البحث عن مواقع جديدة في حركة الاقتصاد العالمي لا يزال هو المتحكّم بمسار الأحداث والوقائع. والوضع العالمي الذي زعزعوا ركائزه وأفقدوه المرجعيات، يخضعُ اليوم أكثر من أي وقت مضى لإعادة التفكير فيه، في وقت تتجه التوازنات الدولية بشكل واضح نحو التغيّر. أما نوع الحوكمة العالمية الذي تبنته المراكز الليبرالية، والذي يشجع البلدان على العمل لتحسين اقتصاد وأمن العالم، فيتعرض لتهديد شديد، ولا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن هذا التهديد ينحسر.
العنف المُنظم، والصراعات العسكرية، والصدمات الاقتصادية، وكذلك الآثار الثانوية الناتجة عن جائحة كورونا، وتغير المناخ، جميعها متغيرات تفاقم على أثرها انعدام الأمن الغذائي في العديد من الدول، وقد ازداد الوضع تعقيدا مع الحرب الروسية الأوكرانية على نحو تقلص إمدادات الحبوب وأزمة الطاقة وغيرها. ويبقى من المهم ضمن مسارات الرأسمالية المتداعية بمعسكرها التقليدي، أن يوجد من يبحث عن وضع حدّ للإهمال الدولي الذي جعل أمريكا اللّاعب الوحيد واضع السياسة في العالم لعقود، وفق عنجهية تغيّب كل المرجعيات الدولية، ولا تحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها.
المثال الأمريكي بات يعيش فعلا أزمة النموذج الليبرالي، وأخطاؤه الخارجية تخلق أزمات داخلية، وتغرق هذه الإدارة في مشاكل اجتماعية بنيوية
الملاحظ مع ما يسود لدى أغلب القادة من هواجس انتخابية، أنّ المؤسسات السياسية، التي لا تستطيع الاستجابة لمخاوف الناخبين، الذين يبحثون عن أفكار واضحة، تنهار بشكل ملحوظ. لا يتوفر لدى المركز المؤيد للعولمة تحديدا، سوى القليل من العروض، من يمثلونه يعيدون النقاشات نفسها منذ عقود. بينما حتى لو كانت حلول الشعبوية غير مستساغة، فإنها تقدّم على الأقل رؤية مستقبلية، ما يجعل حركات اليمين تنتصر في كثير من الدول، تصعد تدريجيا، وتستقطب الجماهير اليائسة من السياسات البالية وتأثيرات الليبرالية وأزماتها على المعيش اليومي. وهو واقع ينسحب على دول كثيرة بما فيها المركز الغربي الرأسمالي وكتله الاقتصادية. بالنظر إلى مشاريع هذا المعسكر الرأسمالي الأمريكي الغربي في المنطقة، وبعد اتضاح المطامع الأمريكية في التخريب وتقسيم الدول، حدث التدخّل الروسي المباشر على خط الأحداث في سوريا. وتم إنشاء تحالف بقيادة عربية لإبقاء اليمن حديقة خلفية للحدود وللممرات المائية، وكان ذلك خطأ استراتيجيا بحجم الضحايا والمآسي، مدفوعا تحت ضغط خارجي أمريكي بالأساس، وهو شأن كل التحالفات التي تُرسم تحت عنوان محاربة الإرهاب والتطرف منذ عقدين على الأقلّ. بسببها حدث التخريب والفوضى، وتفجير الحرب الأهلية، وتدمير النسيج الاجتماعي وتفكيك البنية الوطنية، لكثير من دول المنطقة. كل ذلك هدفه الاستمرار في موضعة القوة العسكرية ومصادرة السيادة والقرار الوطني المستقل، لضمان انفتاح الأسواق وتوجيهها لتستفيد منها بشكل مشترك الدول الرأسمالية الكبرى المتحالفة. أما الدول الإقليمية فهي في أغلب الأحيان مجرد رافعة للمصالح وليست مستفيدة. تنامت على حسابها الحاجة إلى تأمين مصادر الطاقة للعمليات العسكرية والإنتاج الصناعي، وتنافست القوى الكبرى في الصراع على هذه الثروات التي تصنع إلى الآن خريطة التحالفات في المنطقة. بشكل عام لا توجد مسألة نفطية مهمة مرتبطة باعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على النفط الأجنبي، أو تقلّبات الأسعار، سواء فكروا بالتلوث، أو بتأثيرات الاقتصاد الكلي، أو ما يحدث في الشرق الأوسط. فضعفهم الحقيقي يعتمد على السوق العالمية، والمنافسة مع القوى الصاعدة، خاصة الصين، ولا يعتمد على أنّ جزءا مما يستهلكونه