أسئلة من أجل مئة يوم جديد

حجم الخط
5

بعد مئة يوم على انطلاق الانتفاضة اللبنانية، بجمالها وآلامها، بصمودها وأساليبها المختلفة، بمعتقليها وعيون شبابها التي اقتلعت، بالطرق التي أقفلت والغاز الذي تنشقناه، بالأسوار التي ارتفعت لحماية السلطة، وبالسلطة التي أعادت إنتاج نفسها عبر حكومة البروفيسور.
بعد مئة يوم، علينا أن نفكر بمستقبل الانتفاضة، فمسار الانتفاضة طويل ومتعرج وشاق، ويحتاج إلى كثير من العمل والتضحيات.
هناك حقيقتان جديدتان برزتا إلى سطح الأحداث:
الحقيقة الأولى: هي تشكيل حكومة دياب بعد مخاض عسر أفضى إلى تسوية بين وجهتين:
الوجهة الأولى: هي تثبيت هيمنة القطاع المصرفي والأوليغارشية على السلطة، ومؤشرات عدم الاستعداد لاتخاذ إجراءات للإنقاذ عبر حماية صغار المودعين وفرض ضرائب على أرباح كبار الرأسماليين والمصرفيين، وإبداء الاستعداد لمفاوضة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. أي أن سياسة المديونية والخصخصة مستمرة، ومعها سياسة إفقار من لم يتم إفقاره بعد. إنها الحريرية بلا الحريري، وإن جاءت متأخرة وبعد فوات الأوان.
ومن أجل أن تشتري الطبقة الحاكمة الوقت فهي ترسل إشارات للأمريكيين عن استعدادها لترسيم الحدود وضمان أمن إسرائيل عشية إعلان صفقة القرن الموعودة.
الوجهة الثانية هي المحاصصة المقنّعة بالتكنوقراط، إذ نجح أطراف التحالف الثلاثي: التيار العوني، وحزب الله، وأمل، في تجاوز خلافاتهم على الحصص، وبقيت الوزارات الأساسية في أيدي الأحزاب والسياسيين الفاسدين والمفسدين عبر المستشارين والأزلام. هذه المحاصصة البغيضة يجب أن لا تحجبها بعض الإشارات الرمزية، كالحصة النسائية على سبيل المثال، فهي لا تعدو كونها جزءاً من المحاصصة إياها.
تكنوقراطية الحكومة ليست سوى محاولة للقفز فوق الأزمة الانهيارية عبر تعميقها، ورش قليل من الماكياج على أقنعة الطبقة المسيطرة، التي قررت تحميل الطبقات الشعبية أعباء الأزمة، بينما يستمر الفساد والتناهب في نخر الدولة.
الحقيقة الثانية: هي أن التركيبة السياسية الجديدة سوف تلجأ إلى القمع والعنف من أجل تصفية الانتفاضة الشعبية. مؤشر دخول الفريق الأمني السوري- اللبناني القديم إلى اللعبة السياسية بالغ الوضوح. فوزير الداخلية الجديد الذي عمل في فريق اميل لحود وجميل السيد، لا يخفي نيته الاستمرار، بل والإيغال في السياسة القمعية التي بدأت في زمن الثنائي ريا الحسن وعماد عثمان.
لا يستطيع وزيرا المالية والاقتصاد ومعهما حسان دياب تمرير السياسة الاقتصادية الاجتماعية الجديدة – القديمة من دون اللجوء إلى العنف والقمع. فالمصرفيون الذين استولوا على وزارتي الاقتصاد والمالية مصممون على تدفيع الفقراء ثمن سياسة التناهب، وعلى الاستمرار في السياسة الخرقاء التي رسمها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
وفي سياق قراءتنا للقمع، يجب أن لا ننسى الاحتياطي الميليشوي المتمثل بحركة أمل وحزب الله، وهو احتياطي لا يتوقف عن استعراض عضلاته من إحراق مجسّم الثورة في النبطية ليل الجمعة 24 كانون الثاني- يناير، إلى الاستعراض الوحشي الذي جرى في اليوم نفسه أمام مجلس الجنوب.
تقف الانتفاضة بعد مئة يوم على اندلاعها أمام تحدي التجذّر أو الانطفاء. فالصراع السياسي ليس حول الميثاقية كما يروّج البعض، ولا حول الدور المتعاظم لجبران باسيل وميشال عون. باسيل انتهى مهما فعل، ويكفيه مجد الشرشحة في دافوس كي يفهم. كما أنه ليس حول خط الممانعة الحزب إلهية التي تسعى إلى تأجيل كل شيء وترتضي بالتنازلات أمام الولايات المتحدة، في انتظار «معركة التحرير الكبرى» التي لن تأتي.
المسألة لها اسم واحد هو الصراع الاجتماعي والطبقي. الأوليغارشية ببناها السياسية المختلفة، تتوحد رغم خلافاتها حول هدف واحد، هو تحويل الانهيار الاقتصادي الذي تسببت به إلى أداة جديدة من أجل الخصخصة والتناهب، وتحميل أوزار أزمتها وقلة كفاءتها للطبقات العاملة والفقيرة.
هنا يكمن جوهر المرحلة الجديدة من الانتفاضة، فالإصلاح وحكومة من خارج أحزاب السلطة، واستقلالية القضاء، واستعادة الأموال المنهوبة، لم تجد سوى آذان صماء.
إصلاح هذه التركيبة بالغ الصعوبة، ودعوتها إلى التخفيف من شراهتها وجشعها مستحيل.
يجب أن نعي أن مشروع انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر إما أن يكون ثورياً وجذرياً، أو سيسقط.
كانت الانتفاضة ردة فعل شعبية عفوية على الانهيار الاقتصادي، لكن تجذير الانتفاضة لن يكون عفوياً. العفوي أمام تفاقم الإفقار والتهميش قد يتخذ منحى التفكك الاجتماعي، وقد يشكل مطية لفاشية الميليشيات لسحق الشارع.
التجذير يجب أن يكون فعلاً عقلانياً له مهمتان:
الأولى هي وضع برنامج للخلاص الوطني، وللخروج من الأزمة عبر تدفيع الأوليغارشية والسياسيين الفاسدين من شركائها ثمن الأزمة، وبناء برنامج سياسي مبدأه الأساسي هو العدالة الاجتماعية، والإصلاح السياسي الشامل.
والثانية هي بناء أطر تنظيمية شعبية هدفها تمثيل إرادة الناس، وبناء مشروع نضالي طويل النفس.
الحكومة التي يهيمن عليها رأس المال المالي تعلن موت النظام، ولن تكون سوى ورقة نعي مكتوبة بأسلوب إنشائي مبتدئ يتقنه رئيسها.
أما مهمة الانتفاضة – الثورة، فهي تأسيس وطن.
مئة يوم جديدة من النضال في انتظارنا، ومئة وردة تتفتح في الشوارع والساحات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آصال أبسال:

