يوما بعد آخر تتزايد تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن نيته دعوة بشار الأسد للقاء ومصالحة تنهي القطيعة التي بينهما وفتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين الجارين، الاستدارة التركية نحو نظام الأسد سبقتها مسارات تغير كثيرة في السياسة الخارجية التركية في المنطقة العربية، حيث استعادت تركيا علاقاتها مع دول الخليج، وكذلك مع مصر، والمتابع لتصريحات الرئيس التركي، يلاحظ تغيير مواقفه دون تحفظات، وانعكس ذلك على السياسة الخارجية لحكومته، مع العديد من الدول وتحولها من القطيعة إلى علاقات كاملة، فتعاطي السياسة التركية مع التحولات الاقليمية والدولية، يجعل استدارتها نحو دمشق أمرا طبيعيا، وفي سياق تعديل أنقرة لمسار سياستها الإقليمية.
ومنذ بداية الثورة السورية عام 2011 رأت تركيا في دعم الثورة السورية، سياسيا وعسكريا واحتضان المعارضة السورية، فرصة لتحقيق مصالحها في الجغرافية السورية، إلا أن التطورات لم تجرِ كما اشتهت أماني سياستها التي كان تتوقع سقوط نظام الأسد في غضون أشهر قليلة، الأمر الذي اضطرها لتغيير استراتيجياتها حيال القضية السورية مرارا وتكرارا.
وهناك عدة أسباب كانت وراء اندفاع تركيا، لتقديم دعم للثورة السورية، ومن أهمها زيادة قوتها في موقع القوى الإقليمية التي تريد الاستحواذ على المنطقة، وأي تغيير في سوريا التي تجاورها بحدود طويلة من جنوبها سينعكس على استقرارها وأمنها القومي، وقد يصبح تهديدا أمنيا بالنسبة لها، والاستفادة من الدعم الخارجي للثورة السورية، هو ما شجع الدبلوماسية التركية لمسايرة الرغبة الدولية في تغيير نظام الأسد، وكسب المواقف ذات الفائدة السياسية والدبلوماسية. وكذلك رأت تركيا إن إيران وروسيا تنافسانها على الجغرافيا السورية، وازدياد نفوذهما على حساب مصالحها.
بعد 14 عاماً لم تدرك المعارضة السورية أنه لا يوجد ثبات في السياسة، ولكن هناك مصالح متغيرة فثوابت السياسة هي تغير المصالح
الاستدارة التركية نحو الأسد، يحكمها العديد من الأسباب التي تدفعها نحو سياسة «تصفير المشكلات»، أبرزها الوصول إلى قناعة بأن الحوار والتطبيع مع الأسد هو أفضل الوسائل للوصول إلى تفاهمات بشأن نقاط الخلاف والصراع، فتركيا التي تمكنت من تحقيق نجاحات اقتصادية كبيرة، بفضل سياساتها الإيجابية مع جميع الدول المجاورة، ولاسيما العربية، من خلال تطبيق سياسة «صفر مشكلات»، أصبحت تعاني اقتصادياً، بعدما حادت عن هذه السياسة وانزلقت في صراعات وخلافات مع مختلف دول الإقليم، في مرحلة ثورات الربيع العربي، وبشكل أثّر على التعاون الاقتصادي بينها وبين باقي دول المنطقة، ومن ثم تضرر اقتصادها، ما دفعها للعودة من جديد لسياسة تحسين العلاقات وإنهاء الخلافات، فأنقرة طبعت مع الإمارات والسعودية ومصر، وأعادت العلاقات الكاملة مع إسرائيل، وهي تنفذ سياسة توازن بين روسيا وأوكرانيا، وإشراف تركيا على عودة تجارة الحبوب بين كييف والعالم، وكذلك الحفاظ على العلاقات مع الحلف الأطلسي، بالموافقة على دخول السويد والنرويج، وتزويد كييف بمسيرات بيرقدار.
