قد تكون الرواية قناعاً للتاريخ، ولعبة في استكناه بعض حمولاته الرمزية، أو خفايا المسكوت عنه، لكنها تظل لعبة متعالية، وكتابة خادعة للتاريخ، لاسيما حين تشتبك مع أحداث ووقائع سياسية أو اجتماعية، وهذا ما يجعل الروائي أكثر توجسا في مقاربة المناصة التاريخية التي تسعى إلى تشكيلها عبر تدوين سرديات الكاميرا، فيعمد إلى ربطها بعين السارد، وهي ترقب، وتلتقط وتتخيّل، لتصنع لنا نصاً يتجاور فيه الواقع الصاخب والمفجوع، مع التخيّل الذي يستدرجنا عبر «لغة ساخرة» إلى الكشف عن حيوات مسكونة بالعزل، وعن صراعات، هي ذاتها صراعات العالم الجواني للمدينة التي تتحول إلى مكان دوستوبي/عدائي، تتضخم فيه الأحداث وعوامل العنف، وكأن ما ترصده عين الكاميرا/ عين السارد هي تمثيل للتحولات الصاخبة لـ»ما جرى في تلك البلاد العجيبة» كما يقول الناشر في غلاف الرواية.
رواية «حجر السعادة» للروائي أزهر جرجيس، الصادرة حديثا عن دار الرافدين/بغداد 2022 تكشف عبر أحداثها وشخصياتها تلك اللعبة السردية، تتقصّى من خلالها سيرة مقترحة، أو متخيّلة، تتكاشف فيها مع وقائع فارقة في تاريخ المدينة العراقية، وعبر استدعاء لعبة التصوير بوصفها وظيفة سردية، لتكون مجالا لمقاربة تلك الوقائع والأحداث، بدءا من بداية الستينيات في القرن الماضي، وإلى تمظهرات ما حدث بعد عام 2003، إذ تبدو حركة شخصية بطلها المضطربة التي تعيش رهابها الداخلي، وتنمر الآخرين عليها، وكأنها تتمثل استجابة مُتخيّلة لـ»نداء سحري» اصطنع له الروائي بيئة تراجيدية هي نظير للبيئة الدوستوبية، التي يعيشها بطل الرواية البطل المُعذّب المطرود، الذي يخضع إلى قسوتها وعنتها ورعب يومياتها، حتى يجد في سحرية «حجر السعادة» الشيفرة التي تدفعه للمغامرة والحلم، وللتخلّص من أعبائه، ومن تنمر الآخرين.
البطل «كمال» يشبه شخصيات مارك توين مهووسة بطفولة جامحة، وبفضول صبياني مدهش، يهرب بعد غرق أخيه في النهر إلى «غابة الجن» ليجد في «حجر السعادة» خياره السحري الذي عثر عليه مطمورا في طينها، ليساعده على أداء وظيفة القفز على واقعه، للبحث عن حياة يواجه فيها ضعفه، وتأتأته، وعلى نحوٍ هروبي تعززه رغبة الخلاص، إذ يجد في المدينة/الكبرى فضاءه الأوسع، للمغامرة، ولتشكيل بيئة سردية تستوعب حركته، وتحولاته، وغرائبية حياته الصاخبة، وأحلامه في أن يمتلك كاميرا وأن يكون مصورا.
سردية التصوير في الرواية هي لعبة الحلم، والغواية التي ترافقه في تسريد يوميات المكان، إذ تدوّن الكاميرا هذا الوجود، عبر التقاطات تحتفظ بالسير والوجوه، وعلى نحوٍ يجعل هذا التدوين هو الوجه الآخر لسردية المخفي من المدينة، عبر استدعاء هوية المكان المتحوّل/ شارع الرشيد، واستدعاء الشخصيات التي تعيش انتقالاتها بين عوالم الهامش بكل دستوبيتها، وعوالم لذائذه في المكان اليوتوبي/ الحميم في الاستوديو والشقة، وهي انتقالات كان المؤلف بارعا في تسرديها، تعبيرا عن تمثيله لفكرة الخلاص/والتطهير، ولانحيازه إلى حلم البطل، ولتسويغ حركة الشخصيات في السياق، بوصفها مكونات سردية، اصطنع لها المؤلف سياقا حكواتيا، أراد من خلالها أن يسخر من العالم الجواني للمدينة، وأن يرصد صراعاتها الفاجعة عبر تتبع شخصيات هامشية، لكنها نابهة، تعيش هوسها بالحياة عبر الحركة والبحث عن ذاتها المسحوقة، وعن أمكنتها التعويضية..
تقانة الكاميرا هي المُحرك السردي للأحداث وللشخصيات، مثلما هي اللعبة التي تُحدد هوية شخصية البطل، بوصفه مدونا لما يُسميه معلمه خليل بالتاريخ، وربما هو الذي يجعله ساخرا في النظر إلى هذا التاريخ، فهو يقول: «كنت محظوظاً لأني أقرأ ما سيمسي تاريخاً، وأشارك في تدوينه، دون حاجة إلى سلسلة رواة».
