«أرض مظلمة خضراء» مجموعة الشاعر المغربي صلاح بو سريف: رحلة فنتازيا داخل عقل ابن بطوطة

صابر رشدي
حجم الخط
0

يبدو أن هناك رسائل مضمرة، وكنوزاً خافية، مطمورة تحت الكلمات، يود الشاعر صلاح بو سريف من قارئه الالتفات إليها، والبحث عنها، من خلال القراءة الفاحصة، المتمهلة. فهو يشير إلى ذلك بمكر فني، منذ الصفحة الأولى، حيث يقدم لعمله الجديد «أرض مظلمة خضراء» بالنصيحة التالية للكاتب الأرجنتيني الشهير ريكاردو بيجليا: «علينا أن نتعلم قراءة ما بين السطور، لنعثر على الطريق».
وليحفز المتلقي للمشاركة في اللعبة، واقتسام العمل معه، ومحاورته، فقد أصبح لديه دور إبداعي أيضاً، معولاً عليه في تأويل كل سطر شعري، ربما يجد طرف الخيط الممدود له من قلب ثنايا عمله، والذي قد يصل به إلى مرفأ الأسرار، ليسعى معه من البدايات.
نحن بصدد كتاب على هيئة نص شعري طويل، بلا عناوين، أو قصائد مستقلة، يعتمد السرد المتأمل، والتخييل، ليستطيع الوصول إلى بغيته، مستخدماً ضمائر الكلام الثلاثة: الغائب والمتكلم والمخاطَب، مراوحاً بينهم، حسب مقام الكلام.
إن الشاعر يقوم برحلة داخل عوالم واحد من أشهر الرحالة على مر التاريخ الإنساني، وهو مواطنه المغربي محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي، الشهير بابن بطوطة.
ثمة توق إلى السفر، إلى الحرية، إلى هدم الحواجز الوهمية المنصوبة بين الأنواع الأدبية، الانطلاق الفني بينها، بحثاً عن شيء ما، غامض ومثير، ربما استطاع بو سريف العثور عليه، وهو يتفاعل معه، عبر الحوارات الثنائية، أو من خلال مناجاة مع النفس، والسفر في الزمن، متمثلاً روح ابن بطوطة، هذا الرحالة العظيم الذي جاب العالم. وسجل لنا أدق تفاصيل المدن التي زارها، عادات وتقاليد البشر، مُركزاً في الوصول إلى أسرارها، ورسم صورة وافية عنها، على نحو مذهل، سابقاً صناعة السينما الوثائقية والأفلام التسجيلية بقرون عدة، مدونأً كل ما يلقي الضوء على الزمان والمكان، وقائع الحياة، وحركة التاريخ، من دون أن يتخذ دور المؤرخ.
فهو ابن اللحظة، ابن الآني الذي لا يجب إفلاته، فهو أكثر ثراء من الماضي الذي لم يعايشه، فقد شاهد كثيراً، رأى وعاين ما يفوق الخيال. فالحداثة وفقاً لبو سريف في معظم كتاباته وأشعاره، هي انتماء المبدع إلى الزمن والعصر الذي يعيش فيه، منصتاً إلى نبضه وإيقاعاته، وإلى ما يطرأ عليه من تحولات، وما يجري في العمارة، واللباس والقيم، وحتى في الطبيعة نفسها، من انقلابات وتحولات لها، بالضرورة، تأثير في فكر البشر، وفي عقولهم وخيالاتهم. إذاً، ابن بطوطة طبقاً لهذه المفاهيم، حداثي في عصره، عندما انخرط فيه، واندس في تفاصيله وجزئياته، ليس في وطنه فقط، بل من خلال كونه مواطناً عالمياً لا تتسع لطموحاته أرض محددة.
هذا كتاب يموج، من ضمن ما يموج به من عناصر مدهشة، بنوادر الفانتازيا المهملة في تراثنا، والتي لم يلتفت إليها الكُتاب العرب، الذين يعتمدون تيار «الواقعية السحرية» القادم من أمريكا اللاتينية. كنموذج يُحتذى، يكفينا الإشارة، هنا، إلى لمحة خاطفة التقطها ابن بطوطة، هذا الإنسان الاستثنائي، في سفره الفريد، وسجلها ضمن المشاهد المثيرة، التي يزخر بها عمله «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، من خلال نص قصير، لكنه مكتمل الأركان فنياً، لا يعوزه الإحكام السردي، أو دقة الملاحظة، يقول في هذه الفقرة/ النص، تحت عنوان: «ذكر السحرة الجوكية»:
«وهؤلاء الطائفة تظهر منهم العجائب، منها أن أحدهم يقيم الأشهر لا يأكل ولا يشرب، وكثير منهم تحفر لهم حفر تحت الأرض وتبنى عليه. فلا يترك له إلا موضع يدخل منه الهواء، ويقيم بها الشهور. وسمعت أن بعضهم يقيم كذلك سنة.»
ليكمل الفقرة بما هو أكثر عجائبية:
«ورأيت بمدينة منجرور رجلاً من المسلمين ممن يتعلم منهم، قد رفعت له طبلة، وأقام بأعلاها، لا يأكل ولا يشرب مدة خمسة وعشرين يوماً، وتركته كذلك. فلا أدري كم أقام بعدي. والناس يذكرون أنهم يركِّبون حبوباً، يأكلون الحبة منها لأيام معلومة وأشهر، فلا يحتاج في تلك المدة إلى طعام ولا شراب. ويخبرون بأمور مهيبة، والسلطان يعظمهم ويجالسهم».
إلى أن يختتم الفقرة بالقول بأن منهم من ينظر إلى الإنسان فيقع ميتاً من نظرته، وأن من قتل بالنظر، إذا شق عن صدره وُجد دون قلب.
هذا فيض من غيض، صفحة واحدة من كتاب يبلغ 800 صفحة، تنبض بالسحر، والإبداع العظيم. فنحن أمام رجل يقظ، يسخِّر كل حواسه، لاكتشاف العالم، الظاهر والباطن، يدفعه فضول معرفي عميق، وسرعة بديهة، وذكاء خارق، وذاكرة غير عادية، أعانته على إملاء هذه الرحلة التي استغرقت 29 سنة ونصف السنة تقريباً، منذ خروجه من طنجة في شهر رجب سنة 725 هجرية، حتى عودته إلى فاس في ذي الحجة سنة 754 هجرية.
لنستعيده هنا، مرة أخرى، بشغف، ومتعة ذهنية، مع شاعر معاصر، يدرك قيمة الحضارة الإسلامية، وتراثها الإنساني الخالد، وهو يعيد اكتشاف هذا السفر العظيم، الذي تغافل عنه الروائيون العرب، ولم يحاول أحدهم، فيما أعلم، التحاور معه، أو استلهامه في عمل ما، كما فعل الكاتب الأمريكي مايكل كرايشون، مع رحالة عظيم آخر، وهو ابن فضلان البغدادي، عندما اعتمد كلياً، في روايته الشهيرة «أكلة الموتى» – حسب ترجمة روايات الهلال المصرية – على ما دوّنه هذا الرحالة الشهير في كتابه «رسالة أحمد بن فضلان بن العبَّاس بن راشد بن حمَّاد: في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة».
وأذكر هنا جيداً، بعيداً عن سياق المقال، أنني عندما قرأت هذه الرواية، آنفة الذكر، فور ترجمتها إلى العربية، في العام 1985، تمنيت أن أشاهدها فيلما سينمائياً، وهذا ما حدث بالفعل، فقد صنع كريشون، بعد سنوات من صدور الرواية، عملاً سينمائياً رائعاً، تحت عنوان: «المحارب رقم 13» أسعفته إمكانيات هوليوود بكل عناصر النجاح، وكانت بطولته للممثل الإسباني الشهير، ذي الملامح العربية، أنطونيو بانديراس، والممثل المصري العالمي عمر الشريف.
يجهدنا، هنا، الشاعر صلاح بو سريف في هذه القراءة، من خلال سعي شاق، وشائق، يستحق الجهد المبذول، في أن تحمل بين يديك سِفرين، لتستطيع قراءة أحدهما، وسبر أغواره، بما يجعلك في النهاية ممتناً للشاعر، ومديناً له، باستمتاعك بقضاء هذه الساعات الثمينة، بين الكتابين، ولتكتشف أيضاً، أن بو سريف بصدد قراءة أخرى لعمل ابن بطوطة. عمل شعري موازٍ، يغلب عليه النَّفَس الملحمي، يحطم فيه الوقائع الحقيقية، ويبدع، بدلاً منها حقائق تخصه، ببساطة فنية، وبدفقات شعرية هادئة، بما يملكه من قاموس نثري متألق، وبصيرة لماحة. فهو لا يميل إلى تسمية الأشياء بأسمائها، حتى لا يقع في إشكالية التوحد التام مع العمل الآخر، وكي لا تتوه قصيدته في مداره، فنحن حيال عمل زاخر، ممتلئ بكنوز المعارف، على المرء أن يخوض دهاليزه برفق، حتى يستطيع أن يرى ما تناثر هناك وطفا على السطح، ويحاول تأمل الأشياء التي ما زالت تحتفظ بأسرارها.
