للكتابة منذ نشأتها نظامها الخاص الذي يمكن أن يحميها من الانغماس في فوضى العالم، وينأى بها عن اضطراباته. ونشوؤها وإن تأثر بالتغيرات العامة، التي تطرأ على المجتمع وانفعل بها، محكوم بمنطقها الداخلي الخاص، لكن ربما ساد في عصور الاستقرار وقيام المدن، نوع أو نظام خاص من الكتابة، وربما انبعث في عهود المشادة وسقوط المدن نوع أو نظام آخر مغاير؛ على نحو ما نشاهد في عصرنا.
وهو نظام خليط، لعله أبرز ما تتميز به بنيتها، فهو ينهض على سجلين اثنين في آن: سجل الكلام وسجل الخط.. وهما سجلان متغايران عميقا، خواص وعناصر، فلا طرائق تعبيرهما تقع في الحقل الفيزيقي ذاته، بما أن الأول سماعي والثاني مرئي؛ ولا هي تجري في السياق ذاته، سياق العلائق «التذاوتية» فالأول يستوجب وحدة الحضور حضور المتخاطبين، في ما لا يستوجب الثاني سوى حضور القارئ الفرد، والحال أننا لا نقف في اللغة على أي أثر لتباين أو تنافر في خواصها وأمشاجها، لأن ذلك يتعارض، على ما يبدو، وطبيعة اللغة نفسها، فلا الرطانة (أو اللغة الخاصة بأصحاب مهنة أو جماعة بعينها) تنضوي إلى اللغة بالمعنى العلمي للكلمة، ولا الحوامل الإضافية مثل، الحركات التي قد يستعين بها المتكلم، استكمالا أو توضيحا لإخبار أو إبلاغ عنصر من عناصر الكلام. فلعل الشكل الخطي هو الذي وفّر لنشأة الكتابة لازم مصادرها وأذكى قادح دوافعها، على الرغم من أن هذا الشكل كان ولا يزال وسيطا مركبا متعدد العناصر، إذ يجمع إلى حامل فضائي له هيئته ومادته المخصوصتان، صورا تتقيد فيه وبه؛ لكنها تظل غريبة عنه من حيث طبيعتها أو كنهها. وربما ذهب في الظن أن «الأساطيرية» هي التي أذكت الكتابة، ونفخت المتخيل في المعنى. وربما صح ذلك بنسبة أو بأخرى لكن لم يكن في هذه «الأساطيرية» ما يكفي لاختراع الكتابة، أو يفي بلوازمها.
ويذهب أهل الذكر من الباحثين المعاصرين في نشأة الكتابة وأنظمتها، إلى أن تاريخ البشرية شهد في مرحلة لاحقة أعقبت «الأساطيرية» فعل قطع غريب حيث استُبدل وضعٌ بوضع. وكان له من وافي القوة بما يكفي لإنشاء نظام الكتابة، مثلما كان له من ضعف الحزم وقلة الحيلة في آن، بما يحفظ لـ»الأساطيرية» فوائدها ويوفر عليها غنائمها. وربما تجلى هذا القطع أول ما تجلى في هيئة توزيع الإشارات على الحامل الكتابي، فمن تنظيم فضائي ساذَج سائب منساح إلى صارم متوالية خطية لا تنقطع. وربما كانت هذه الخطية أمارة على استيعاب الشكل الخطي المسلمتين الاجتماعية والثقافية كلتيهما، وهما اللتان جعلتا منه نظاما وأسبغتا عليه مزية نافع اجتماعي صريح: صوتية اللغة ومنطق التفكير المحسوب.
