أزمة «الصائبين»: ماذا لو انقطعت سلاسل توريد القيم أيضاً؟

تتخذ الأزمة الاقتصادية والسياسية العالمية الحالية أبعاداً أكثر خطورة من مجرد ركود وتضخّم اعتيادي، أو تهديد بخطر حروب إقليمية طويلة الأمد، إذ أنها تجعل نمط الحياة الحضرية التي نعرفها موضع تساؤل، خاصة في الحواضر العالمية، التي كانت الأكثر استفادة من النمو، أو بالأصح القفزات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تحققت مع العولمة.
يتساءل كثيرون اليوم، في الدول الغربية تحديداً، عن مصير مدنهم إذا توقفت صناعات ونشاطات اقتصادية كبرى ومترسّخة، نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة وانقطاع سلاسل التوريد. ماذا سيحلّ بكل أولئك المهاجرين، الذين غشوا المدن المزدهرة طيلة العقود الماضية، بحثاً عن فرص أفضل للعيش؟ والمقصود بـ«المهاجرين» هنا ليس فقط الأجانب، القادمين من العالم الثالث، بل كل من انتقلوا إلى المدن الكبرى، أياً كانت جنسياتهم وثقافاتهم، واندمجوا في نمطها الحياتي والثقافي، وما أكثرهم!
خطر انكماش المدن العالمية الحالية له أبعاد ثقافية شديدة التعقيد، فهو لن يؤدي إلى تراجع وانحطاط الإنتاج الثقافي حسب، بل سيؤثر أيضاً في الطريقة التي يفهم بها البشر أنفسهم، ويعرّفون ذواتهم. معظم القيم السائدة، التي يعتبرها كثيرون اليوم تقدمية أو تحررية أو متطوّرة، تأتي من «المدن الأم» في الدول الغربية، وعبّرت عن أنماط إنتاج وتواصل أساسية فيها، وهي أنماط تغذّت دائماً على «عالم مفتوح» ولو بشكل نسبي، كانت كل التدفقات فيه، من سلع وبيانات ورموز ثقافية، تعبر مساراتها دون أي تهديد فعلي. قد تزدهر مدن كبرى جديدة بعد تقطّع أوصال «العالم المفتوح» لكنها ستكون ذات سمة إقليمية أكبر، وستنتج أنماطاً حياتية وثقافية أخرى، ربما تكون صادمة لأنصار القيم «التقدمية» المعاصرة.
تعرّض أنصار تلك القيم لنقد قاسٍ طيلة السنوات الماضية، وليس فقط من قبل اليمين المتطرّف والشعبوي، السياسية اليسارية الألمانية زاهرا فاجنكنيشت مثلاً الصقت بهم اسمDie Selbstgerechten، في كتابها الشهير والأكثر مبيعاً الذي يحمل الاسم نفسه، وهي مفردة ألمانية صعبة الترجمة، تشير إلى الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم أكثر صلاحاً وصواباً من الآخرين، دون أي قدرة على النقد الذاتي، أو مساءلة قيمهم. بالنسبة لفاجنكنيشت، فقد ازدهرت «يسارية نمط الحياة» في المدن الكبرى، بدلاً مما تعتبره النضال اليساري الحقيقي بين ومع الناس الأقل دخلاً. جعل أولئك «الصائبون» قضايا حياتهم المدينية المترفة معياراً لكل القيم، وألغوا كل من يجرؤ على معارضتهم، أو لا يعتبر طروحاتهم من أولوياته.
وُجّه كثير من النقد لهجاء فاجنكنيشت لـ«الصائبين» إلا أن أنماط حياتهم، أياً كان توصيفها والموقف منها، قد تكون وصلت بالفعل إلى نهايات ازدهارها، وقدرتها على التأثير والانتشار، كيف سيبدو عالمنا دون ثقافة وقيم «الصائبين»؟