    الفكرة الرئيسية في المقال تكررت مرتين:
    /تقف الانتفاضة بعد مئة يوم على اندلاعها أمام تحدي التجذّر أو الانطفاء/..
    /يجب أن نعي أن مشروع انتفاضة 17 تشرين الأول إما أن يكون ثورياً وجذرياً، أو سيسقط/..
    الانتفاضة/الثورة الشعبية في لبنان، كما في غيره من بلدان الربيع العربي، لن تنطفئ ولن تسقط إطلاقا.. قد يعتريها مطبات و”نكسات”، وهذا طبيعي جدا ووارد جدا.. لكن الشيء الأهم هو أنها بدأت بكسر جدار الخوف المهيمن، وبدأ معها انحسار هذا الجدار وتحوله إلى مصدر ثقة وقوة شعبيتين يوما بعد يوم.. يكفي هذه الانتفاضة/الثورة الشعبية فخرا الآن أنها فضحت حتى النخاع نفاق وفساد وعمالة كل الأطراف المتنازعة على السلطة والنفوذ منذ “انتهاء” الحرب الأهلية المدمرة، !

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    ثورتي العراق ولبنان متشابهتان في مطالبهما الأساسية في رفض الفساد والطائفية والتدخل الإيراني! الفرق هو بأعداد الشهداء!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول سوري:

    مئة وردة، ومئة فلة، ومئة ياسمينة، لثورة الشعب اللبناني الثائر على الطائفية والمحاصصة والفساد والاوليغارشية. الاخطبوط الطائفي بأذرعه الخانقة للشعب اللبناني يجب ان تقطع. ونظام الميليشيات يجب ان يلغى، وهيمنة الملالي وولاية الفقيه يجب ان تمحى من لبنان منارة الثقافة العربية المتحررة

  4. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكراً أخي الياس خوري. جميل جداً, هذا المقال يصلح لأن يكون وثيقة أو ورقة من وراق العمل للمئة يوم القادمة. ولكم منا , ياشعب لبنان وشاباته وشبابه كل يوم مئة وردة, وفلة ,وياسمينة على رأي الأخ سوري.

  5. يقول سلمى سعيد:

    يشكر الأخ إلياس خوري على مقاله السياسي الأدبي المؤثر ؛
    وتشكر الأخت آصال أبسال على ملاحظاتها الثاقبة كالعهد بها وعلى روحها المتفائلة حتى في أحلك الأوقات من زماننا العصيب ؟؟؟!!!!

إشترك في قائمتنا البريدية