أعلنت إيطاليا مؤخراً عن استعدادها لتزويد شركائها الأوروبيين بعدد من أهم المواد الضرورية للصناعات الرئيسية في دول الاتحاد الأوروبي، وذلك بعد أزمة انقطاع سلاسل التوريد، أي المشاكل الكبيرة التي تعاني منها الصناعات الأهم، بسبب ارتفاع الطلب العالمي، المرافق لضعف الإنتاجية، وتوقف عدد من المعامل المصنّعة للمواد الأولية والوسيطة، وارتفاع أسعار الشحن، بعد تفشي فيروس كورونا. الخبر قد يبدو عادياً، ولا يعني سوى المتخصصين بالاقتصاد، لو لم يعبّر المسؤولون الإيطاليون عن اعتقادهم بأن العالم لم يعد باستطاعته الاعتماد على سلاسل التوريد الطويلة، في إشارة إلى أن الصناعات الأوروبية يجب أن لا تبقى مرتبطة بسلاسل ممتدة، أثبتت أنها قابلة للانقطاع عند أول أزمة جديّة، مع مصانع ومناجم ومزارع تقع في ما وراء البحار، في أقصى شرق آسيا أو أمريكا الجنوبية.
لا يعني هذا مجرد مسعى سياسي لخلق نوع من الاكتفاء الذاتي الأوروبي، بل يطرح أيضاً أسئلة مهمة على المستويين الثقافي والأيديولوجي، فبعد عقود من الحديث عن انتصار العولمة، وإلغائها للمسافات والحدود المكانية بين مختلف أرجاء العالم، وضرورة الانفتاح الكامل على حركة السلع والأموال، يظهر أننا نعود من جديد للغرق بمشاكل تبدو أنها مقبلة من القرنين الماضيين، تتسبب بها تفاصيل مادية صلبة، ظن البعض أنها تقادمت منذ زمن طويل. مثل حركة الناقلات البحرية العملاقة؛ أسعار وقودها؛ عدد حاويات البضائع الضخمة وأماكن توزعها في موانئ العالم؛ الظروف المعيشية والصحية للعمال العاديين في المعامل والمناجم وخطوط النقل، وليس تقنيي التكنولوجيا الفائقة، الذين اعتبروا نموذجاً لـ»إنسان العصر».
سبق للجغرافي والمفكر الأمريكي البريطاني ديفيد هارفي، الحديث عن شكل جديد لـ»انضغاط المكان والزمان» في عصر العولمة، وما يسمى بـ»بعد الحداثة»، أي التغيرات في وعي البشر للزمان والمكان، في ظروف الإنتاج الجديدة، التي تميل للتراكم المرن، عبر إنتاج رأسمال وهمي، يُغرق البشر بالصور والعلامات والبيانات، المتداولة بسهولة كبيرة، بدون حواجز ثقافية أو جغرافية فعلية. ما يجعلهم يفقدون إحساسهم بالأزمنة والأمكنة الآمنة والمستقرة. ويبنون تصورات شبه سحرية، سريعة التغيّر والتبدّل، عن وجودهم ضمن الزمان والمكان، وقابليتهم للوصول والترحّل بين الثقافات والبلدان والحقب التاريخية، التي باتت علامات قابلة للتداول غير المحدود.