يقول لوروا غوران: «تتمتع الرمزية الخطية نسبة إلى اللغة الصوتية، باستقلال ما: فمحتواها يفصح في أبعاد الفضاء الثلاثة، عما تفصح عنه اللغة الصوتية في بعد الزمن الوحيد» ويضيف أن أظهر فتوحات الكتابة تمثل صراحة في جعل العبارة المكتوبة تتبع، بوساطة استعمال الجهاز الخطي، العبارة الصوتية اتباعا مطلقا. والحق أن هذه فرضية ليس إلا، بل تعوزها الأدلة ولا يقوم لها سند نظري أو أثري (أركيولوجي). ويعترض عليها البعض على أساس أنها تفضي إلى الخلط ذاته أو اللبس عند سائر منظري الكتابة، فليس في تقديرهم من كتابة ممكنة، دون إمكان مردود أو نجوع فوري مباشر؛ أي دون كلام وبمعزل عن أي تدابير حسابية مضبوطة، أي الانتقال من رمز الفكرة، أو رسم الشيء أو الصوت الذي يتمثل الكلمة الدالة على الفكرة، إلى الكتابة الصوتية الرمزية التي جعلت من الكتابة نظاما مستقلا، فإن هذا النظام هو الذي أفضى في ما بعد إلى ذيوع الكتابة الصوتية وانتشارها؛ باعتماد الحدس والافتراض والاستنباط معا. وعليه فما الذي جعل هذه البديهة منيعة متعذرة على الفكر «الأساطيري»؟ ألم يكن هذا الفكر قد تسامى بالواقع في الرمز؟ وإذا كان ذلك كذلك، فكيف لم يكن بميسوره أن يتسامى بالمرئي في الصوتي؟ فإذا سوغنا الرأي في أن الأبجدية أحدثت قطيعة في نقل اللغة نقلا كتابيا، استئناسا بالمفهوم التأليفي المملى عليها، فكيف نزعم أن هذه الأبجدية ماثلة ضمنا في الأنظمة الكتابية السابقة عليها، دون أن نأخذ بوجهة نظر غائية؟ نحن ننزع على سبيل الاستدلال، ولأن الشرق الأدنى والغرب كانا أيضا مراكز حضارات الأبجدية؛ إلى أن نعزو تواطؤا إلى الكتابات ما قبلها، غائيةً كان ينبغي أن تجعلها منذورة للأبجدية. ويبدو أن هذه «الغائية» ماثلة عند المعاصرين من أمثال جاك دريدا الذي يرفض أن تكون الكتابة تابعة للفظ أو مشتقة منه، أو هي في خدمة الصوت ليس إلا؛ وكأنها لا تعدو أكثر من تصوير للأصل.
لعل تواطؤ المرئي والصوتي في ثقافة اليوم، أي ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي، أن يكون خير سند لما نحن فيه من أمر سلطان الكتابة، شريطة أن نعاينه بمصطلحات التأثير لا التأليف، على نحو ما نلمسه في نظرية جاك غودي، وهي النظرية التي تعنى بدور التفكير الخطي في تاريخ الكتابة.
والمسألة الرئيسة في هذه النظرية ليست الكتابة في ذاتها وإنما تعريف الذات تعريفا جديدا من شأنه أن يشرخ «الفردانية المركزية» بإدماج الآخر في «الأنا». وهو لا يستند إلى الكتابي إلا بمقدار ما يلغيه، ولا يضع موضع التساؤل حقا الفروض النظرية التي تسوغ حسب لوروا غوران تخير النظام الخطي، من حيث هو دليل قاطع على الكتابة؛ وإنما يثبت «الغائية» من خلال إقراره بنبرة حاسمة أن معنى السلطة التي تنعت بـ»الرمزية» من حيث هو معنى وامتلاك في آن، كان موصولا أبدا بأحكام الكتابة وتراتيبها وتدابيرها. على حين أن غوران يستند إلى تفكير قياسي، ويعد الخط مكونا للكتابي، لأنه تمثل السلطة تمثلا بديهيا أو طبيعيا. فما دامت الآثار الخطية تظهر «الدينامية» الحركية، فإن الخط كان يوعز «دينامية» الكلام. وهذا منحى في تفسير نشأة الكتابة أو تعليلها، لا يناسب نظرية دريدا في الخط والكتابة. فما يعنيه من الخط ومن نشوئه كونه علامة أو سمة غياب ملحوظة (غياب المتكلم والمخاطب والمعنى المستقر في وعي المتكلم الغائب) مقابل حضور هذه العناصر الثلاثة في حال اللفظ، عند القائلين بأسبقيته.
