عايشت الأردن ليلة احتفالية غير مسبوقة بعيد الاستقلال، وساعدت طبيعة الأجواء المسائية المواتية، خلافاً لجميع الأيام السابقة، في تفاعل الأردنيين مع الاحتفالات التي كانت ذروتها في قصر الحسينية الملكي، وهو ما وصفه البعض بالأدرينالين أو الدوبامين الوطني (هرمونات لها علاقة بالنشاط والسعادة) والسبب الذي لم يتحدث به أحد عن استثنائية هذه المناسبة للسنة الحالية، هو استيعاب أزمة الأمير حمزة بالحد الأدنى من التكلفة، وهي الإشارة المطمئنة في مرحلة صعبة ومعقدة.
لست أعرف عملياً ما الذي تعنيه مرحلة صعبة ومعقدة بالنسبة للأردنيين، خاصة أن هذا الوصف استهلك لسنوات طويلة، فالأزمات تتابعت على المملكة بصورة شبه دورية منذ الاستقلال، والفرق أن المملكة كانت تحصل على المساندة في بعض الوقت لتتحمل مزيداً من الضغوط، وكانت تترك في أوقات أخرى لتتجاوب مع ضغوط أخرى، وهو ما وضع تصوراً عن الأردن بأن عليه معايشة ظروف لا تسمح له بالطفو ولا بالغرق، ظروف انتقالية بصورة دائمة.
في محاضرة في الجامعة الأردنية في مرحلة السبعينيات، تحدث الشاب فرج اطميزه، الذي أصبح أميناً عاماً للحزب الشيوعي الأردني بعد ذلك بسنوات، عن ضرورة التواصل مع الاتحاد السوفييتي لإحداث توازن مقابل العلاقة الأردنية ـ الأمريكية، ليخبره الملك أن العلاقة مع السوفييت جيدة، ولو كان الكثير من التفاصيل لا يعلن حولها، وبعد ذلك بسنوات حرص الملك على رفد جمعية صغيرة للصداقة السوفييتية – الأردنية برجال من المقربين له وأصحاب المناصب الرفيعة مثل بهجت التلهوني وعاكف الفايز، وفي هذه القصة يتبدى حرص الملك الحسين الاستثنائي على إبقاء جميع الاحتمالات مفتوحة، والمحافظة على الخيط أو الشعرة التي تربطه بالجميع، وهذه استراتيجية تتطلب الكثير من الصبر والتحفظ وكظم الغيظ، وذات تكلفة معنوية وصحية عالية. يحاول الضباط الأحرار الانقلاب في الجيش الأردني فيعود معظمهم بعد سنوات لمناصب في الدولة، ويطلق محمد داود عودة مجموعة من الأعمال التخريبية ليحصل على حكم بالإعدام، فيزوره الحسين في سجنه ليفرج عنه، ويدخل صراعاً مسلحاً مع ياسر عرفات لينتهي المشهد الطويل والمعقد بين الرجلين بعرفات يقبل رأس الحسين في عمان في التسعينيات، هذا ما يمكن أن يعرفه الناس عن الحسين وربما ليس كثيراً ولا يمثل سوى رأس جبل الجليد، فهذه الاختيارات الصعبة كانت تحاوطه بصورة دائمة، لتجعله يهرب بصورة متواصلة للتدخين، والبحث عن اللحظات الإنسانية الدافئة، فالملك لم يكن يملك حياته ولا خياراته الشخصية، التي كان يجب أن تتوارى خلف خيارات العرش ومصالحه. ولاية العهد كانت أحد هذه الملفات، فالملك الحسين الأب الجذل بقدوم نجله الأول عبد الله إلى الحياة، كان يبشر الأردنيين بمقدمه بنبرة مفعمة بالفرح والحيوية، وكان عبد الله منذ ولادته ولياً للعهد، ولكن الحسين لم يتمكن من الاستمرار في نشوة أبوته الأولى، المنطقة كانت برسم الغليان عملياً، وكانت كارثة 1967 وبعدها أحداث 1970 تجعل الملك بعيداً عن أسرته، وحتى حضوره لم يكن إلا محملاً بالهموم والغياب الذهني عن التفاصيل الأسرية، وهو الأمر الذي كان مختلفاً مع ولادة حمزة، الذي أتى إلى الدنيا مع الثمانينيات الفاترة، وهو الأمر الذي أتاح له مكانة عند الحسين الذي عايشه في نشأته، وكان يعيش معه في منزل واحد، الأمر الذي لم يكن ليتوفر للأمير عبدالله الذي بدأ حياته العسكرية في تلك المرحلة. لم يكن أحد يتحدث عن ولاية العهد في تلك المرحلة، كان الأمير الحسن يمسك بالمشهد المحلي في كثير من تفاصيله، والملك يبدو في صحة جيدة، إلا أن مجلة «الوطن العربي» نشرت تقريراً موسعاً في منتصف التسعينيات عن قدوم الأمير عبدالله ولياً للعهد وملكاً قادماً للأردن، وقتها كان الناس يتداولون أسماء مثل الأمير علي أو حمزة بناء على مقولة، إن أم الملك يجب أن تكون عربية، وكانوا يتناسون أن عبد الله الابن البكر للملك كان بالفعل ولياً للعهد منذ ولادته وحتى منتصف الستينيات، في إجراء تحوطي للملك الحسين الذي كان من الشخصيات المحتمل تعرضها للاغتيال في أي وقت، مع موجة من الاغتيالات السياسية والانقلابات العسكرية كانت تشكل ملمحاً للسياسة في المنطقة.