ولكن ماذا يحدث عندما تنقطع السلاسل الواقعية لتوريد المواد والبضائع والطاقة، وغيرها من الأساسيات الحياتية، التي لا يمكن ضغطها. والمعتمدة على الخرائط الكلاسيكية للمكان، والمفهوم العملي للزمان (وحدات متساوية يُقاس بها العمل والإنجاز والحركة)، وفي الوقت نفسه يضطر البشر للبقاء في بيوتهم بسبب الوباء؟ وماذا يحلّ بالإحساس المرن غير المستقر بالزمان والمكان، وبالتالي المفهوم المعاصر للذات الفردية والجماعية، عندما يصطدم ببوادر تفكك البنية الصلبة للإنتاج والتواصل، الموغلة في أزمنة وأمكنة محددة بوضوح شديد؟
«امتياز» إنسان المنزل
كانت التعليمات التي أصدرها كثير من الدول الغربية، مع بدء الوباء، لفئات واسعة من مواطنيها، واضحة، وعدّها البعض عادلة أيضاً: ابقوا في منازلكم، واعملوا عن بعد، فنحن في عصر لم تعد فيه ضرورة كبيرة للعمل في مكان معيّن. سنغلق كل شيء عدا المتاجر، التي تبيعكم المواد الأساسية للحياة. اعتبر كثيرون آنذاك أن العمل المنزلي بادرة لتطور كبير في حياة البشر، إذ ليس مفيداً بعد الآن حجز الموظفين في المكاتب، وباتت التكنولوجيا قادرة على تحقيق تغيّر كبير في فهمنا للإنتاج. كما لم يعد مفهوم «مكان العمل» ضرورياً. ولكن هؤلاء لم يتساءلوا غالباً عن الطريقة التي ستبقى بها المتاجر مفتوحة، والبضائع تصل إليها، خاصة أنه من النادر أن توجد سلعة لا تدخل في إنتاجها مواد مقبلة من أمكنة شديدة البعد. مَنْ سيصنع وينقل ويرصف البضائع على رفوف المتاجر؟
إهمال الأسئلة الضرورية قد تكون له نتائج مؤلمة في ما بعد. وقد بدأت هذه النتائج تظهر اليوم، مع ارتفاع الأسعار الكبير، وفقدان بعض السلع الأساسية في دول كثيرة حول العالم. والأهم الأرقام التي تقدمها الإحصائيات، عن مدى انتشار فيروس كورونا بين الفئات الأفقر: هؤلاء من كانوا يملأون المتاجر أثناء الإغلاق الكبير، ويعملون ضمن سلاسل إنتاج عالمية ممتدة بأجور متدنية، ولا يملكون ترف البقاء في المنازل.
لا يمكن، وسط تكاثر البيانات المتضاربة، التنبؤ بالمستقبل الاقتصادي لعالمنا، وما إذا كان سيستمر بالاعتماد على سلاسل التوريد الطويلة، أم سيعود إلى شكل من الحمائية والإقليمية في الإنتاج والاستهلاك، حسب الاقتراح الإيطالي.
يمكن القول إن ذاتية «إنسان المنزل» انبنت على اقتناع راسخ بانضغاط المكان والزمان: الحواجز زالت. البضائع ستبقى تصل إلى المتاجر، بالطريقة نفسها التي يصل بها العمل اللامادي إلى أي شركة حول العالم. والإنسان المترحّل افتراضياً عبر الأمكنة والأزمنة، بثقافاتها وهوياتها المتنوّعة، سيظل قادراً على الحفاظ على مرونته وقدرته على الابتكار، بل ربما سيزيده التحلل من ضرورة العمل المكتبي قدرةً. أما من تعطلّوا عن العمل، بسبب الإغلاق، فيمكن تعويضهم عبر معونات وقروض الدول. وبالفعل كان إقبال المستهلكين الأمريكيين على إنفاق التعويضات، التي نالوها من حكومتهم، أحد أهم أسباب ارتفاع الطلب العالمي والتضخّم. إلا أن الأزمة الاقتصادية الحالية قد تطرح كثيراً من الإشكاليات على «إنسان المنزل»: لم يعد سهلاً للغاية استهلاك بضائع صحية أو «خضراء»، ينتجها مزارعون مُستغَلّون في تشيلي أو الكونغو. العمال الصينيون غير قادرين على الاستمرار إلى ما لا نهاية في صناعة المواد الرخيصة. كما أنهم سيلوثون البيئة بكثير من الفحم المحروق، كي يوفروا العناصر الداخلة في إنتاج الهواتف والكومبيوترات، التي تؤمّن التواصل الضاغط للزمان والمكان. وبالتأكيد لن يمتلك البحارة القدرة على نقل البضائع، ما داموا يموتون في سفنهم، دون أن تقبل أي دولة استلام جثثهم، خوفاً من الوباء. الزمان والمكان والبشر ليسوا مرنيين دائماً مثل الصور والإعلانات والمخططات والبيانات. وهذا التناقض بين المرونة والصلابة لم يكن بإمكانه الاستمرار للأبد، وسينفجر بالتأكيد، كما تنفجر الفقاعات المالية والعقارية، مع كل أزمة اقتصادية عالمية. الذات المرنة هنا تواجه حدودها لأول مرة، ولذلك فربما يجب تلقي الإعلان الإيطالي عن مشاكل السلاسل الطويلة، التي كانت مخفية ومغطاة دوماً في الثقافة السائدة، بالجدية والقلق اللذين يستحقهما.