اللعبة البصرية بوصفها سرداً
تقانة الكاميرا هي المُحرك السردي للأحداث وللشخصيات، مثلما هي اللعبة التي تُحدد هوية شخصية البطل، بوصفه مدونا لما يُسميه معلمه خليل بالتاريخ، وربما هو الذي يجعله ساخرا في النظر إلى هذا التاريخ، فهو يقول: «كنت محظوظاً لأني أقرأ ما سيمسي تاريخاً، وأشارك في تدوينه، دون حاجة إلى سلسلة رواة». السخرية من التاريخ، لا تعني الهزء به، أو طرده، بقدر ما تتحوّل إلى غواية تدفع البطل «كمال» أو «كيمو» إلى مزيد من الفضول، وإلى البحث عن وجوده، بعيدا عن ضواغط عقدة «الهوية» بوصفه مسيحيا، ويعيش في وسط مغلق، فالروائي لم يعر هذه العقدة اهتماما واضحاَ، واكتفي بعُقد شخصية بطله الخاصة، دون ربطها بأي تمثيل أنثروبولوجي.. كما أن النظر في هذا التاريخ/ تاريخ المدينة وسيرة الشخصية لا يتبدى إلا من خلال ما يقترحه البعد البصري الذي توظفه الرواية، من خلال رغبة العم خليل بالاهتمام بصوره والحفاظ عليها، ورغبته في نقلها إلى مطبعة «فوزي المطبعجي» لتحمل اسم «متحف السلام» كشاهد على ما تدونه سردية الكاميرا، ودعوته لـ»كيمو» بإكمال هذه المهمة، وهو ما يعني الإشارة إلى سردية الوثيقة، وإلى إمكانية قراءة التاريخ من خلال ذاكرة الصور، فهي صور ليوميات، ولأحداث مهمة في تاريخ المدينة، وأمكنة تتمثل شخصيتها، وتُعبّر عن رمزيتها، وحتى عن حكاياتها، فما يسرده البطل يعكس وعيه للتحول الذي يعيشه، فيبدو الأقرب إلى شخصية «أسطورية» يعيش الحب مع حبيبته نادية، والأمان في ستوديو العم خليل، ليكتشف آدميته على طريقة «أنكيدو» مثلما يبدو قريبا من الشخصية التي تدرك أن الخلود هو الأثر، وأن الصورة هي المجال السيميائي الذي يؤطّر فكرة الخلود، فضلا عن كونها الشهادة التي تتقصى تحوّلات المدينة بغداد وشارعها الأثير..
فصول الرواية الخمسة والعشرين «تكشف عما هو حكائي في بنية الرواية، ورغم أن استهلال الرواية بدأ بـ«قاتل مأجور» فإنه يُنهيها، بفكرة الحديث عن القتل والثأر، التي يتحدّث بها كيمو مع حبيبته نادية. هذا الزمن الدائري، يعني قصدية الرواية في «تأليفها» السردية، وفي أن يجعل من تقانة «الميتاسرد» حاضرة في السياق التأليفي، ليؤكد قصديته، وليجعل من حركة البطل وسيرته وكأنها حكاية البحث عن الوجود، والبحث عن الحرية، عبر التخلّص من عقدة الأب وامرأة الأب، ومن رجل الدين «مولانا» في «خان الرحمة» الذي يسرق ويغتصب الاطفال، وصولا للتخلّص من «عقدة» القاتل المأجور الذي يطارده، وعقد جماعة «فرسان بغداد» وزعيمها «طاهر الحنش» الذي تحول من «عربنجي» إلى زعيم عصابات تحكم الشارع.
الهامشي واستعادة البطولة
الانتقال إلى المدينة، عبر هوربات وتواليات تكشف عن تحولات عميقة في الثيمة البنائية للرواية، حيث الانتقال من العداوة إلى الألفة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الميثولوجيا إلى الواقع، فتحولات المدينة، هي ذاتها تحولات التاريخ العراقي المعاصر، حيث العنف والانقلابات والصراع الأهلي والاحتلال، وحيث عصابات الحنش، بما يجعل لعبة السرد أكثر إقحاما في التحكّم بحركة البطل، ليترسم من خلالها القارئ ما جرى في تاريخ المدينة العاصف، فالمدينة تفقد وهجها جرّاء توالي الصراعات، والشارع يتحول إلى شارع أشباح جرّاء تقويضه كمركز إحيائي لأسطرة المدينة، ولرثاثة نُخبها الثقافية، لكن ذلك لا يعني مواتها، بل يترك لنا الروائي هامشاّ للحلم، وللمواجهة، فجماعة «فرسان بغداد» الذين يقومون بحرق «متحف السلام» ومحاولة اغتيال كيمو وسرقة كاميرته، واختطاف الدكتورة، يفشلون في فرض إرادتهم، بعد أن وضعنا الروائي أمام يوميات ضدية، تتجسد عبر الانتفاضة الشعبية، ليُسردن من خلالها وقائع جديدة، عبر الإشارة إلى التخلّص من الجماعات العنفية، وعبر عودة الحياة إلى المُتحف، ليؤكد لنا الروائي فاعلية الأثر بوصفه سردا لشيفرة الوجود والبقاء، مثلما هي استعادة صورة «صانع الأفلام الذي يجمع الصور القديمة ليخيط بها الذاكرة» فضلا عن قيامه بتحطيم «حجر السعادة» بدلالته الميثولوجية، الذي أورثه الخنوع والتذلل، والعالق بسحرية الواقع وذاكرة الجن وخرافاته..
كاتب عراقي