نجح تطبيق «ثريدز» وهو الموقع المنافس لـ«تويتر» باستقطاب ملايين المستخدمين، بعد أيام قليلة من افتتاحه، في حدث شغل الصحافة العالمية، لدلالاته المتعددة، اقتصادياً وسياسياً، بل حتى أيديولوجياً، فهو يشير إلى اقتراب مارك زوكربيرغ، رئيس شركة «ميتا» التي تندرج تحتها مواقع مثل فيسبوك وأنستغرام وواتس اب، من إسقاط آخر منافس له في العالم الافتراضي، أي إيلون ماسك، الذي استطاع مؤخراً إحكام سيطرته على «تويتر». والصراع بين الرجلين لا يقتصر على التنافس التجاري البحت. فماسك اعتبر سابقاً أن موقعه «الميدان الرقمي العالمي، الذي تُناقش فيه أهم القضايا التي تهمّ البشرية» وأبدى عزمه على صيانة «حرية التعبير» فيه، وتخليصه من سيطرة أيديولوجيا «الووك» الأقرب للحزب الديمقراطي الأمريكي الحاكم؛ فيما يبدو زوكربيرغ أميل للتفاهم مع أتباع تلك الأيديولوجيا، خاصة بعد المساءلة التي تعرّض لها، حول دور منصاته في نشر «الأخبار المزيّفة» والمنشورات التحريضية، التي ساهمت بوصول الجمهوريين للحكم عام 2016.
اللافت أن الطرفين لا يتنازعان أساساً حول خطابات أو آراء معينة؛ ولا حتى على «قيم المجموعة» أي المعايير المعلنة، التي تنظّم أشكال التعبير على المنصات الافتراضية، بل حول السيطرة على الخوارزميات التي تحدد مرئية المنشورات المختلفة، أي كيفية وجودها على صفحات المستخدمين، بناء على البيانات المجمّعة عن اهتماماتهم وميولهم. الخوارزمية إذن تصبح أهم عناصر الأيديولوجيا؛ والبيانات أهم ما يعرّف البشر، ما يشير إلى طبيعة «الميدان» الذي يدور حوله الصراع: لا نتحدث هنا عن مجال يجمع فاعلين اجتماعيين، يتداولون حججاً وبراهين، أو حتى خطابات عاطفية وانفعالية، للتعبير عن مصالحهم وقناعاتهم، وإنما عن اختزالات رقمية، يمكن تحليلها وبرمجتها في اتجاه معيّن، تنتج استثارات عصبية وردات فعل قابلة للقياس، حسب «وقت المشاهدة» و»عدد النقرات» و»التفاعل».
يمكن للمنتصر في المعركة أن يمتلك إمبراطورية البيانات الاختزالية تلك، وبالتالي تحقيق نوع من الهيمنة، ليس على «عقول المتلقين» حسب البلاغة العتيقة عن التلاعب الأيديولوجي، وإنما على منعكساتهم العصبية، وردود أفعالهم شبه الغريزية. وهو أمر يثير قلقاً عميقاً بين نقّاد مواقع التواصل الاجتماعي، الكثيرين في عالمنا، ومنهم سياسيون وحقوقيون ومسؤولون حكوميون؛ ناشطون ومفكرون محافظون؛ وبالتأكيد أغلبية من يعتبرون أنفسهم مناهضين للرأسمالية المعاصرة. فما مدى الخطورة الفعلية لصراع حيتان العالم الافتراضي؟ وهل سنصبح قريباً تحت هيمنة شخص واحد، وشركة واحدة، تتلاعب بلا وعينا، وتحرّكنا على هواها؟
الوقاية من الشاشات
اعتُبرت مواقع التواصل الاجتماعي عاملاً سياسياً وأيديولوجياً شديد الخطورة، منذ بدء انتشارها العالمي. كثيرون رأوا فيها، إبان الربيع العربي مثلاً، وسيطاً جديداً للحراك الاجتماعي، بعد اضمحلال التنظيمات والقوى السياسية القديمة؛ وطريقة مبتكرة لتجاوز الرقابة والأحكام الديكتاتورية وسياسات التعتيم الإعلامي، إلا أن هذه النظرة المتفائلة تراجعت تدريجياً، إلى أن جاءت الانتخابات الأمريكية عام 2016، لتغيّر مواقف كثيرين: تلك المواقع أسلوب للتلاعب، ووسيلة مفضّلة للشعبويين، فضلاً عن إشكالاتها القانونية، في ما يتعلق بحماية الخصوصية؛ والأخلاقية، بسبب تأثيراتها السيئة على نفسيات الأطفال والمراهقين. وصلنا اليوم إلى وضع يخرج فيه رئيس دولة ديمقراطية، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ليحمّل تلك المواقع جانباً من مسؤولية الاضطرابات الاجتماعية في بلده، ويطالب بـ«حماية الأطفال من الشاشات» ويعني بـ«الأطفال» على الأغلب مثيري الشغب، ممن يسمّون «أبناء الضواحي الفرنسية».