تنوّع الهيمنة
إلا أن هذا لا يعني انقساماً نوعياً أو طبقياً بين منتجين للعمل اللامادي، يقبعون في منازلهم، وعمال إنتاج مادي مُستغَلّين. واعتبار الأولين متمتعين بالامتياز، بقدر ما يشير إلى تنوّع في أساليب الهيمنة والتحكّم المعاصرة.
ليس العمل المنزلي ترفاً للدرجة التي ظنها البعض. فبعد عقود من النضال العمالي لزيادة وقت الفراغ وتقصير وقت العمل، يبدو المنتجون القابعون في بيوتهم خاضعين تماماً، في كل مناحي حياتهم، لإمكانية الوصول إليهم، وانتهاك خصوصيتهم، من قبل أرباب العمل. انضغاط المكان والزمان، في حالتهم، يعني أنه لم تعد هنالك أبعاد حياتية يمكن اعتبارها مستقلة عن عالم العمل، بكل ما يحويه من ضغط واستغلال وتحكّم بحيوية العاملين، بهذا المعنى لا يمكن اعتبار العمل المنزلي فرصة للتنمية المستقلة للذات، بقدر ما هو اخضاعٌ لها لتحكّم أكبر، في ظل وسائل تواصل قادرة على النفاذ إلى أكثر مناحي الحياة حميمية، سواء أثناء قيام البشر بالإنتاج أو الاستهلاك.
في الوقت نفسه يتم التحكّم بالعمال المنهمكين بالإنتاج المادي، على سلاسل الإنتاج والتوريد الطويلة، بالطرق الانضباطية القديمة: الحشد في المعامل والمزارع والمناجم، وعلى السفن والسكك الحديدية، ولذلك يمكن القول، ببعض السخرية، إن التنوّع الفعلي في عالمنا هو تنوّع أساليب التحكّم والهيمنة، فعمال الورشات الآسيوية يعاملون بما تقتضيه رواسب الثقافات الأبوية الشرقية، فيما يُستغلّ العمال المنزليون بأسلوب شديد العصرنة والمرونة، والمراعاة للحساسيات والهويات المتبدّلة.
استعادة الأبعاد
لا يمكن، وسط تكاثر البيانات المتضاربة، التنبؤ بالمستقبل الاقتصادي لعالمنا، وما إذا كان سيستمر بالاعتماد على سلاسل التوريد الطويلة، أم سيعود إلى شكل من الحمائية والإقليمية في الإنتاج والاستهلاك، حسب الاقتراح الإيطالي. ولكن في كل الأحوال ربما كان الأسلوب الأمثل لمواجهة الأزمات، التي يبدو أن ستتزايد في السنوات المقبلة، هو تجاوز البشر، المنتجين لكل ما هو مادي وغير مادي من سلع وخدمات، للهيمنة الأيديولوجية على وعيهم بالزمان والمكان، وانتزاعهم لإمكانية التحكّم بعلاقتهم مع عالمهم ومنتجاتهم المتعددة.
يتطلّب هذا أولاً القدرة على إعادة توطين الذات ضمن السياقات الفعلية للإنتاج المعاصر: ذواتنا ليست مجرد أنا أخلاقية نرجسية، تختار بحرية طريقتها في العمل والاستهلاك، وتقتنع بعقلانية السلطات القائمة، وإنما نتيجة لعمليات مادية، قذرة وملوثة للغاية، تتم على سلاسل طويلة من الاستغلال والمعاناة. ويتطلب ثانياً إطلاق الرغبة في التضامن الفعلي بين كل من يعملون على تلك السلاسل، سواء في المصانع والناقلات أو البيوت. وهذا يستلزم نمطاً جديداً من الذاتية، تتفهّم التماثل والوحدة في ظروف البشر، ولا تختبئ وراء أوهام الحساسيات والتنوّع والفرادة.
كاتب سوري