وتمثل تصريحات المسؤولين الأتراك، هبوطا اضطراريا عن السقف العالي الذي لم تستطع أنقرة اجتيازه، على مر السنوات، وهو الحصول على موافقة أمريكية وغربية لتوسيع تدخلها العسكري لزيادة رقعة «المنطقة الآمنة» على حدودها الجنوبية مع سوريا، لأن ذلك يصطدم بالسياسة الثابتة الأمريكية بدعم ميليشيات «قسد»، وكذلك المواقف الروسية والإيرانية الرافضة لتوسع تركيا. وتشكل المشاكل الداخلية في تركيا وتنامي العنصرية ضد اللاجئين السوريين بعدا مهما في مسار تطبيع العلاقات بينها وبين وسوريا، حيث تحظى مطالب المعارضة التركية بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، بتأييد واسع في الشارع التركي، وعودة اللاجئين تتطلب تنسيقا بين حكومتي أنقرة ودمشق. وكذلك حالة الجمود التي تسود الوضع العسكري في الشمال السوري، وأن الحسم العسكري صعب، حيث توجد القواعد الأمريكية التي تدعم قوات ميليشيات قسد في شمال شرقي سوريا، فتركيا تحرص على التطبيع مع نظام الأسد، ليصبح شريكا لها في حربها ضد قوات «قسد» ودرء تنامي قوتها وخطرها على حدودها الشمالية، وهذا من باب المصالح المتغيرة في السياسة، فتركيا التي دعمت الفصائل العسكرية للمعارضة السورية ضد قوات نظام الأسد، لديها رغبة قوية في دمج فصائل الجيش الوطني مع جيش الأسد لمواجهة قوات ميليشيات «قسد» وعدوها التاريخي الذي يتزعم تلك الميليشيات حزب العمال الكردستاني، فالحدود الجنوبية لتركيا مع سوريا تسيطر عليها سلطات أمر واقع مختلفة، وتدعمها قوى متعددة، فقوات ميليشيات «قسد» تسيطر على جزء منها في شمال شرق سورية، وهيئة تحرير الشام في إدلب، وما تبقى تسيطر عليه تركيا عبر القوى العسكرية للمعارضة السورية، وهذه الحدود تشكل سياجا أمنيا لتركيا، واتفاق سلام مع الأسد سيجعل من الحدود الجغرافية كلا لا يتجزأ ويرسم مناطق النفوذ وقد يؤدي إلى تسوية مستقرة بين الجارتين في المدى الطويل.
الكثير من المستجدات تدفع تركيا لاستعجال التطبيع مع نظام الأسد، وما ستفرضه نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة على اللاعبين في الساحة السورية من حسابات تجعلهم يقيسون وقع خطوات سياستهم على الرئيس الأمريكي الجديد، الذي سيدخل البيت الأبيض، كما أنّ استعادة أنقرة علاقتها مع دمشق ونيتها في فتح معبري كسب وأبو الزندين، يخفف على الاقتصاد التركي خسائره، ويمهد لفتح الطرق الدولية من دمشق نحو الخليج العربي، وإعادة علاقاتها مع دمشق وما يلزمه من ترتيبات أمنية يتيح البدء بتنفيذ خطط إعادة الإعمار، وفتح الطريق أمام الشركات التركية للمساهمة وتحقيق مكاسب. تغير مواقف أردوغان من الأسد قد تضمن له سحق حزب العمال الكردستاني، الذي تسيطر قواته على شمال شرق سوريا وضمان موافقة روسيا على ذلك، التي تطالب تركيا بدرء خطرهم بالتعاون مع حاكم دمشق، حيث ترى أنقرة أن خطرهم على حدودها وأمنها القومي أكثر من قوات نظام الأسد، وسعيهم لانتخابات بلدية في المناطق التي يسيطرون عليها، وخيبة أمل تركيا من أمريكا التي تدعمهم ولم تلب وعودها معها بشأنهم.
