تعاني الأنظمة الديمقراطية الغربية من جملة ظواهر تهدد مستقبلها. وتتشخص هذه الظواهر في تحولات كبرى تشمل توجهات ووظائف الأحزاب، وغياب القيادات التي كانت تلتزم بقسط من المبادئ والأخلاق، حتى ولو ضمن الحدود الأدنى. هذا إلى جانب بروز الأحزاب العنصرية، وحصولها على نسب مرتفعة من المقاعد في المؤسسات الديمقراطية لا سيما البرلمان، إلى جانب مجالس المحافظات والبلديات. وتعد هذه الظاهرة سمة عامة تكاد تشمل غالبية الدول الغربية.
ومن بين الأسباب التي أسهمت في دفع الأمور نحو هذا المنحى، تزايد أعداد المهاجرين، وإخفاق سياسات الاندماج، والضغوط الكبيرة التي تعاني منها المؤسسات الصحية والتعليمية نتيجة عدم القدرة على مواكبة أعداد من هم في حاجة إلى الرعاية الصحية أو التعليم. هذا إلى جانب انتشار الفساد والجريمة، والتخادم الحاصل بين المتطرفين العنصريين في المجتمعات المعنية والمتطرفين الإسلامويين ممن يحاولون استغلال ثغرات الأنظمة والقوانين الأوروبية ليتمكنوا من خلال ذلك تحقيق مصالح لتنظيماتهم أو لأشخاصهم، وغالباً ما تكون تلك المصالح مادية.
وجاءت الحرب الإسرائيلية على غزة لتلقي المزيد من الأضواء على الأزمة الأخلاقية المهيمنة على توجهات وسياسات صانع القرار الأوروبي الذي بات أسير الحسابات الانتخابية، والخطابات الشعبوية، وغياب القدرة على معالجة المسائل معالجة سببية حقيقية، والاكتفاء بمعالجات عرضية لم تعد تقنع أحداً من المتابعين الجادين لما حصل ويحصل.
والسلبيات المشار إليها التي تعاني منها الديمقراطيات الأوروبية بصورة عامة، لا تعد أمراً طارئا، بل هي عيوب متوقعة تهدد الأنظمة الديمقراطية باستمرار، وهي الأنظمة التي من المفروض أنها قادرة على تجديد نفسها، وسدّ الطرق بالأساليب الديمقراطية على القوى اليمينية المتشددة التي تستغل النظام الديمقراطي للوصول إلى مواقع مؤثرة في الدولة، تستطيع من خلالها تهديد النظام الديمقراطي الأساس الذي تقوم عليه الدولة.
ومن بين المخاطر الجسيمة التي تهدد الأنظمة الديمقراطية بصورة عامة، تحكّم مجموعة محدودة العدد من المؤثرين، ممن اتخذوا من السياسة مهنة لهم، الأمر الذي مكنهم نتيجة تراكم الخبرات على مدى سنوات، من امتلاك المفاتيح، وتقريب الموالين، وإبعاد الخصوم أو المنافسين؛ وكل ذلك يحد من قدرة المواطنين على الاختيار والقرار، ويغدو الأمر مرتبطاً بما يقرره المؤثرون في هذا الحزب أو ذاك.
بالإضافة إلى هذا الخطر الذي يهدد الأنظمة الديمقراطية، بل لا نجانب الصواب إذا ما قلنا أنه أصبح واقعاً في الكثير من البلدان التي تعتمد النظام الديمقراطي؛ هناك خطر الشعبوية التي تدغدغ عواطف ومشاعر الناس، وتستغل همومهم اليومية، وتوحي لهم أن الحل السحري هو في متناول هذا الحزب أو ذاك من الأحزاب التي عادة ما ترفع الشعارات التحريضية، وتتبنى السياسات العنصرية، وتستغل السلبيات المترتبة على فشل سياسات الاندماج.
ولعله من نافلة القول هنا ذكر أن الأنطمة الديمقراطية الأوروبية تتأثر إلى حد كبير بما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية سواء على صعيد التحولات التي تنعكس سلباً أو إيجاباً على واقع النظام الديمقراطي القائم في العديد من البلدان، أم على مستوى الأوضاع الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وذلك نظراً للتداخل الوثيق الحاصل بين الطرفين على صعيد التجارة والمواقف الدولية.
