تسببت الحرب الإسرائيلية على غزة بأزمة سياسية وأخلاقية عميقة للديمقراطيات الغربية، وهذه الأزمة سوف تُرى نتائجها وانعكاساتها وتجلياتها وتداعياتها، خلال الشهور والسنوات القليلة المقبلة، عندما تنتهي الانتخابات العامة في الدول الكبرى بتغييرات جذرية، وتحولات كبرى غير مسبوقة، خاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا.
أبسط تعريفات الديمقراطية، وأكثرها تسطيحاً يقول، إن «الديمقراطية هي ديكتاتورية الأغلبية»، وذلك في إشارة إلى أن (50%+1) من المجموع يفرضون إرادتهم على الـ(50%-1) الباقين، فيما يتجاهل النظام الديمقراطي رغبات نصف المجتمع وتوجهاته، لكن هذه المعادلة المختلة تعمَّقت وازدادت اختلالاً في السنوات والعقود الأخيرة، عندما أصبحت «النخبة» وحدها هي التي تتحكم في الأغلبية الساحقة من المجتمع، من دون أن تستجيب لإرادتهم.
حرب غزة فضحت التناقضات التي تعيشها الديمقراطية الغربية، وكشفت كيف أن حقوق الإنسان يُمكن أن تختفي وتذوب عندما تكون لدى النخبة الحاكمة مصلحة في ذلك
خلال الشهور الثمانية الماضية، خرجت الملايين من شعوب الدول الديمقراطية العريقة تهتف من أجل فلسطين، وتُطالب حكوماتها بمعاقبة إسرائيل، ووقف تصدير الأسلحة إليها، ومع ذلك لم تستجب هذه الحكومات، ولم يجد المتظاهرون أي طريقة لإجبارها على تنفيذ مطالبهم، ولا يوجد أي توصيف لما يجري سوى أنه ديكتاتورية تمارسها النخبة على الأغلبية، التي يُفترض أنها تحكم نفسها وتقرر مصيرها. لا تتوقف أزمة هذه الديمقراطيات عند استمرار دعمها لحرب الإبادة التي تمارسها اسرائيل ضد الفلسطينيين، ولا تتوقف أيضاً عند مطالب شعبية غير مسموعة ولا تتم ترجمتها إلى قرارات من قبل الحكومة، بل إن تظاهرات واعتصامات طلبة الجامعات هي أحد تجليات هذه الأزمة، التي تضرب الديمقراطيات الغربية، إذ كيف يتم استخدام القوة والاعتقالات من أجل فض اعتصامات الطلبة في الجامعات الأمريكية وهي اعتصامات سلمية لا يشوبها أي عنف، ومن المفترض أنها تتمتع بحماية القانون والسلطات، حيث يُمارس هؤلاء الطلبة حقهم في التعبير عن الرأي، وهو أحد الحقوق الثلاثة الأساسية التي نصت عليها وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكية، إضافة إلى أنه حق مكفول بنص الدستور الأمريكي بطبيعة الحال. في بريطانيا لا يبدو الأمرُ أفضل حالاً من الولايات المتحدة، رغم أن السلطات وقوات الأمن لم تواجه طلبة الجامعات بالقمع ولا الاعتقالات، ولا حتى حاولت منع الطلبة من التظاهر، لكن الحكومة التي يهيمن عليها حزب المحافظين المؤيد لإسرائيل حاولت وتحاول تقييد التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين والمناهضة للحرب على غزة، كما حاولت الحكومة مراراً الخلط بين معارضة حرب الإبادة الوحشية التي يمارسها الاحتلال، و»معاداة السامية» التي تُجرمها قوانين البلاد.
ما يحدث هو أن الديمقراطيات الغربية الكبرى والعميقة تواجه أزمة حقيقية، سواء فيما يتعلق بنظرية أن «الشعب يحكم نفسه ويقرر مصيره» أو ما يتعلق بحرية التعبير عن الرأي، التي هي حق أساسي من حقوق الانسان. وقبل شهور قليلة من حرب غزة كانت الديمقراطيات الغربية تُقدم الحماية لأفراد يقومون بحرق نسخ من القرآن الكريم، على أساس أنها تحمي حقهم في التعبير عن الرأي، ليُفاجأ العالم اليوم بأنك في بعض الديمقراطيات الغربية تستطيع أن تقوم بإحراق القرآن الكريم، لكنك لا تستطيع أن تقوم بإحراق العلم الإسرائيلي، وأحياناً لا تستطيع الاحتجاج ضد حرب إبادة يمارسها جيش مدجج بالسلاح ضد نساء وأطفال ومدنيين! وعلى الرغم من أن هذه الحالة تسببت بأزمة للديمقراطية الغربية كنظرية وكتطبيق، إلا أنه من المهم الاعتراف بأنَّ حراك الشارع في الدول الديمقراطية لا يُمكن أن يكون بلا جدوى، ولا يُمكن أن ينتهي من دون أي إنجاز، ومثال ذلك واضح بإعلان ثلاث دول أوروبية اعترافها بدولة فلسطين، فضلاً عن التحول الكبير في تصريحات القادة والمسؤولين السياسيين في بعض الدول الأوروبية، وصولاً إلى حديث مسؤولة إسبانية عن أن «فلسطين ستكون حرة من البحر إلى النهر»، وهو الشعار الذي تحاول إسرائيل تجريمه في الدول الغربية.
والخلاصة هو أن هذه الحرب فضحت التناقضات التي تعيشها الديمقراطية الغربية، وسوف تؤدي قريباً إلى تحولات كبيرة عندما تجري الانتخابات في بعض الدول، وكشفت هذه الحرب كيف أن حقوق الإنسان يُمكن أن تختفي وتذوب عندما تكون لدى النخبة الحاكمة مصلحة في ذلك. وبطبيعة الحال فهذا كله لا ينفي حقيقة أن الشارع في أوروبا والدول الغربية بالغ الأهمية وقادر على التأثير في صناعة القرار وإلا لما رأينا ثلاث دول أوروبية تتخذ موقفاً لافتاً بالاعتراف بفلسطين، وتتجاهل الغضب الإسرائيلي الكبير من هذه الخطوة.
كاتب فلسطيني