وفي حال تم استئناف العلاقات بين دمشق وأنقرة، فإن إيران التي ساهمت في بقاء الأسد بالسلطة من خلال دعمه عسكريا عبر ميليشياتها لن تقبل بإبعادها عن المفاوضات، التي ستساعد على زيادة الشراكة بين إيران وتركيا والحد من عزلة الأسد، والعمل على إعادة العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية في المنطقة. فالعديد من الأسباب الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تدفع تركيا للتطبيع مع الأسد، وكذلك الوعود الكاذبة من الدول الغربية وأمريكا في إسقاط نظام الأسد، التي أحجمت عن ذلك بعد ظهور تنظيمات راديكالية متطرفة، وحصول أمريكا على موطئ قدم في سوريا والسيطرة على منابع النفط والثروات بشمال شرق سوريا، وبالتالي أضحت تصب تركيزها على الوجود في المنطقة، وإدارة سوريا بالتعاون مع روسيا وعدم السماح بتنامي المخاطر على حدود إسرائيل مع دمشق والتي اقنعت على ما يبدو الولايات المتحدة بضرورة بقاء نظام الأسد بشكله الحالي والضعيف. وكذلك إخفاق المعارضة السورية على مدار عشرات السنوات عن تكوين تحالفات إقليمية ودولية داعمة للثورة السورية، وامتهانها للثورة، بعد أن تدفق عليها المال السياسي، وحول نضالها الملتزم بقيمها ومبادئها إلى مجرد نشاط يوظف فيه شخوصها على اختلاف مسؤولياتهم وخبراتهم لمن يدفع، شأنه في ذلك شأن لاعب كرة قدم، وفشلها في جميع النواحي وتشرذم قواها العسكرية إلى فصائل متعددة ومتناحرة، واتساع الرقعة الجغرافية المسيطر عليها من قبل ميليشيات «قسد»، دون وجود رادع قوي لها. تركيا الساعية للمصالحة مع الأسد تبحث عن مصالحها فوق جميع المصالح، فالقضية السورية ومفرزاتها وأحداثها، ليست ذاتها مشاكل الدول ومصالحها فيما بينها، والتدخل التركي مع بداية الثورة السورية ليس من أجل الشعب السوري الثائر، وإنما من أجل شعبها وقوميتها، فالقضية السورية لديها توضع في ميزان المصلحة، وتركيا تسعى لإثبات مكانتها إقليميا ودوليا، وهذا يتطلب مصلحة الدولة ونفعيتها. تركيا شعبها مُسلم ولكن نظامها علماني، يضع الدين جانبا حينما تبدأ السياسة، ويتجنب السياسة حينما تُمارس الشعائر الدينية. التطبيع بين دمشق وأنقرة قد يؤدي لتبعات كثيرة داخل سوريا وخارجها، إذ يحتمل أن يزيد التعاون بشكل أكبر بين روسيا وتركيا العضو في حلف الناتو، وقد تهدد التسوية المصالح الأمريكية ووجود قواتها في شمال شرق سوريا وشرقها، وقد تفاقم مآسي ملايين السوريين الذين ثاروا على نظام الأسد الموجودين داخل تركيا والمقيمين والمهجرين في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد.
ولكن بعد 14 عاماً لم تدرك المعارضة السورية أنه لا يوجد ثبات في السياسة، ولكن هناك مصالح متغيرة فثوابت السياسة هي تغير المصالح، والمعارضة السورية التي تسيدت الثورة وتخلت عن مبادئها، أسهمت بشكل كبير بعودة علاقات الدول العربية والإقليمية مع نظام الأسد، والدول في سبيل مصالحها تتخلى عن الخصم الضعيف مع تعقد الصراع، فالبنى السياسية والعسكرية الهشة تصبح حملا زائدا ويسهل التخلي عنها، والتخلي يتناسب طردا مع درجة التبعية.
كاتب سوري