بيروت ـ «القدس العربي»: ما من شك أن الانتصار الذي حدث في الحادي عشر من فبراير/ شباط 1979، وأدى إلى الإطاحة بالنظام الملكي الشاهنشاهي، لم يكن وليد الحراك الشعبي الذي بدأ قبل أقل من عام عليه (1978)، بل نتيجة لتراكم بدأ مطلع القرن العشرين مع الحركة الدستورية (1906)، وما اسست له حياة برلمانية تطمح لضبط السلطة المطلقة للشاه القاجاري والانتقال إلى تعددية سياسية، فكانت إيران من ضمن ثمانية دول في العالم التي تمتلك دستورا يشكل عقدا اجتماعيا تدار الدولة على أساسه.
المحطة الثانية الأبرز، كانت الحراك الذي قام به رئيس الوزراء محمد مصدق، المنتخب دستوريا، على الرغم من إرادة الشاه في 1951، فأحدث تغييرات جوهرية في بنية الدولة والمؤسسات، وأعلن عن تأميم النفط على حساب سلطة الشاه محمد رضا بهلوي، الذي خرج من إيران ولم يعد إليها إلا بعد أن نفذت المخابرات الأمريكية والبريطانية عملية أمنية وعسكرية وإجتماعية باسم (أجاكس) انتهت بالإطاحة بمصدق وعودة الشاه والتأسيس الجديد للسلطة المطلقة للملك.
مصدق الذي يعتبر من نتاج الثورة الدستورية (انتخب نائبا عام 1906)، اعتمد في حركته على تحالف بين حزب الجبهة الوطنية الذي اسسه عام 1944 والمؤسسة الدينية وآية الله السيد أبو القاسم كاشاني اداراكا منه لدورها المؤثر منذ الثورة الدستورية، لكن هذه الشراكة انتهت عندما استطاع الطابور الخامس من زرع الشكوك لدى هذه المؤسسة واتهام مصدق بالتحالف مع القوى اليسارية وحزب توده الشيوعي والقوى الليبرالية. وأدى هذا الخلاف الى ترك مصدق وحيدا في مواجهة أجهزة المخابرات والمؤيدين للنظام الملكي.
المحطة الثالثة، كانت في الحراك المشترك بين حزب الجبهة الوطنية والمؤسسة الدينية ممثلة بآية الله روح الله الخميني في 6/6/1963 اعتراضا على «الثورة البيضاء» التي أعلنها الشاه في الاصلاحات الزراعية والأراضي وتوزيعها، وهذا الحراك كان المدخل الذي اسس لدور الامام الخميني كأحد ابرز قيادات المعارضة ضد النظام الملكي، وانتهت الى ابعاد الخميني من إيران باتجاه تركيا بداية ومنها الى الحوزة الدينية في النجف الاشرف في العراق. وهي المرحلة التي اسست ايضا لظهور حركة تحرير إيران بقيادة مهدي بارزكان من قلب الجبهة الوطنية.
الانتقال الى الجمهورية
على غرار الشراكات التي حصلت بين القوى المدنية والمؤسسة الدينية منذ مطلع القرن العشرين، حصلت هذه الشراكة في الثورة التي انطلقت شرارتها في أكتوبر/ تشرين الأول 1977 واستمرت حتى مطلع فبراير/ شباط 1979 عندما حطت الطائرة الفرنسية التي تقل الإمام الخميني من منفاه الباريسي إلى طهران معلنا انتهاء العهد الملكي وبداية العهد الجمهوري الإسلامي الذي أسس ودعا له في كل المواقف والتصريحات التي أطلقها من ناحية نوفل لوشاتو الباريسية.
بعد الاستفتاء على النظام في إيران الثورة في 30 مارس/ آذار 1979، انتهى إلى إقرار قيام نظام جمهوري إسلامي بواقع أكثر من 98 في المئة من الأصوات، وهو الاستفتاء الذي شاركت فيه كل القوى التي كان لها دور في الثورة مثل الأحزاب اليسارية الشيوعية (حزب توده) واليسار الإسلامي (مجاهدي خلق) وكل تفرعاتها، الحركات الطلابية الليبرالية والاسلامية وحركة تحرير إيران والقوى الاسلامية واحزابها.