ويُشار في هذا السياق بصورة خاصة إلى مساعي الروس والصينيين المستمرة في سبيل الانتقال إلى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، مع تباين واضح بين الموقفين الروسي والصيني. فبينما يشدد الروس على الجانب العسكري، خاصة منذ أن أعلنوا الحرب على أوكرانيا؛ يركّز الصينيون على التكنولوجيا والتجارة، وهم يشكلون بذلك منافساً جدياً يهدد المصالح الأمريكية، والغربية بصورة عامة في معظم أنحاء العالم.
ولعل هذا التداخل الوثيق بين المصالح والهواجس الغربية بصورة عامة، هي التي تفسر الاهتمام الأوروبي المستمر بالأوضاع الأمريكية بصورة عامة، بما فيها الأخيرة على وجه التحديد، وهي الانتخابات التي فاز فيها ترامب فوزاً ساحقاً على منافسته الديمقراطية كمالا هاريس، الأمر الذي دفع بالأوروبيين المناصرين للأنظمة الديمقراطية إلى التحسّب من الآتي المجهول؛ لا سيّما أن ترامب أعلن مرارا وتكرارا عن إعجابه بالقادة الأقوياء. وهو الأمر الذي فسره الكثيرون في مختلف أنحاء العالم بأن ذلك مغزاه أن ترامب ميال للانفتاح على الأنطمة المستبدة، والتعامل معها بأريحية تتجاوز حدود المصالح العامة والضرورات التي تمليها ظروف وتعقيدات وتطورات السياسة الدولية، كما تتجاوز التحديات الكبرى التي تهدد البشر على كوكبنا، وفي مقدمتها المتغيرات المناخية، وانتشار الأوبئة والأمراض والفقر وتبعاته، والحروب، وغير ذلك من المشكلات التي تتسبب في انهيار المجتمعات والدول، وتدفع بأعداد ضخمة من الناس للتوجه ضمن قوافل المهاجرين شمالا، بأمل الحصول على ملاذ آمن في أوطان الآخرين بعد أن انسدت الآفاق في أوطانهم الأصلية.
في هذه الأجواء ينتظر العالم استلام ترامب مهامه بصورة رسمية بوصفة الرئيس الـ 47 للولايات المتحدة في 20 كانون الثاني/يناير 2025، وقد كُتب، وقيل، الكثير حول التوقعات بشأن طبيعة حكم ترامب وتوجهاته في الدورة الثانية من حكمه. منهم من قال: بأنه رجل الصفقات. ومنهم من قال: إنه قد تعلم من أخطائه السابقة، وآخرون يرون أنه سيأخذ بعين الاعتبار حسابات واستراتيجيات الدولة الأمريكية العميقة…ألخ.
ولكن المعطيات المتوفرة حتى الآن لا توحي بأن الرجل قد تخلى عن موقفه الإشكالي من النظام الديمقراطي بصورة عامة. فهو يقبل بهذا النظام ضمن حدود ما يوائم مصلحته. وتشير الأموال الضخمة التي صرفت على حملته من جانب أصحاب المليارات إلى تشابك المصالح بين هؤلاء، ورغبتهم في ترتيب الأوضاع على المستوى العالمي بما يخدم مصالحهم، ومستقبل شركاتهم ونشاطاتهم التجارية.
من جهة أخرى، من المتوقع أن تستمر علاقات ترامب الودية مع بوتين، الأمر الذي قد يساعد على الوصول إلى حل ما في أوكرانيا وفق الشروط الروسية. هذا في حين أن الأوضاع في جنوب شرق آسيا ليست واضحة، خاصة على صعيد التعامل مع الصين. هل ستكون العلاقة معها ضمن إطار العلاقة التنافسية التجارية مع امكانية عقد تفاهمات حول العديد من القضايا، ومنها قضية تايوان على سبيل المثال؟ أم أن العلاقة ستبلغ حد الخصومة، واتخاذ المزيد من الخطوات بهدف التضييق على الصين ومنعها من بلوغ مكانة القوة القادرة على منافسة الولايات المتحدة على مختلف المستويات لا سيما الاقتصادية والتكنولوجية منها، وحتى العسكرية، الأمر الذي قد يمهد الطريق أمام صراع لن يكون في صالح أحد؟
أما ما يهم منطقتنا على وجه التحديد، فالمؤشرات أكثر رمادية. فمن الواضح أن العلاقة بين ترامب ونتنياهو وثيقة، وهي مرشحة اليوم لتبلغ أفضل حالاتها. وهذا الأخير كما هو معروف رافض بالمطلق لحل الدولتين الذي يُرَوَج له اليوم هنا وهناك من دون البحث في آليات التنفيذ، أو حتى في امكانية أو قابلية التنفيذ. وهذا التوجه يتكامل إلى حد كبير مع سياسات ترامب في الدورة الأولى من رئاسته، وذلك حينما ركز على استراتيجية التطبيع الثنائي بين إسرائيل والدول العربية ، لا سيما الخليجية منها. كما ان اعترافه بالقدس الشرقية كجزء لا يتجزأ من عاصمة إسرائيل الأبدية مؤداه نسف فكرة الدولتين التي تعد قضية القدس بالنسبة لها المحور الذي تتمفصل حوله كل الخطوات الأخرى.
واليوم هناك حديث حول امكانية إقدام ترامب على خطوات يسمح بموجبها لإسرائيل بناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية، أو حتى نقل السيادة على الضفة إليها، وإلغاء فكرة امكانية الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل الأمم المتحدة بصورة رسمية.
إلى جانب الموضوع الفلسطيني، هناك ضبابية بخصوص موقف الإدارة الأمريكية المقبلة من التطورات الجارية في سوريا، ومستقبل البلد بصورة عامة.
هل سنشهد عملية سحب للقوات الأمريكية من هناك، والعودة إلى تفاهمات أوباما بوتين كجزء من صفقة عامة تشمل أوكرانيا أيضاً، وربما مناطق أخرى في العالم كأفريقيا على سبيل المثال؟ أم سيستمر ترامب في السياسة الحالية، ويحرص على الوجود الأمريكي من دون مواجهة مخاطر الانخراط في أزمة أقليمية تكون لها انعكاسات على الوضع الداخلي الأمريكي؟
كيف ستكون العلاقة مع تركيا؟ هل سيستمر الاعتماد على حزب العمال عبر واجهاته السورية؟ أم ستكون هناك صفقة في هذا المجال مع تركيا؟ أو أن هذه الورقة ستظل ورقة للضغط على تركيا إلى حين تبلور ملامح سياستها بصورة واضحة على صعيد الالتزام بمقتضيات اصطفافها التقليدي مع الغرب، وذلك بعد بروز سلوكيات من جانب الحكومة التركية الحالية تشير إلى امكانية التوجه شرقا عبر التفاهم مع الروس؟ هل سيتكيّف ترامب مع هذا التوجه أم أنه سيحرص على الاحتفاظ بتركيا ورقة ضغظ يعتمدها وقت اللزوم في مواجهة التحديات الكبرى التي قد تكون مع المستويين الدولي والإقليمي؟
هذه الأسئلة وغيرها تفرض نفسها في انتظار التطبيق العملي لسياسات زعيم الإدارة الأمريكية المقبلة. وهي مجرد تساؤلات قد تلامس الواقع أو مجرد مخاوف أو حتى توقعات. ولكن الأمر المؤكد هو أن الأوضاع في منطقتنا ستكون بعد كل الذي حصل، ويحصل، في غزة ولبنان، وما قد يحدث في سوريا والعراق، وحتى إيران، لن تكون على المنوال نفسه الذي كانت عليه قبل السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023. خاصة أننا في انتظار رئيس أمريكي ميّال إلى فرض الرأي خارج نطاق المناقشات الديمقراطية المرهقة مع المساعدين والمستشارين، وضغط انتقادات القوى السياسية الداخلية المنافسة.
*كاتب وأكاديمي سوري