إن العنوان الفرعي للديوان يستحق التوقف عنده أيضاً: «أسفار. أقاليم. أمصار… بللت الموج بالضوء»، لنعرف طبيعة العمل الذي نحن بصدده، والذي يضاد العنوان الرئيس: «أرض مظلمة خضراء». ثنائية الضوء والظلام، التي دفعت الشاعر كي يمضي حاملاً مصباحاً، لإضاءة الزوايا المعتمة، في أرواح المدن، وأرواح البشر، خفايا نفس ابن بطوطة، ما الذي دار في خاطره، ما الدافع وراء رحلته الطويلة؟ إضاءة المناطق المعتمة لدى الشاعر أيضاً، ربما أتاح له النور العثور على ضالته.
الطريق صعب، لكن الشاعر يخطوه ببراعة، وبطريقة راقية، علَّه يعيد اكتشاف بعض الأشياء المخبوءة، هنا، وهناك، في الأغوار السحيقة:
«هل أحلم،
أم عيني على ثقب الباب ترى ما أراه؟
لم الشيخ،
لم النساء ولم المناديل أراها بلون البكاء…
أأنا أوشك أخرج من ثقب الباب أرى أفي حلم أكون، أم العالم،
منذ حدثت ظلاله،
ألقى بي في مجاهل طرق في طعمها تشبه الماء؟»
توقٌ دفين، ورغبة عارمة في الانطلاق، إلى أراضٍ بلا حدود، بلا شرطي يقف وراء الحواجز، ويقوم بتفتيش البشر، والعبث بأشيائهم، أثناء مطالعته وثائق الهوية، في عالم لم يعًد يتسع للبشر، وصار يضيق بهم يوماً بعد يوم:
«كنت أحلم كثيراً بالسفر،
كنت أحلم بالمطر،
بأطفال خلفي يخطون ظلالهم لم تكبر،
ليس بحجم الشجر،
ما غطى الغابات بوعول ما تزال تستقي من نفس النبع،
لا تخاف صرير القصبات،
تعرف أن الريح تذريها،
تملأها بالغناء.»
باستعارة أفكار صلاح بو سريف نفسه، وقناعاته الشعرية، نجده يفرض التزاماً على الشعراء بالسير في العتمة، تحويل الخطو إلى بصر ورؤية، وإلى إنصات، لأن الحواس في الشعر تتصادى، وتستدعي بعضها بعضاً؛ ليحل بعضها في بعض، وينوب بعضها عن بعض. فالرحلة قد حدثت في الواقع مرة واحدة، والمؤكد أنها لن تحدث بهذا الزخم مرة أخرى، سوى في عمل أدبي، أو فني درامي، ففي النهاية صارت تهيؤاً، ومثالاً لشيء عسير المنال، محاورته، أو محاكاته أدبياً، تحتاج بالفعل، إلى مبدع غزير المعرفة، ينهل من الحياة، ومن الكتب، فالموهبة وحدها لا تكفي للتصدي لمثل هذه النوعية من النصوص. صلاح بو سريف شاعر مثقف، غير متصنع، أيقظ فيه الرحالة الشهير اعتزازه بوطنه، وبتراثه الحضاري، حتى لو كان العمل في ظني عملاً هروبياً، يفر من وطأة الزمن، ومتاعب الواقع التعيس، وينعي اللحظة المعاصرة، عائداً إلى الوراء، مستلهماً من إرثه التاريخي أشد صور الكبرياء العربي نضوجاً:
«لن يثنيني الحنين عن السفر،
لم تثنني الأهوال وما وقف في طرقي من غرائب،
بل
من خوارق طالما بدت لي كتاباً فيه قرأت عجائب
الأسفار، في ما جبته من أقاليم وأمصار:
أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي،
كُنِّيت بابن بطوطة، أصلي من لواتة، وطنجة مسقط رأسي».
صلاح بو سريف: «أرض مظلمة خضراء»
فضاءات للنشر والتوزيع، عمان 2024
275 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية