نحتاج النقدَ ليس لصناعة الخطاب المُعارِض وحسب، بل للكشف عن ما تُضمره الذات، أو ما يُضمره الآخر من توريات وخفايا تدخل في السياسة، أو في الحب أو في الأيديولوجيا، وحتى في النوايا، وهذه لا تعني مناورة أو لعبة نفسية أو لسانية سجالية، بقدر ما هي استقصاءٌ لـ»نسقية» ذلك المخفي والمطمور، حيث تتحول الأشياء والعلامات الى خدع أو أقنعة للخداع، أو لتمرير الأوهام، وأحسب أنّ خطابنا السياسي العربي الجديد فقد حساسية النقد، وشهوة المعارضة، وأضحى جزءا من الخطابات السياقية، إذ هو اقعٌ بين أدلجات التطبيع والتلميع والتمييع، وهذه ليست بعيدة عن تلك «المطمورات»، فغياب غريزة النقد يعني الذهاب إلى «حضور العائم» والسكنى إلى الخوف من مركزيات جديدة لا تؤمن بالنقد، بقدر إيمانها بالاعتراف، وربما التماهي مع ذاكرة «الكبار»، بالوصف الاستعماري، أو العسكري أو الاقتصادي والرقمي والعولمي، وهي صفات حاكمة، لا تنفع معها سرديات السيادة، ولا الاستقلال، لأنّ زمن الكولونيالية الأمريكية العُصابي، بات يفصح عن مفهوم آخر للقوة والسيطرة والرقابة، التي تعني التلويح بالإخضاع مقابل السلام.
أمريكا النيوليبرالية، تخوض حربا مفتوحة على الجهات الأربع، تضع توصيفات للرؤساء والملوك والجنرالات، وتمارس حقوقا افتراضية لإمبراطورية المال والسلاح والجندر، وتقول للآخرين: هاتوا ما عندكم! الآخرون هلعون وملعونون وضائعون طبعا، فهم بلا يسار قديم، ولا اقتصادات حمائية كافية، ولا ديمقراطيات صالحة للاستعمال، لذا هم الأقرب إلى توصيف جان بول سارتر بـ»الجحيم».
التطبيع مع العدو ليس حلا عاقلا، ولا حتى تنازلا عن تاريخ طويل من الثوريات، بل هو تعبير عن اليأس، حيث المجاهرة باللاجدوى، وحيث الاعتراف بـ»العدو» على طريقة كافافيس، توهما وتبريرا بأن الجميع سيجد صعوبة في الحب والعيش بدون البرابرة. كما أن صناعة الأوهام القومية، ليست هي الأخرى حلا مقبولا، لأنها تعني تسطيح الأشياء، ورمي التفاصيل إلى المزبلة، لذا تستمر لعبة «الحرب»، أو لعبة الهزيمة، والمخادعة، وحيث تجد أمريكا في حرب الجهات مجالا مفتوحا لصناعة مزيدٍ من الجوع والفقر والقهر والعزل للعرب ولغير العرب، الذين مازالوا يتغنون بـ»الثورة الدائمة»، حيث يرفع تروتسكي كلّ الأسلحة في مواجهة الفراغ.
أسئلة النقد
حاجتنا للنقد، هي حاجتنا للاعتراف الواعي والمراجعة، والخروج من خيار البقاء عند العتبات «الزلقة» والزائفة، باتجاه ممارسة «وعي النقد الذي لا يشبه وعي الفقر»، كما سمّاه كارل ماركس، وأحسب أن هذا الوعي المشوش، يمكن أن يساعدنا على «الاغطية القديمة» التي خدعنا بها الآباء المؤسسون، وضللنا بها الآباء الثوار، وعطّلنا بها الآباء التجار والفقهاء.
مفهوم النقد إشكاليٌ بطبيعته، يخصّ أسئلة الوجود والنص والفكر واللغة والسلطة والهوية والأمة، وعلى مستوى علاقة هذه الأسئلة بالقدرة على مواجهة الآخر، والكشف عن السياقات الفاعلة لتلك المواجهة، بعيدا عن الخديعة والتبسيط، وحتى بعيدا عن الاستسلام، إذ صار التطبيع عنوانا للخلاص، ولبيع الملفات العائلية، وموقفا سطحيا من الحداثة والعولمة، ونزوعا إيهاميا لكسب رضا الكولونيالي، ولمهرجه الإسرائيلي الشاطر والمغرور، وربما تمردا على التاريخ الذي لم يعد صالحا للاستعمال، كما يقول أصحاب التطبيع طبعا، حيث لا عمود لفلسطين الميثولوجية، وعلى الآخرين أن يصدّقوا نظرية الكولونيالي، بأن الأرض يحكمها من فرض عليها سيطرته و»أمومته»على طريقة بروتولد بريخت.
هذا الموقف الساذج والقاسي قد يكون تعويما للوعي، مثلما يحمل في داخله نوعا من الخوف، وبحثا ساذجا عن الاحتماء بالأقوياء المسلحين بالأقمار الصناعية والقنابل النووية، والكثافة المالية والمعلوماتية، في وقت لم يمكن لأولئك الأقوياء – الخبثاء جدا- أن يحرقوا المتاحف والذاكرة والآثار، وأن يحوّلوا طريق الحرير إلى طريق للصوص، أو للدبابات.
من أكثر مظاهر سوداوية الخطاب هي التمترس الإعلامي، حيث موت النقد، وبروز خطاب الفقيه، والدعوي، التوفيقي مع بثّ فضائي لعشرات القنوات الفضائية، التي يُديرها شيوخ الطريقة، وأنّ جلّ برامجها مخصصة للحديث عن فقه الطاعة، وعن كراهية الآخر وليس نقده.
التصديق برئيس شعبوي مثل ترامب، يشبه التصديق بـ»قارئ كف» يقول: إن العالم سينهار بعد ساعات، لذا عليكم أن تستعجلوا البراءة، وإن الديمقراطية إذا لم تُكرّسني رئيسا للولايات المتحدة، فإنها ديمقراطية ستكون مشوهة، ومسروقة، وإن الأمريكان سيتحولون إلى شعب فقير، وسيهمين اليسار الثوري على الشارع تحت يافطة القوة السوداء. ما بين التصديق والتكذيب يمكن للعقل الثقافي أن يمارس نوعا من الاجتهاد النقدي، وأن يُعيد النظر بالأطروحات التي كرستها الرأسمالية، على مستوى السوق أو على مستوى الدولة والحقوق والعمل، وأن يكون النقد غير سياقي، أي ليس بالضرورة أن يكون ماركسيا ثوريا، حيث النظر للإنسان والدين والعقل واللغة بوصفهم سلعا يمكن بيعها وتوظيفها وتداولها، وحيث النظر للحرب بوصفها قوة تجعل من الاستشراق والتبشير والترقيم، مجالات لفرض شروط الحاكم الجديد، وهذا ما لم تعد الرأسمالية تملكه، فلا وجود حقيقي للسرديات الكبرى، وللحكايات الكبرى، ولا قدرة لإحراز النصر الكامل في الحروب المقبلة، كما لم يعد أحد يصدّق بأطروحات الاستشراق والتبشير، لأن قرية «ماكلوهان» التي تختصر العالم، جعلت من تلك الأطروحات أشبه بالنكت السخيفة..
القراءة والنقد وأوهام الربيع العربي
مفهوم إعادة القراءة يعني البحث عن الفهم، وعن التعاطي مع قضايا تخص مقاربات النقد، بوصفها تخصّ مفاهيم إشكالية مثل، الدولة والهوية والتعدد والتنوع والمدنية والديمقراطية والحرية والتداول السلمي للسلطة وغيرها، وهذا ما يعني الحاجة إلى «نقود» لها علاقة بعقلنة الصراع، وبإعادة تشكيل المنظومات الحاكمة، فضلا عن إمكانية النظر إليها بوصفها مجالا فلسفيا يُعيد تأهيل المفاهيم، وأحسب أن خطابنا السياسي العربي يفترض وجود مثل هذه القراءات، ليس لسرعة زحف الأحداث في دولنا ومجتمعاتنا، أو لرثاثة ما يجري فيها من كوارث ومن تدخّلات، ومن صراعات دامية، بل لضرورة فك اشتباك خطاب الدولة عن الجماعات الايديولوجية والدينية والعصابية، التي وجدت في مرحلة ما بعد «الربيع العربي» مجالا لاستئناف نشاطها وتداولية خطابها، بعيدا عن أيّ معارضات نقدية حقيقية، لاسيما وأن ذاكرة اليسار بعد انهيار المعسكر السوفييتي أصيبت بالعطب والمحو، وحتى ذاكرة القوميين العرب فقدت نزعتها حول «الرسالة الخالدة» لتبدو الأقرب إلى فكر الجماعات المتطرفة، لاسيما وأنّ سياسات التطبيع والمجاهرة بها، أفقد تلك الذاكرة حيويتها ونشيدها القديم..
ما بعد الربيع العربي لا هوية له، لأنّ الربيع – رغم النوايا الحالمة- إذ كان تمثيلا أيديولوجيا، وصعودا لجماعات خرجت من شقوق التصدعات الدولتية والأيديولوجية والطائفية، لتعمد إلى سرقة الخطاب، والشعار والمنصة، وحيث صارت لعبتها قائمة على أساس استعادة الحكم، بوصفه ولاية للأمر، والتفكير في المواجهة المقبلة مع العلمانية والحداثة والتنوير، لأنّها مجالات إكراهية لا تتسق وطبيعة «العقل العربي» التاريخي، الذي يثق بالعرفان أكثر من البرهان، وبالبيان أكثر من العلم، وطبعا هذه الثقة الكليانية لها حمولات سياسية وثقافية واجتماعية، مثلما لها انعكاسات على توصيف للهويات والأفكار والحقوق، بما فيها الحقوق السياسية، التي تخص الديمقراطية والحرية والتنوع والتعدد والدولة وغيرها..
سوداوية الخطاب
صناعة الخطاب من أخطر تجليات مرحلة «الربيع العربي»، إذ لا نشمّ فيه رائحة الثورة بالمعنى القيمي، ولا أي حساسية للمستقبل، وللتقدّم، ولفكرة المدنية، ولا حتى لفكرة الدولة الديمقراطية، التي تقبل بالتعدد والتنوع والتعايش تحت يافطة قيم المواطنة، فكل ما جرى هو، الإشهار عن عودة الدولة الرعوية، وعن استعادة رمزية الخليفة، وعن توجيه القوة عبر التكفير والزندقة وإقصاء الآخر المختلف طائفيا ودينيا واجتماعيا وهوياتيا وثقافيا، إذ تحولت هذه الاختلافات إلى عتبات للحديث عن تقسيم المكان العربي إلى دارين للحرب والسلام.
من أكثر مظاهر سوداوية الخطاب هي التمترس الإعلامي، حيث موت النقد، وبروز خطاب الفقيه، والدعوي، التوفيقي مع بثّ فضائي لعشرات القنوات الفضائية، التي يُديرها شيوخ الطريقة، وأنّ جلّ برامجها مخصصة للحديث عن فقه الطاعة، وعن كراهية الآخر وليس نقده، والدعوة إلى قتاله وقتله بوصف ذلك جهادا، ولم نجد فيها أي مساحة للحديث عن القيمة الثقافية لـ»الربيع العربي»، ولا عن مشروع الدولة المدنية، ولا حتى عن المشاركة والتعدد والقبول والتواصل، ولعل جماعة اليسار الثوري، أو اليسار الديمقراطي، وحتى حركات القوميين العرب وجدوا أنفسهم خارج السياق، وأنّ أدلجاتهم وشعاراتهم وأفكارهم، أصبحت خارج الاستعمال، فضلا عن كونها مكروهة ومرفوضة شرعا، وهذا ما يعني إباحة العنف «المشروع» بوصفه الأداة الرسمية لمواجهة التقاطع، وهو ما تجسد في مصر، حيث العودة إلى الحكم العسكري، وكذلك ما جرى في سوريا حيث تغوّل السلطة وتحولها إلى مؤسسة للعنف المركّب على طريقة هوبز، وكذلك ما حدث في تونس، حيث تعرّض المشروع العلماني المأمول فيها إلى نظام قلق، غير واضح المعالم بين شارع يضج بالتغيير، ونظام سياسي تحكمه الإرادات الأصولية.
٭ كاتب عراقي
الكتابة عن الربيع وأوهام الثورات هي الكتابة عن الحرية المعتقة وصناعة خطاب المرحلة التي تمر بها الأمة العربية تشبه الكتابة عن البحث عن الزمن المفقود ،،،،،تحياتنا استاذ