرى سورية مستقبلية يتعايش فيها السوريون على قدم المساواة، بغضّ النظر عن الدين الذي يعتنقونه، أو الجزء الذي ينتمون إليه من ذلك الدين؛ ‘طالما أنّ مجموعة أقلية تحكم بلداً غالبيته مختلفة الانتماء، أو طالما أنّ صفوف أولئك الذين يقاتلون النظام تضمّ أيضاً عناصر ترغب في الحكم على أساس الفارق الديني’.
أقدارنا مختومة مرسومة مسبقاً، إذاً؛ ولا سبيل إلى ارتياد آفاق جديدة، ديمقراطية وعصرية ومدنية وتعددية، ما دام هذا ‘الفارق’ خالداً أبد الدهر، أزلي العواقب، مطلقاً ومغلقاً وكتيماً…؟ ومَن الذي يشخّص حالنا هذه، هذه الأيام تحديداً، سوى بلير دون سواه: ذاك الذي كانت صحيفة ‘الإندبندنت’ البريطانية قد قدّرت أتعابه بمليونَيْ جنيه سنوياً من مصرف بريطاني كبير، ونصف مليون من شركة خدمات مالية سويسرية، وأجور تتراوح بين 50 و170 ألف جنيه لقاء محاضرات متفرقة، إلى جانب أرباح مؤسسة ‘بلير وشركاه’ للاستشارات عبر البحار؛ وعلى نحو تقريبي، بلغت حصيلة ما جناه بعد أن ترك المنصب، سنة 2007، قرابة 15 مليون جنيه إسترليني.
كلّ هذا حين كان على أعتاب المثول أمام ‘لجنة شيلكوت’ البرلمانية البريطانية، التي تولت التحقيق في خلفيات التحاق بريطانيا بالولايات المتحدة أثناء غزو العراق واحتلاله، وسط إصرار بلير على أنه كان سيشارك واشنطن في الإطاحة بنظام صدّام حسين حتى دون التأكد من وجود أسلحة الدمار الشامل. أكثر من هذا، بلغ به الصلف حدّ التصريح، علانية، بأنّ عدم العثور على تلك الأسلحة كان تفصيلاً ‘فنّياً’ محضاً؛ وأمّا ‘الصورة الأهمّ’ في المشروع بأسره، أي الغزو والاحتلال وقلب النظام، فإنها كانت ثقته القصوى بصواب قراراته، ومشروعيتها وأخلاقيتها.
معروف، أيضاً، أنّ بلير زاود على البيت الأبيض، ذاته، في تصعيد الحرب النفسية، خصوصاً حين نشرت حكومته ما أسمتها ‘تقارير سرية خطيرة’، عن وجود ترسانة عراقية مرعبة، خرجت بغتة من مغارة على بابا: صواريخ سكود سليمة مصانة، وأطنان (نعم، أطنان!) من المواد الكيماوية الجاهزة للتحوّل إلى أسلحة كفيلة بإبادة ‘سكان الأرض بأكملهم’، كما جاء في النصّ الحرفي حينذاك. ولقد تطوّع لتبرير فضائح بيل كلنتون الجنسية، خائناً بذلك ‘مدوّنة السلوك’ التي بشّر بها طويلاً، هو المعروف بدفاعه المحموم عن ‘القِيَم العائلية’، وسعيه إلى تجسيد ‘المعجزة الأخلاقية للبريطاني النيو ـ فكتوري’، السائر على السبيل الثالث بين اليمين واليسار!
ها هو اليوم يصل، متكئاً على عكاز، إلى نقطة افتضاح علوم ‘الغرب’ عــــن الشرق’، حيث تعفنــــت التنميطـــــات الاستـــشراقية، وصدئت التنظيرات التبسيطية التسطيحـــية؛ آتياً من ركام ما خلّفه هنتنغتون، حول صراع الأديان وصدام الثقافات؛ ليس دون أن تكون جيوبه محشوّة مثقلة بالملايين، مع ذلك… وبسبب ذلك، أوّلاً!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حي يقظان:

    تصحيح معرفي بسيط:

    أخي صبحي،

    في الحقيقة، النظرية الفاشية القائلة بأن جوهر الصراع بين الحضارات إنما يكمن في الفارق الثقافي والديني، وحده ليس غير، لا تعود إلى “المنظِّر” هنتنغتون على نحوٍ حصريٍّ، بل مردُّها الأصلي إلى المؤرِّخ الإنكليزي آرنولد توينبي (1889-1975)، المؤرِّخ الذي كان ينتهج منهجًا روحانيًّا محضًا في قيام الحضارات وسقوطها – على النقيض من المنهج المادي الذي كان ماركس ينتهجه دونما كَلَلٍ أو مَلَل.

    ما فعله هنتنغتون، في الواقع، إنما هو التركيز المفرط على الجانب الرُّوحاني لمنهج توينبي وإعطاؤه بعدًا فاشيًّا صارخًا إلى درجة أن هذا الأخير (أي توينبي) طُمِسَ من على وجه التاريخ بوصفه مؤرِّخًا ليس ذا أهميةٍ تُذكَر، أو أُظْهِرَ من وراء سدول التاريخ نفسهِ على أنه مؤرِّخٌ أشدُّ فاشيَّةً حتى من هنتنغتون ذاته – على الرغم من تعاطفه النسبي (أي توينبي) مع العرب!!!

إشترك في قائمتنا البريدية