هذه المرحلة من التعايش بين القوى السياسية استمر لمدة سنتين، شهدت تشكيل حكومة انتقالية برئاسة مهدي بارزكان وعضوية شخصيات ليبرالية وقومية بعيدا عن أي صبغة دينية، انتهى المطاف بهم بالاعدام (صادق قطب زاده) او الاغتيال (داريوش فروهر 1998) او المحاصرة (مهدي بارزكان وابراهيم يزدي وعزت الله سحابي).
أول انتخابات رئاسية جاء على إثرها أبو الحسن بني صدر، رئيسا للجمهورية بدعم واضح ومباشر من الإمام الخميني الذي كان في تلك المرحلة رافضا مشاركة رجال الدين في المناصب الرسمية، وشكل بني صدر أول حكومة من مستقلين (ليبراليين ومدنيين) وإسلاميين مدنيين (أحزاب اسلامية) باستثناء وزير الداخلية من رجال الدين هو محمد رضا مهدوي كني.
هذا الهامش من الحرية والدعم الذي قدمه الخميني لبني صدر، استغله الأخير في مواجهة المؤسسة الدينية التي كانت تخوض صراعا من أجل تثبيت شراكتها في السلطة انطلاقا من مبدأ تثمير دورها وجهدها في الثورة وانتصارها، ولم يكن رهان بني صدر على حيادية الخميني او اعتماده على التحالف مع قوى اليسار الدينية (مجاهدي خلق) في مكانه، ما دفع النظام ومؤسساته ويتأييد من المؤسس الى تنشيط الاليات الدستورية وازاحة بني صدر عن الرئاسة عبر إسقاط أهليته في البرلمان وتحويله إلى ملاحق بتهمة الخيانة والتقصير في أداء واجباته.
اختيار بني صدر للتحالف مع «مجاهدي خلق» جاء في مرحلة تاريخية كانت هذه الجماعة قد دخلت في صراع مسلح مع القوى الثورية التي تولت السلطة وحولت شوارع المدن الإيرانية، خاصة العاصمة طهران إلى ساحات قتال واغتيالات، طالت رئيس الجمهورية محمد علي رجائي ورئيس وزرائه محمد جواد باهنر وقيادات أخرى.
وبالتالي، اتخذ النظام قرارا بتصفيتها واعتقال كل المنتمين إلى صفوفها وملاحق الآخرين. وعليه، أسست هذه السياسات والمواجهات إلى تمهيد الأرضية لتولي التيار الديني ومؤسسته على مقاليد السلطة ومؤسسات النظام التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية والعسكرية.
وقد برزت أولى إرهاصات هذا التحول من خلال موافقة الخميني على دخول رجال الدين إلى السلطة التنفيذية والمشاركة في الانتخابات الرئاسية والتي انتهت بانتخاب علي خامنئي أول رجل دين، رئيسا للجمهورية.
الصراع داخل البيت
النظام الإسلامي، ومن أجل مواجهة الأحزاب اليسارية واليمينية والليبرالية والقومية، ذهب باتجاه تأسيس حزب للنظام أطلق عليه اسم «حزب جمهوري إسلامي» والذي تولى رئاسته خامنئي بعد اغتيال محمد حسين بهشتي، وتحول إلى حزب الدولة والنظام وسادت أجواء شعبية دينية ووصولية بوجوب الانتماء الى هذا الحزب على غرار ما كن سائدا في العهد الملكي والتعاطي مع حزب «رستاخيز ـ البعث»، او حزب البعث العراقي «العراقي بعثي وان لم ينتم». الا ان هذه الحالة تراجعت عندما سارع الخميني لوضع حد لهذه الحالة عندما اتخذ موقفا غير ايجابي من العمل الحزبي، فانحسر تأثير الحزب الشعبي ولم يعد ذا تأثير سياسي بعد ان كان اللاعب الاساس في تشكيل اول حكومة في عهد الرئيس خامنئي بين عامي 1981-1985.