لعل تواطؤ المرئي والصوتي في ثقافة اليوم، أي ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي، أن يكون خير سند لما نحن فيه من أمر سلطان الكتابة، شريطة أن نعاينه بمصطلحات التأثير لا التأليف، على نحو ما نلمسه في نظرية جاك غودي، وهي النظرية التي تعنى بدور التفكير الخطي في تاريخ الكتابة. فإذا كان للكتابة من سلطان فمرده إلى العقلية الخطية التي أملتها على اللغة وألزمتها إياها، لأن الكتابة ليست مجرد تسجيل محكي للكلام، وإنما هي طريقة في تناول الأشياء والموضوعات توطئ أشكالا مخصوصة من النشاط اللغوي، وتتعهد طرقا في وضع المشاكل وحلها. وهي اليوم ونحن نجلس إلى حواسبنا وهواتفنا الذكية، تروض عقولنا أكثر مما نتصور، وتوفر علينا أدوات تأنيسها، من جداول وبيانات ورسوم… على أن أمر الكتابة لم يعد من أمر الأبجدية، وأثر هذه بمختلف أشكالها في تنظيم الحياة الاجتماعية وأنظمة المعرفة، لم يعد من أثر تلك. ووجود وسائل الاتصال الاجتماعي يغير من نمط المعطيات التي نأخذ بها، في مسألة من المسائل مثلما يغير من نسق المناهج التي نعتمدها في معالجة هذه المعطيات، إذ يركز إمكانات التنظيم السمعية والبصرية وقدراتها، ويزودنا بأصول ترتيب أكثر نجاعة وجدوى من حيث التحديد والتقسيم وشد الروابط وعقد العلائق ورد الأشياء على اختلافها إلى طبقات وأنواع وطوائف وأجناس. والإنترنت مثلا تزود أنظمة الترتيب والتصنيف الأكثر حذقا ومهارة، والراجعة إلى الثقافات الشفهية، ببنى ومخططات مختصرة. وغالبا ما يؤدي ذلك إلى تثبيت قول (ملفوظ) بقرينة دالة (فيديو مثلا) أو بسياق مخصوص، في نظام من المعارضات، ثابت لا يتغير ؛ إذ يتسنى بهذا الصنيع، أن نختزل دلالة الشيء أو حقيقته نسبة إلى مُلاحظه. لكن ذلك كثيرا ما يحجب على فهم إطار فاعله المرجعي حق الفهم. وهذا ما يفسر التعارض القائم بين «الإنترنتي» و»الأمي» أو بين العارف بالإنترنت والجاهل بها. واليوم لا بد من إعادة تعريف «الأمية» في ضوء ما استجد. فإذا كانت اللغة تشرخ الوحدة الطبيعية وحدة العالم المدرك، أو هي تملي عليها بنية أخرى، بسبب من عناصر الكلام المنظمة كلها بطريقة متقطعة؛ فإن الكتابة وإن كانت تجلو هذا التقطع وتجسمه؛ فإنها لا تضفي عليه البعد الفضائي المرئي ذاته، الذي تضفيه الإنترنت. وهو الذي يسمح بإخضاعه في ما بعد لترتيبات وتنسيقات توافقية، أو احتمالية. ولم يكن ذلك ليتسنى إلا بواسطة فضاء الكتابة الذي يجلو تصورا بنائيا للغة، وهو يسبغ على فضاء الصور طيف الأبجدية الصوتي. ووسائل التواصل الاجتماعي على ما نقدر تطوير لهذه السيرورة/ الصيرورة التي نعتبرها معرّفا جديدا للغة.