ما يتفق عليه كل المتشككين بالعالم الافتراضي وآلياته، أن «الميدان الرقمي العالمي» يجب أن لا يُترك بين أيدي شركات احتكارية عملاقة، لديها أنظمتها ومصالحها الخاصة، بل لا بد من أن يصبح تحت إشراف قانوني صارم، تنظّمه الدول، بل ربما المنظومة الدولية بأكملها، إذ لا يمكننا على الإطلاق أن نثق برجلين مثل ماسك وزوكربيرغ، قد يُغرقان دولاً عديدة بمزيد من الفوضى. وعلى الرغم من أهمية الجدل القانوني والتربوي حول تنظيم وسائل التواصل وحماية القاصرين، إلا أنه من المستغرب اعتبار تلك المواقع والتطبيقات سبباً أساسياً للاضطراب الاجتماعي حول العالم، وكأن المحتجّين ومثيري الشغب، والمشاركين في الصراعات الاجتماعية، مجرّد «مغرر بهم» أو لا يوجد سبب لصخبهم وعنفهم إلا الخوارزميات غير المنضبطة. هل كان انتصار ترامب في الانتخابات الأمريكية، وما أعقبه من اضطرابات اجتماعية، بسبب «الأخبار الكاذبة» فقط؟ ألا يمكننا إيجاد أسباب أكثر تعقيداً، في بنية المجتمع الأمريكي، لظواهر مثل الشعبوية والتوتر العرقي؟ الأمر نفسه ينطبق على مشاكل الضواحي الفرنسية: هل قوننة وسائل التواصل، وفقاً لأحكام الجمهورية الفرنسية، سيخفّف بشكل فعّال من مشاكل الفضاء الحضري، في ذلك البلد الغارق بالأزمات؟
أسئلة استنكارية من هذا النوع قد تبيّن المبالغة شديدة في تقدير الأهمية السياسية لمواقع التواصل، إذ أن «ميداناً رقمياً عالمياً» قائماً على تحريك الغرائر والمنعكسات العصبية، قد يساهم في مزيد من انتشار الغضب، وربما المبالغة به، إلا أنه لن يخلق صراعات من العدم.
أسئلة استنكارية من هذا النوع قد تبيّن المبالغة شديدة في تقدير الأهمية السياسية لمواقع التواصل، إذ أن «ميداناً رقمياً عالمياً» قائماً على تحريك الغرائر والمنعكسات العصبية، قد يساهم في مزيد من انتشار الغضب، وربما المبالغة به، إلا أنه لن يخلق صراعات من العدم. وفي كل الأحوال فليست طبيعة الميدان التواصلي، سواء كان واقعياً أو افتراضياً، هي ما يخلق الصراع الاجتماعي، فالبشر قد يحلّون النزاعات، ويبنون التحالفات، وينظّمون أنفسهم، ويعبّرون عن رغباتهم ومصالحهم، بل يبتكرون القيم والمشتركات، عبر قنوات الحيز العام، لكنّهم لن يتورّطوا في نزاعات لا أساس لها، لمجرّد أن هنالك من «تلاعب بهم» في ذلك الحيّز. بالتأكيد يؤدي غياب ميادين تواصل سليمة إلى كثير من الفوضى، بسبب عدم وجود مؤسسات اجتماعية وسيطة ومجتمع سياسي نشيط، يمكن فيه التعبير عن الاختلاف، وحل النزاعات بشكل سلمي، لكن هل مواقع التواصل الاجتماعي هي من أدى إلى اضمحلال المجتمع السياسي والمؤسسات الوسيطة، مثل الأحزاب ومؤسسات الرعاية والنقابات والأندية الاجتماعية والثقافية؟ يُحمّل «الميدان الرقمي العالمي» أوزار عالم، شهد تغيّرات بنيوية شديدة ومتسارعة طيلة العقود الماضية. عندما ظهر «فيسبوك» و«تويتر» كان الناس بالفعل، في معظم أنحاء العالم، قد فقدوا كثيراً من مشتركاتهم، وباتوا يعيشون في ما يشبه المعازل الاجتماعية والثقافية، وتغيّرت أنماط عملهم وأساليب معيشتهم، ونظرتهم للذات والعالم. تُعبّر مواقع التواصل عن ذلك الحال، وربما تكرّسه، لكنها بالتأكيد لم تخلقه، وليس بمقدورها وحدها تحقيق هيمنة شاملة عليه. على ماذا يتصارع ماسك وزوكربيرغ بالضبط إذن؟