طهران محكومة باتباع نهج الاعتدال الذي يحاول روحاني التأكيد عليه
والولاية الثانية من رئاسة خامنئي للجمهورية بين عام 1985 ـ 1989، شهدت أول انقسام داخل تشكلات المؤسسة الدينية الحزبية، اذ حدث خلاف على آلية ادارة الدولة والمجتمع داخل جماعة رجال الدين المجاهدين الذي يضم كل القيادات الدينية في النظام ادى الى خروج قسم منهم بزعامة كل من الشيخ مهدي كروبي وموسوي خوئينيها ومحمد خاتمي من هذا التشكل وتأسيس ما عرف لاحقا بجماعة رجال الدين المناضلين، والذي تحول لاحقا الى تجمع للاصلاحيين داخل المؤسسة الدينية، هذا الانشقاق وكما يقول كروبي لم يواجه اي اعتراض من مؤسس النظام الامام الخميني، بل رأى فيه حالة صحية تعبر عن تعدد الاصوات والتوجهات، تحت سقف النظام والمؤسسة.
مع وصول رفسنجاني الى رئاسة الجمهورية وتزامنها مع وقف الحرب مع العراق، اطلق مشروع اعادة البناء ومعه اعادة هيكلة النظام الاقتصادي للنظام الاسلامي والانتقال من التجارة ودور البازار الى الاقتصاد الصناعي، وهذا التحول كان بحاجة الى كتلة سياسية حاملة له، فبدأت تظهر حول رفسنجاني بودار تشكل حزبي عرف باسم حزب كوادر البناء الذي شرع الابواب امام دور فاعل لشريحة اكثر دينامية واقل تشددا وغير بعيدة عن ليبرالية نسبية او خفية، والتي اسست ايضا لمراجعات واسعة للتجربة السابقة ومحاولات التصحيح، وهي المرحلة التي اسهمت في بلورة ما بات يسمى لاحقا بالتيار الاصلاحي داخل النظام. والذي وصل الى اوج نفوذه وحضوره مع تولي محمد خاتمي رئاسة الجمهورية التي وصلها على الرغم من كل الهندسات التي قام بها النظام لايصال مرشحه الشيخ على اكبر ناطق نوري المحسوب على التيار المحافظ او جماعة رجال الدين المجاهدين.
الإصلاحات وتحديات السيطرة
اذا ما كانت مرحلة رفسنجاني قد قامت على مبدأ غير معلن من تقاسم السلطة بين رئيسي النظام آنذاك السيد علي خامنئي الذي اصبح وليا للفقيه ومرشدا للنظام بعد رحيل المؤسس، وانتقال رفسنجاني من رئاسة البرلمان الى رئاسة الجمهورية بعد اجراء تعديلات على صلاحيات الرئاسة وهيكلية السلطة التنفيذية والغاء منصب رئيس الوزراء في الاستفتاء الشعبي الذي حصل قبيل وفاة الامام الخميني، فان انتخاب خاتمي لرئاسة الجمهورية شكل تحد كبير للنظام وقياداته المحافظ باستثناء رفسنجاني الذي بدأ يظهر ميلا للتمايز عن التيار المحافظ او المتشدد.
فقد شكل وصوله رسالة شعبية صارخة بوجود حالة اعتراضية على دور التيار الاصولي في ادارة النظام واتهامه بالهيمنة وهندسة الانتخابات، اذ ساد شعار «انتخب خاتمي يخرج نوري»، الا ان كثافة المشاركة الشعبية في الاقتراع جعل من الصعب امام الالة الهندسية للنتائج ان تحدث تغييرا فيها، فاجبر النظام على القبول بما جاء في صناديق الاقتراع لصالح خاتمي، الذي اصبح رئيسا للجمهورية بقوة «لا» شعبية بوجه مرشح النظام.
من الشراكة الى التنافس انتقلت النظام الإيراني من رئاسة رفسنجاني الى رئاسة خاتمي، ودخلت معه الحياة السياسية الإيرانية مرحلة من التحديات والصراعات بين مفردات مشروعين متعارضين في رؤيتهما لادارة النظام والدولة، ففي مقابل القبضة المتشددة التي يريد التيار المتشدد والمحافظ فرضها على النظام، قدم خاتمي مشروعا يقوم على تعزيز صلاحيات المؤسسات المدنية والرسمية والحد من دور المؤسسات الموازية وتعزيز المشاركة الشعبية وبناء اللامركزية الادارية وتعزيز الحريات الفردية والسياسية وحرية التعبير والرأي والاعلام، اضافة الى تعزيز الانفتاح على الخارج والحد من التوترات في السياسة الخارجية وتعزيز العلاقات مع المحيط العربي والاسلامي. وما دفع التيار المحافظ لاستنفار كل طاقاته وقدراته من اجل وضع العراقيل وخلق الازمات امام ادارة خاتمي وافشالها ويالتالي اخراج القوى الاصلاحية من السلطة ودائرة القرار وهذا ما تم مع وصول محمود احمدي نجاد في رئاسة الجمهورية.