كاتب وشاعر تونسي
دائما رائد
من فضاءل وساءل التواصل الاجتماعي أن الجاهل أصبح بأمكانه مناقشة المثقف وهذا في حد ذاته أنجاز.
فلسفة الغرب ومشكلة النص أولاً، أم اللغة أولاً،
شيء ليس له علاقة باللغة والنص، بما له علاقة في لغة القرآن وإسلام الشهادتين بالذات،
لأن كل شيء تم تدوينه، بأمر من علي بن أبي طالب بعد أن نقل العاصمة إلى وادي الرافدين حيث ولادة (اللغة الأبجدية-المسمارية السومرية)،
وليس وادي النيل حيث ولادة (اللغة الصوريّة-الهيروغليفية الفرعونية)،
بواسطة الثنائي أبو الأسود الدوؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب كتاب العين، كهيكل ومعنى معاني لغة، كما تُنطق تُكتب،
تم جمع بها، عدة طرق، من ألسنة قراءات القرآن، مع أدوات علامات التنقيط، في نص لغوي واحد، كما تجده في مصحف المدينة الذي ينتجه مجمع الملك فهد لطباعة لغة القرآن وترجمة معانيه إلى كل ما يمكن تدوينه من لغات،
يا د منصف الوهايبي، كأول تعليق على عنوان مقالك (أساطيرية جديدة: بين الإنترنتي والأمّي)، الذي نشرته لك جريدة القدس العربي البريطانية، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!
من أجل عدم انهيار إقتصاد السوق، بعد إفلاس نموذج إقتصاد الدولة الإشتراكية، ممثل في انهيار سور برلين عام 1989،
تبعه تفكك الإتحاد السوفيياتي، طرحت إدارة الثنائي (كلينتون-آل غور)، شبكة (الإنترنت الشّابِكة) لربط كل الأسواق آلياً،
ووضعت نائب الرئيس آل غور، مسؤول التسويق، لتسريع نشرها، قبل أن تقع الفأس في الرأس، ومن حينها إقتصاد الحياة (عن بُعد)، أصبح واقع،
اعتماد الصين، للأتمتة في الإدارة والحوكمة، حتى على مستوى عمود الكهرباء في الشارع، في تقييم الإنسان آلياً، أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، وأوربا، وروسيا،
أضاعت هيبة الدولة، كما ظهر، عند سيطرت رجل الشارع على مجلس النواب في هونغ كونغ يوم 1/7/2019،
بينما فشل في أميركا يوم 6/1/2021، رغم تحريض الرئيس الأمريكي نفسه على ذلك، بحجة أن الانتخابات التي طردته من كرسي السلطة الذي وصل له في عام 2016، ليست صحيحة، سبحان الله؟!
الآن كورونا، مثل النشلة/الزكام، علينا أن نتعود على التعايش معها يا أيها البدوي، من صحراء شمال أفريقيا،
والمحظوظ من وجهة نظري، في الإقامة والعيش بجوار الحرمين، ونسأل الله العزيز الجبار، أن يُعيننا في تحرير الحرم الثالث، لنزورهم أجمعين بخط سير رحلة سياحية واحدة، إن شاء الله، في هذا العام الهجري 1443/2022 الميلادي، حسب رأي أهل علم التنجيم بالأرقام،
ولو أن لغة القرآن وإسلام الشهادتين تتعامل على أن كذب المنجمون ولو صدقوا، سبحان الله،
ومن مزايا وسائل التواصل الاجتماعي كذلك أن (المتثاقف) أو الجاهل الدعي بعينه صار ينتف العبارات بأكملها من نصوص المثقفين الحقيقيين وينتحلها على “صفحته الفيسبوكية” دون أي رادع ضميري (أو حتى ديني، إذا كان متدينا متأسلما) تماما كما ينتف حاجبيه في وقته المرآوي المديد لكي يظهر في شكل شبيه بالإنسان مقبول اجتماعيا أمام الناس وهذا أيضا أنجاز (خلاصي) لافت بحد ذاته !!؟