ينضوي هذا النص «رباعية أرض كنعان» (العنقاء والخل الوفي والغول ومولانا) لعبد الكريم السبعاوي، القوي لغة وأسلوبا ورؤية، إلى نصوص روائية استثنائية غير قليلة هي أقرب ما تكون إلى نمط من الأدب الروائي الملحمي بالمعنى الواسع للكلمة، حيث يضفي الكاتب وجودا رمزيا على المستحيلات الثلاثة، التي استقر في المأثور الديني والأدبي، أنْ ليس لها وجود؛ بل يضيف إليها وجودا رابعا هو «مولانا». ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى لوكاتش في «نظرية الرواية»، إذْ يقدر أن هناك شكلا جديدا للملحمة يعلن عن نفسه في بعض أعمال دوستويفسكي. وواضح أنني لا أقصد في السياق الذي أنا به شكل الملحمة الشعري، الذي يحقق خصوصيتها بواسطة سحر الإيقاع، والشكل الموسيقي، حيث يتم تنزيل الكلمة منزلة أرقى من اللغة العادية. والملحمة قصة شعرية مقدسة، صُنعتْ لها قدسية خاصة بها. وهذه الرواية ملحمة من نوع استثنائي، في تاريخ أدب المقاومة عند العرب المعاصرين، وتحديدا الرواية الفلسطينية، التي أرست في تقديري دعائمها مع الراحل الكبير الشهيد غسان كنفاني.
هي رواية تغطي مساحة زمنية كبرى (مئة عام من تاريخ فلسطين)، وتشتمل على شخصيات عديدة؛ ولكن السارد يكتفي بوضع عدد محدود منها في الصدارة، على أساس دورها الأساسي والمفصلي في مجريات القصة، مثل يونس وقد تلفظه حوت اسمه الصحراء، وجوهر واليهودي صاحب الحمام، وسارة والباشا درويش متصرف غزة، وشيخ المشايخ تيمور الضرغام وغلامه يلماز، وشهوان ومريم، وفاطمة التي أحبها يونس، وعلي الطاهر.. وعبد الوهاب والجازية، ونظمي بيك وحاييم وراضية وعبد الحميد وإسماعيل، والشيخ وحيد البتير وأحمد عارف الحسيني وسعدة، ومحمد هاشم واليوزباشي عزت… ولكل منهم قصة أو حكاية مثل قصة أحمد الذي وقع أسيرا في قبضة ثوار اليمن، وقد ظنوه روميا لشقرته وزرقة عينيه؛ فعذبوه ولم يفرجوا عنه إلا بعد أن استظهر لهم سورا من القرآن.. وقطب الغوث وبدرية وخديجة وطفلها أحمد، وعزيزة وشريفة ويوسف سليل الأسرة اليافاوية، ونزلاء بانسيون روزا، ومدحت وهبة وفتوحاته النسائية وصديقه إلياهو في بار شالوميت، وينجت والحروب التي خاضها أو شارك فيها، والشملول والعم رزق، والمفتي محمد أمين الحسيني… وغير هؤلاء من شخوص كثيرة يرسمها الكاتب، بشتى ملامحها وسماتها. على أنها أسماء تخيرها الكاتب بعناية لا تخفى، على نحو ما يفعل كبار الروائيين؛ إذ لا يخفى أن الاسم في الرواية هو «سيد الدوال»، لما له من دلالات إيحائية أو كنائية. وكل هذا يسوقه الكاتب وهو يحرص على إبراز فردية كل شخصية من هذه الشخصيات وتفردها إبرازا قويا؛ ويتولى توجيهها بحسب علاقاتها بمجمل الشخصيات. على أنه ليس بميسوري أن أحيط بها كلها في الرباعية، وإنما تخيرت بعضها في هذا المقال.
وبدون أن ألخص الرواية وأحداثها، حتى أترك للقارئ متعة اكتشافها؛ أشير إلى أنها تتمثل في قسمها الأغنى أكثر من ناحية من تاريخ فلسطين وبلاد الشام عامة وتاريخ العثمانيين والانتداب البريطاني، وعالم المقاومة الفلسطينية، والحرب التي خاضها العرب من أجل فلسطين: «الثوار اقتحموا معتقل صرفند وأطلقوا كل سجنائه.. بريطانيا العظمى بدأت في سحب قواتها من فلسطين إلى قاعدتها في قبرص». بيْد أن الرواية لا تقدم دائما المقاوم من حيث هو النموذج الإنساني الفائق في عالم المثل، أي ذاك الذي يخرق القوانين الطبيعية أو الشخصية الملحمية، التي تضفي على البطولة معناها، وإنما هي تتمثل أكثر صورة الفلسطيني المتماهي بخطابه، أكان دينيا أم غير ديني، وصورة مكانه الجغرافي وفضائه التاريخي، «غزة»؛ حتى أني لا أتردد في نعت هذه الرواية الاستثنائية بـ»الجغرافية/ التاريخية». وهذا الحوار مثال من بين أمثلة كثيرة، تعزز من وجاهة ما أسوقه: «كم عدد اليهود في هذه المدينة يا (شمعون)؟ – أربع عائلات فقط يا سيدي و(سارة) وأمها، وعائلة (كوهين) تتاجر بالذهب و الفضة، وعائلة (عدس) تتاجر بالغلال، وعائلة (روكز) تتاجر بالقماش، وعائلة (يعقوب) وهي عائلة محسوبك.
لا تتردد الرواية في تقديم مساخر الممسوخين في عالم اضطربت قيمه ومثله. ولذلك نقف فيها على المضحك والغريب، وكل ما هو متنافر في تجسيد بعض الشخصيات. وعليه فلا غرابة أن ينزع الخطاب فيها إلى الكلام الشفهي (اللهجة الفلسطينية)، والسخرية والطرفة الشائعة.
أفقر العائلات جميعا – يسكنون غزة وقراها؟ الذهب والفضة والغلال والقماش.. ماذا تركتم لعشرين ألفا – تركنا لهم الصحة والستر.. لا نسمعهم يطلبون في صلاتهم غيرها يا سيدي». مثال ذلك أيضا الإشارات الدقيقة الدالة، مثل استشهاد القسام، وتصوير حرب تحرير فلسطين الأولى التي خاضها العرب: «نصب الراديو على الطاولة المخصصة له وشبك اليريال.. وجه مؤشره على المحطة.. انطلق صوت المذيع: القوات المصرية التي عبرت حدود فلسطين تدخل مدينة بيت لحم لتصبح على بعد عشرة كيلومترات من تل أبيب.. القوات الأردنية تستلم مدن اللد والرملة والقدس من جيش الجهاد المقدس، وتستحكم في مواقعهم التي تطوق حارة اليهود.. سكان المستوطنات يفرون إلى تل أبيب بعد اجتياحها من قبل الجيوش العربية.. أمريكا وبريطانيا تضغطان على العرب في مجلس الأمن لقبول الهدنة.. شخر العبد هاشم: هدنة.. وجيوشنا على أبواب تل أبيب.. المسألة بتنحسم في يوم واحد.. عليّ الطلاق هادي مؤامرة.. قال ابن عمه رضوان: إذا العرب قبلو الهدنة بكونو خونة وبفتحو الباب لليهود يتسلحو من جديد ويقضو علينا. قال الدوش: المواني لسه في إيد النجليز واليهود.. وفي شهر واحد الموازين بتنقلب وبكنسونا من فلسطين كلها.. يا ريتنا ما سلمنا رقبتنا للعرب.. اللي يفرط بصبح يضرط».
ولا تتردد الرواية في تقديم مساخر الممسوخين في عالم اضطربت قيمه ومثله. ولذلك نقف فيها على المضحك والغريب، وكل ما هو متنافر في تجسيد بعض الشخصيات. وعليه فلا غرابة أن ينزع الخطاب فيها إلى الكلام الشفهي (اللهجة الفلسطينية)، والسخرية والطرفة الشائعة. ولعله أجلى ما يكون في الحوار والمونولوج، أو حديث النفس؛ كلما عثرت الشخصية في ذاتها على ما تسخر منه عند الآخرين. فهي سخرية من نفسها وهي تتملى صورة ذاتها التي تعاني من وطأة عالم ثقيل أعمى وافد عليه؛ ولا طاقة لها على تحمله. وأمثلتها غير قليلة، كما في هذا المشهد المسرحي السينمائي الطريف: «كان مفتي الشام قد أغفى بعد المبايعة.. وحين لاحظ جاره إغفاءته أيقظه قبل أن يراه الوالي.. هب من نومه دون أن يستوعب الموقف.. حسب أن الدعاء الأخير للوالي وليس عليه.. فصاح بملء صوته : آمين. ذهل الجميع .. أما الوالي فاستشاط غضبا: أنت معه إذن يا عرة القضاة ؟ أهاب بالحراس مشيرا إلى (تاج الدين) وإلى قاضي الشام: خذوهما في الحديد.. ساق الحراس ( تاج الدين) وهو مرفوع الرأس إلى الخارج.. أما قاضي الشام فقد انفلت من الحراس باتجاه الوالي.. انبطح على بطنه يطلب العفو والسماح.. أخذ يمرغ وجهه على قدمي الوالي.. حتى تدحرجت عمامته: سيدي الوالي.. سيدي المهدي.. لم أكن أعرف… والوالي يصيح بالحراس أن يسحبوه؛ فيما هو «يتشبث بقدم الوالي .. حتى خرجت فردة حذاء الوالي في يده.. ضمها إلى صدره وهو يصرخ ويستعطف.. وهم يجرونه على وجهه.. ظل يتخبط حتى همدت حركته.. قال الحراس للوالي: لقد مات. والوالي يقفز كالملدوغ، وهو يشير إلى الحراس: « أولان! هاتو سباطي من إيدو.. بلا ما ياخدو على الآخرة.. وينادوا لمين هالسباط.. عزرائيل يتفكرني».
ولعل هذا ما يدعو إلى التساؤل عن علاقة النص بفعل المقاومة، أو المغامرة المحسوبة. فهذه شخوص «ملحمية» و»غير ملحمية»، وهم قبل كل شيء بشر يتحركون ويفعلون. لكن أفعالهم هي في الغالب «مغامرات»، بل هي «حيوات» ومعارك، أو قلْ هي تتنزل في جنس المخاطرة؛ وهذا ما يميز السلوك الملحمي، سلوك الشخصية حيث يتعلق الأمر بالمخاطرة الأشد، أي المجازفة بما هو أساسي لدى الإنسان: حياته. وإذا ما حدث وانزلقت إلى فضاء النص، وهذا يحدث أحيانا، مشاعرُ رقيقة؛ فذلك ذو وظيفة جمالية تتمثل في إبراز التعارضات الفاعلة والمؤثرة في سير الأحداث، التي تؤلف الرواية على نحو ما تؤلف مجموع الملحمة؛ ذلك أن الملحمة أو أدب المقاومة لطبيعته الديناميكية يحتاج إلى تعارضات أو تقابلات أي قوى متضادة وليس إلى قوالب تشل الحركة. وهذا لا يعفي طبعا من تطارح كثير من الإشكالات التي أوضحتها في تقديمي لهذه الرواية التي تصدر قريبا في طبعة جديدة.
٭ كاتب تونسي