الوصول الإشكالي لمحمود أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية، يمكن اعتباره بأنه يقارب الكارثة على كل ما أسسه الرئيسان السابقان رفسنجاني وخاتمي، ومهدت لعودة التيار المتشدد للسيطرة على كل مراكز القرار في النظام والدولة واعتماد سياسة تدمير كل ما تحقق من انجازات على صعيد المجتمع المدني والحريات وحتى العلاقات الدولية.
وقد تميزت هذه المرحلة بانها مرحلة تخبط مفاهيمي بين الإيديولوجيا ومبدأ بناء الدولة الذي يأخذ بالاعتبار المستجدات المجتمعية والسياسية واعتمد احمدي سلوكيات لا تعدو كونها مفاهيم شعبوية على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهي سلوكيات لا تعتمد على رؤية او بعد فكري واضح.
فقد ساهم هذا الرئيس في نسف كل الانجازات التي تحققت في المرحلتين السابقين، إن كان على مستوى إزالة التوتر مع المحيط والإقليم، خاصة في شقيه العربي الدولي. ولم يستطع الاستمرار في نهج الانفتاح الذي ورثه، ولم يقدر أن يعود بإيران إلى مرحلة تبني مبدأ تصدير الثورة أو فرض سياسة خارجية ارتدادية تستعيد مبادئ مرحلة التأسيس، ما وضع الثورة ونظامها أمام تحد الاستمرار أو الانهيار والتفكيك نتيجة تبنيه سياسة كيدية في مواجهة خصومه وحتى داعميه ومؤيديه، إلى جانب شعبوية اقتصادية حولت الاقتصاد الإيراني إلى اقتصاد ريعي ونفعي بشكل كبير، إلى جانب تبني سياسات اقتصادية عشوائية انتهت إلى تفشي ظاهرتي الفساد والاختلاس التي استنزفت الاحتياطي المالي لإيران.
روحاني ومرحلة الترميم
يمكن وصف رئاسة حسن روحاني بأنها مرحلة ترميم بنى النظام السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالحد الممكن. وهذه المرحلة التي لم تكتمل بعد صورتها النهائية من الناحية الفكرية والعملية، لكنها ورثت صراعا مفتوحا بين المكونات الإيرانية السياسية والاجتماعية، مرشحة لتكون مرحلة إعادة تكوين في حال تم التعامل معها بانفتاح وتخلي بعض مراكز القرار عن سياسة الإلغاء وعدم الاعتراف بالتعدد الذي بات واقعا لا يمكن انكاره، وبالتالي، منح هذا النظام وهذه الثورة دفعا جديدا للاستمرار والبقاء.
التحديات التي تواجهها إيران والتي تفرض عليها التفكير الجدي بالتعامل مع حقائق وضرورات الانفتاح على المستويين الداخلي والخارجي، قد تكون نتيجة ما تعيشه هذه الساحة من اتساع دائرة القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة والتي باتت تمتلك قاعدة شعبية داخل النظام تسمح لها بفرض تعاطي مختلف من قبل النظام عما سبق له أن اعتاد عليه، وهي تعددية يمكن أن تخرج إيران من استقطاب الثنائية الحزبية التي لم تفلح بفرض نفسها في مرحلة الرئيس خاتمي كواقع وحقيقة سياسية. ما يعني أن إيران ستكون محكومة باتباع نهج الاعتدال الذي يحاول روحاني التأكيد عليه، وبالتالي، كسر الأجواء المغلقة ومنح المزيد من الحريات السياسية والعمل الحزبي من دون حواجز وإن كانت ضمن ضوابط الدستور.
وفي حال لم تذهب إلى هذا المسار فقد تنحو نحو المزيد من فرض القبضة الحديدية التي تحمل في داخلها عوامل ومسببات الانفجار، ومعه لن تكون العسكريتاريا قادرة على السيطرة وضبط الأمور.