الصوابية أداةً للإنتاج

من الانتقادات الأساسية، التي وُجّهت لفاجنكنيشت، أنها صنعت نموذجاً متخيّلاً عن «الصائبين» بوصفهم مجموعة من المترفين، المنتمين للطبقة الوسطى، ذات الدخل والملكية الكافيين، وهاجمته بكل شراسة، فيما لا توجد أي بيانات أو أرقام تؤكد أن حاملي تلك الأيديولوجيا ينتمون لهذه الشريحة الاجتماعية. وبالفعل، لا يمكن اعتبار أن الصوابية أيديولوجيا بورجوازية أو حتى بورجوازية صغيرة، فكثير من «الصائبين» يعيشون في المدن حياة غير مستقرة، وحيدين أو شبه وحيدين، لا يستندون إلى ملكية مالية أو عقارية متينة، ولا يملكون في الواقع إلا قدرتهم على العمل، حتى لو كان عملاً فكرياً أو عاطفياً. وربما كان معظمهم من بريكاريا هذا الزمن (عمالته غير المستقرة) لا ينتقص من «عماليتهم» أنهم يخالفون تصورات سياسية يسارية تقليدية، عمّا يجب أن تكون حياة وسمات الطبقات العاملة. إلا أن هذا لا يفسّر بحد ذاته الانتشار الكبير للأيديولوجيا الصوابية بين بريكاريا المدن الغربية، والمتأثرين بهم في العالم الثالث. إحدى محاولات الإجابة أن الالتزام بقيم مثل مكافحة التمييز والذكورية، الحفاظ على البيئة، احترام الحريات الفردية وحق تقرير المصير الذاتي، ليست خياراً سياسياً، يتخذه الأفراد بناءً على القناعات التي كونوها خلال الجدل والتفاعل في الحيز العام، بل هي سمات ضرورية لنمط الذاتية المقبول والمطلوب في المدن الكبيرة. لم يعد يكفي لتوظيف العمالة أن تتمتع بقدرات عضلية، وخبرات مهنية اعتيادية، بل يجب، مع تطوّر الإنتاج «اللامادي» أن تطابق نموذجاً معيناً عن الذاتية، يتسم بـ»المرونة» و»الانفتاح» وقبول «التنوّع». وهذه القيم الثلاث لا تعني مجرد الرفض اللفظي لكل أشكال العنصرية والمحافظة الاجتماعية، بل أساساً قبول العامل للعمل في شرط غير مستقر، منتزع من كل سياق اجتماعي راسخ، واستعداده الدائم لترك كل ما هو مألوف وثابت، وملاحقة «الجديد» و«المٌبتكر». تصبح ذات العامل نفسها ذات قيمة تبادلية يمكن تداولها، تضاف إلى قوة عمله العضلية والذهنية، التي يبيعها لأرباب العمل عادة. وبالتالي كلما أثبت أن ذاته أكثر «مرونة» كانت قابلة للبيع والتسويق أكثر. بهذا المعنى فإن صوابية «الصائبين» في المدن الكبرى هي أسلوب إنتاج، وعلاقة إنتاج في الوقت نفسه. يمتزج العمل مع الأيديولوجيا في مزيج يزيل الفارق بين البنيتين الفوقية والتحتية، اللتين أكد عليهما الفكر اليساري الكلاسيكي.

تنبع أهمية نقد طروحات فاجنكنيشت، وغيرها من معارضي الصوابية، من كونها رفضت الأخلاقوية من موقع أخلاقوي بدوره: المشكلة، حسبها، تكمن في مجموعة من النرجسيين المترفين، الذين يريدون العالم على صورتهم ومثالهم. وهو رفض لا يلحظ كثيراً الشروط المادية والبنيوية، التي أدت لظهور ذوات «الصائبين» الكثر في عالمنا.

يختلف هذا بالتأكيد عن نموذج فاجنكنيشت عن الناشط الأخضر، القادر على شراء المنتجات العضوية ومصادر الطاقة «النظيفة» لتأكيد نرجسيته الأخلاقية، إلا أن الأيام المقبلة ربما تحمل بشرى سارة لكل المنزعجين من الصوابية والصائبين، فأنماط الإنتاج «المرنة» التي عملت على تسليع العمل العاطفي والسمات الرمزية والهوياتية، قد تتلقى ضربة قاسمة مع انهيار «العالم المفتوح» المُتوقع مع انقطاع السلاسل الطويلة لتدفقات السلع والبيانات والرموز. معظم الفقاعات المالية والعقارية والثقافية في المدن الكبرى قد تنفجر، وينقطع سخاء الممولين، الذين طالما شجّعوا الأفراد على إشهار «فرادتهم» وتسويقها. وعندها سيجد «الصائبون» أنفسهم في أزمة عميقة: أيديولوجيا صارمة، تهدد كل من لا يتكيّف معها بالإلغاء، ومحاصرة دوماً بأعداء كثر، من محافظين وشعبويين؛ وفي الوقت نفسه لا يمكن التكسّب منها، فالشركات، المنظمات غير الحكومية، المؤسسات الثقافية، لم تعد تملك ترف تمويل كل ذلك «الانفتاح» و«التنوّع».

التوبة الصعبة

قد تشهد السنوات المقبلة نوعاً من «المراجعات» والميل للتوبة، شبيها بما اضطر إليه الشيوعيون بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. فبعد عقود طويلة، قضوها باتهام بعضهم بـ»التحريفية» أو «العمالة» أو «الرجعية» اكتشفوا أن خطابهم كان خشبياً وقمعياً، ضيّع عليهم كثيراً من فرص التطوّر الفكري وقبول الآخر.
صوابيو اليوم، الذين قضوا بدورهم وقتاً طويلاً بتراشق التهم بـ»العنصرية» و»الذكورية» و»العدوان المصغّر» قد ينظرون قريباً إلى تراثهم الأيديولوجي بنوع من الندم والخجل، خاصة إذا بات غير نافع في نيل الاعتراف المادي والمعنوي، إلا أن «الصائبين» الذين سيزداد انحدارهم الاجتماعي، قد يعانون كثيراً في إيجاد بديل أيديولوجي يساعدهم على التوبة، والأهم على مواجهة الشرط الصعب الذي يعيشون فيه، فنقد المنظومة القائمة، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، قد تطوّر طيلة السنوات الماضية في مواطن غير متوقّعة: اليمين أساساً، الذي نجح باستقطاب فئات كثيرة من الناقمين على الأوضاع القائمة؛ إضافة إلى اليسار التقليدي، المتهم بدوره بالشعبوية واتخاذ مواقف محافظة. في ألمانيا مثلاً يعتبر يساريون مثل فاجنكنيشت حيناً من بقايا التفكير الخشبي لاشتراكية «جمهورية ألمانيا الديمقراطية»؛ ويُشبّهون أحياناً أخرى بقادة حزب «البديل لأجل ألمانيا» اليميني الشعبوي. فهل يعود «الصائبون» نادمين إلى أعدائهم، بعد انكماش مدنهم وانهيار عالمهم؟

الخيار العمالي

تنبع أهمية نقد طروحات فاجنكنيشت، وغيرها من معارضي الصوابية، من كونها رفضت الأخلاقوية من موقع أخلاقوي بدوره: المشكلة، حسبها، تكمن في مجموعة من النرجسيين المترفين، الذين يريدون العالم على صورتهم ومثالهم. وهو رفض لا يلحظ كثيراً الشروط المادية والبنيوية، التي أدت لظهور ذوات «الصائبين» الكثر في عالمنا.
فهم الشروط البنيوية لانتشار القيم وأنماط الذاتية قد يساعد كثيرين على تجاوز الاستلاب الأيديولوجي السائد، وإعادة تعريف أنفسهم بشكل جديد: بشر لا يملكون إلا قدرتهم على العمل والتفكير. وعندها قد يجدون دافعاً للتضامن في وجه التحولات المؤلمة التي يشهدها عالمنا، وإنتاج قيم وروابط اجتماعية جديدة، لا تهتم بـ»التنوّع» و»المرونة» بقدر ما تحتفي بالمشترك والمتماثل، وتحاول توسيع مساحتهما، لمواجهة الظروف التي يعاني منها الجميع، وتثبيت حقوق صلبة ومستقرة للمجموعات المتضررة، كي لا يكون التغيير المقبل على حسابها فقط.
قد لا يمكن إيقاف انحدار الشرط المادي للمدن الكبرى في عالمنا، وبالتالي يجب قبول انتهاء عالم بأكمله من القيم وأنماط الحياة، وهذا لا ينطبق فقط على الناشطين الغربيين، بل أيضاً على المتأثرين بهم في العالم الثالث، الذين راهنوا طويلاً على حتمية توسّع نموذج معين من العولمة، بات اليوم متقادماً إلى حد كبير.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعادة فلسطين الصين:

    واو واو .. مقالة قمة من الكاتب المتميز الكيال

إشترك في قائمتنا البريدية