مقبل من الخارج. واشنطن مازالت تسعى إلى التحكّم بالنفس العالمي، أو على الأقل أن تمارس درجة من الهيمنة لا يجاريها فيها أحد. إلا أنّ شكل هذا التحكّم في حقيقة الأمر غامض للغاية خاصة في هذه المرحلة، والأهمّ من ذلك أنّه مختلف عن أنواع التحكّم الحصري بالمواد الأوّلية الذي عادة ما يتمّ ربطه بالقوى الإمبريالية. في النهاية، السلطة الحقيقية ليست بيد الحكومات بل هي في قبضة الشركات الكبرى بضخها وتكريرها ونقلها للمواد الأولية، فهي الموجهة لمراكز القرار ومصدر قوة التأثير الحقيقية. أمريكا اليوم، تخسر الكثير سياسيا واقتصاديا وعلى المستويات الأخلاقية والإنسانية بالأخص، عبر دعمها لكيان الاحتلال الصهيوني في حرب يرفضها الجميع ويدعون لوقفها، وقد أصبح العالم كله يرى صورة إسرائيل البشعة في القتل والتدمير وارتكاب أفظع الجرائم أكثر من أي وقت مضى. الغريب في كل ذلك، أنّ الدعم الأمريكي المطلق لهذا الكيان يتم على حساب مصالح الولايات المتحدة وصورتها المتداعية هي الأخرى. بالتأكيد لاتزال هناك مجموعات مصالح قويّة تُدافع عن العلاقة الخاصة التي تجمع واشنطن بتل أبيب. كما لا يزال يوجد كثير من السياسيين العالقين في رؤية قديمة للمشكلة. الولايات المتحدة الأمريكية تعيق إلى الآن تحقيق السلام في المنطقة، بمنعها الاعتراف بحقوق الفلسطينيين المشروعة في دولة مستقلة على أراضيهم التاريخية، دعمها الاستعمار الصهيوني أصبح مفضوحا، وحتى اشتراطها استثناء إسرائيل من المنطقة الخالية من الأسلحة النووية، وما من شك بأنّ ما يحدث من ضغط اسرائيلي أمريكي مشترك تجاه إيران، التي تقدّم الدعم المسلّح للمقاومة في غزة، يُفهم من باب التحسر، والعمل على الإطاحة بالنظام، وتشكيل آخر شبيه بفترة السبعينيات، حين أسهمت العلاقات الإسرائيلية الإيرانية من وجهة نظر غربية في استقرار المنطقة وإبعادها عن تأثير «المخاطر القومية والثورية» وضمنت تأمين مصالح الغرب. ومن المؤكّد فعلا أنّ عدم إرادة الولايات المتحدة في جعل المساعدات مشروطة، بمنح إسرائيل الفلسطينيّين دولة قابلة للحياة، ساعدت أيضا في القضاء على عملية أوسلو للسلام، وتبديد الفرصة الأفضل لحل حقيقي يقوم على دولتين. وعبر الدعم المطلق الذي تقدّمه الإدارة الأمريكية لتل أبيب، فإنّها لا تزال تشجّعها على أن تنتهج سياسات من شأنها زيادة المخاطر المحدقة بها إلى أقصى حد. سياسات تختار التوسع على حساب الأمن، وتقود إلى انحطاطها الأخلاقي، وعزلتها ونزع الشرعية عنها. الأمر الذي سيؤدي إلى دمارها في نهاية المطاف. حكومة نتنياهو الهجينة، عمّقت الانقسامات بين المؤيّدين لإسرائيل بصورة غير مشروطة، ومعارضي النظام الحالي. وكل يوم تزداد الاحتجاجات داخل إسرائيل، بقطع النظر عن حجم الضغط الذي تمارسه عائلات الأسرى، فالمشكلة هي الحكومة المتطرفة التي يرى فيها الإسرائيليون خطرا على ما يسمونها دولتهم. لم يعد بإمكان نتنياهو وحكومته الظهور بمظهر الضحية، سلوك نظام الاحتلال الإسرائيلي هو الإجرام والشر الخالص، الشر السادي، الشر من أجل الشر.
حرب غزة أعادت صورة فلسطين نابضة، وكشفت حقيقة الإجرام والفاشية الصهيونية المدعومة أمريكيا، أما خنق النقاش داخل المؤسسات الأمريكية حول كيان الاحتلال والدعم الأمريكي المطلق له، فهي ظاهرة مَرَضية بالنسبة إلى الديمقراطية الأمريكية، تنضاف إليها حملة القمع الموجهة ضد الاحتجاجات الطلابية في دولة تدعي العدالة وحقوق الإنسان وتتباهى بحرية التعبير. في المحصلة، بين التنظير والواقع، المثال الأمريكي بات يعيش فعلا أزمة النموذج الليبرالي، وأخطاؤه الخارجية تخلق أزمات داخلية، وتغرق هذه الإدارة في مشاكل اجتماعية بنيوية.
كاتب تونسي