رغبة «الميتا»
أنتجت مواقع التواصل «نموذج أعمال» مستحدثاً، قائماً على تطوير سلعتين مهمتين، والسعي لتكثيرهما بشكل لا متناهٍ: الانتباه الإنساني وبيانات المستخدمين. إنتاج هاتين السلعتين يفترض أشكالاً غير مألوفة من العمل، ويخلق وظائف جديدة، مثل «التسويق الرقمي» و»إدارة الحملات» و«تنسيق التفاعلات» فضلاً عن عمل «المؤثّرين» في مجال «المحتوى». ويمكن القول إن هذا القطاع المستجد أثّر في مناحي الإنتاج العاطفي والذهني المختلفة، الموجودة سلفاً، وجعلها تعمل على إيقاعه، لدرجة أننا الآن على أعتاب نقلة نوعية جديدة، قد تؤسس لتوسّع استثماري كبير، وهي الانتقال من «الافتراضي» إلى «فوق الواقعي» فبعد أن كان «الافتراض» يقوم على جعل الوسائط الفيزيائية، وعلى رأسها المكان، أقلّ ضرورة للتواصل، يحاول «الميتا» إعادة الاعتبار للمكان، لكن ليس المكان الواقعي، وإنما فضاء مُخلّق بالكامل، فيه إمكانيات أشد إبهاراً من كل الفضاءات المادية. وبالتالي ففي إمكانه أن «يبتلع» انتباه البشر تماماً، ويحوّل كل ما في وجودهم إلى بيانات قابلة للتداول.
يبدو أن الصراع الدائر اليوم يتمحور حول السيطرة على هذا القطاع المستقبلي، بما سيحويه من ميادين رقمية مستجدة، إلا أن المراهنة على عوالم «ميتا استثمارية» مثل هذه قد لا تكون آمنة للدرجة التي يتوقعها كثيرون، وربما سنكتشف أنها ليست أكثر من فقاعة ستنفجر قريباً، خاصة أننا لا نعلم بالضبط كيف سيغادر البشر عالمهم الواقعي، بضروراته وأزماته، إلى فضاءات «الميتا».
العودة إلى «الواقع»
قد يبدو طموح تحويل الفعالية الإنسانية كلها إلى إنتاج العلامات والبيانات مبالغاً فيه، فما زال عالمنا قائماً على ميادين الإنتاج «العتيقة» ومئات ملايين البشر ينشطون بين المصانع والمناجم وخطوط النقل والتوريد، وربما لم يسمع أغلبهم بماسك وزوكربيرغ، ولا يهمهم كثيراً الفرق بين ثريدز وتويتر. وقد بيّنت أزمات، مثل انتشار فيروس كورونا، أن تعطّل ذلك «العالم الواقعي» سيجعل «الافتراض» كله بلا أي معنى، خاصة أنه، حتى اللحظة، لا بديل عن العمل الإنساني الشاق، بل إن أعمال البشر تزداد مشقّة رغم تطوّر التكنولوجيا، وتزداد دوماً المساحة، المقتطعة من وقتهم، وجهدهم الجسدي والذهني والنفسي.
سواء في الاقتصاد أو السياسة فإن مواقع التواصل، حتى لو وصلت لمرحلة «الميتا» ليست العامل الأساسي: لا هي الحيز العام، أو بديله؛ ولا سبباً للفوضى أو الاستقرار؛ ولا يمكن اعتبارها أكثر من قطاع اقتصادي ضخم فعلاً، لكن ربما مبالغ في تقديره. فالعالم في النهاية ليس فيلم ديستوبيا أو خيالا علميا أمريكيا.
كاتب سوري