المواطنون الأردنيون معنيون بمملكة مستقرة، والاستقرار يعني وضوح الرؤية والخيارات المستقبلية ومنطقيتها، بحيث لا ينشب صراع حول العرش في بلادهم
كان الكثير يقومون بترويج الأمير حمزة بوصفه ولياً للعهد، فوالدته الملكة نور كانت شخصية قوية في المرحلة الأخيرة من حياة الملك الحسين، وتمتلك تأثيراً واسعاً في الإعلام، وتصور البعض أن الملك عبدالله أتى لمرحلة انتقالية، وهذه الفكرة تعشش في رؤوس الكثيرين في الأردن، بسبب العمر المبكر لحمزة ـ 19 عاماً – عند اشتداد المرض على والده، متناسين أن الحسين نفسه تولى العرش في السابعة عشرة من عمره. خلافاً للفكرة الشائعة فالمسألة لم تكن عاطفية أو ارتجالية، واختيار ولي العهد كان يخضع لتقدير الحسين لمسألة الحق الدستوري من ناحية، ولحوارات جرت داخل العائلة المالكة ومع بعض شخصياتها المتقدمة في العمر والخبرة، ولتقديرات تتعلق بالمملكة واستقرارها، والأردن كان يجب أن ينتقل من مرحلة الانتقالي إلى مرحلة المستدام، وكانت الظروف تدفع الملك الحسين إلى تقدير أن زمن نجله سيكون مختلفاً، وهو ما لم يكن صحيحاً، فالدولة الفلسطينية لم تظهر إلى الوجود، ولم تحدث تسوية عادلة، وخضع العراق للاحتلال الأمريكي المباشر، وأنهى المجاهدون مهمتهم في أفغانستان ليعودوا إلى المنطقة بشراسة وتوحش، وهبت رياح الربيع العربي لتتحول إلى عواصف، وسقط اليسار الإسرائيلي، ليترك مكانه ليمين متطرف لا يتوقف في شهوته عند فلسطين بأكملها ويسعى إلى ما أبعد من ذلك.
المواطنون الأردنيون معنيون بمملكة مستقرة، ومنذ التأسيس كانت أولوية الملك عبدالله الأول تجنب استيراد مشكلات العائلة الهاشمية الواسعة التي حكمت الحجاز وسوريا والعراق إلى الأردن، والاستقرار يعني وضوح الرؤية والخيارات المستقبلية ومنطقيتها، بحيث لا ينشب صراع أو اضطراب حول العرش في بلادهم، ومع شكواهم المستمرة من تردي الأوضاع الاقتصادية، فهم يدركون داخلياً أن العالم المثالي والحلول الخلاقة في وسط كل المعطيات السابقة التي رافقت رحلة الملك عبدالله الثاني ليست إلا رياضة ذهنية في عقل الأمير حمزة، ومع ذلك، فإنه يمثل حنيناً داخلهم إلى رجل لم يكونوا يفهمونه جيداً وحاصروه داخل صورة الرجل المقتدر وصاحب السيطرة الكاملة، الرجل الذي كان يعيش عصر الإعلام الموجه والحدود المغلقة، والذي تعود بصورة دائمة على أن يكظم غيظه وأن ينفثه مع دخان سجائره من غير أن يعرف أحد شيئاً عن الحرائق التي تعيش داخله. قبيل عيد الاستقلال قطع الملك عبدالله الثاني الخيط الرفيع مع أخيه غير الشقيق حمزة، وهذه خطوة للخروج من فكرة الخطوط المفتوحة تجاه المسارات الواضحة، وفي الوقت نفسه فالأردن يبحث عن استقلال جديد، والاستقلال الحقيقي هو الاستقالة من فكرة المؤقت والانتقالي، ومباشرة العمل في الأمر الواقع مهما كان صعباً وثقيلاً، فالمن والسلوى لن يهبط على المنطقة، وأمامنا عقود أخرى من الأزمات وفصول جديدة من الصراع، والوضع المثالي لن يتحقق لأنه ليس سوى أوهام وفهم خاطئ ومجتزأ لكيفية تفاعل الظروف ومسيرة التاريخ في المنطقة والعالم.
كاتب أردني
اللهم انصر اخواننا في فلسطين واكسر اللهم شوكة المحتل اللعين إسرائيل كسرا لا جبر بعده أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا