حتى تتكشف تفاصيل السواطير التي استخدمها قتلة الصحافي السعودي جمال خاشقجي في تقطيع جثته، أو يتضح أنّ المنشار وليس الساطور كان الأداة كما سرّبت الصحافة التركية؛ ليس في وسع المرء أن يتمعن أكثر في هذا الطراز، الوحشي والدموي والبشع، من «حداثة» تقنيات التصفية الجسدية التي باتت تتصف بها أجهزة محمد بن سلمان، ولي عهد «التحديث» السعودي في طوره الراهن. أمثال ماهر المطرب وصلاح الطبيقي وثائر غالب الحربي، الذين تقول التقارير إنهم «فريق التقطيع»، ليسوا على شاكلة وليّ أمرهم الأمير السفاح، فحسب؛ بل لعلهم تلك المسوخ التي كانت تتخلّق في مكان ما ظلمات المملكة، رويداً رويداً وعلى نحو منهجي، في انتظار النقلة «الحداثية» التي سوف تطلقهم إلى عراء الهمجية.
لكنّ بن سلمان ليس الأمير «الحداثي» الوحيد في تاريخ هذه المملكة، ولم يطرأ هكذا من غامض ما تخفيه القصور الملكية من أسرار وخبايا؛ حتى إذا كان قد تنعّم، أكثر من سابقيه، بمقادير أعلى من التطبيل والتزمير والتهليل والتجميل في بعض الأوساط الصحفية الغربية، والأمريكية بصفة خاصة. في البال، على سبيل المثال، الأمير بندر بن سلطان سفير السعودية الأسبق في واشنطن طيلة عقدين، والذي أقام صداقة خاصّة وثيقة مع الرئيسين جورج بوش الأب والابن، أكسبته اللقب الظريف «بندر بوش». وبدل الساطور، الذي امتشقه رجال بن سلمان، انتهج بندر الأسطورة، أو «التحديث» عن طريق الفخامة المعمارية التي تقتصر على شكل خارجي كتيم، حصين ومحصّن ضدّ أيّ مضمون عصري حداثي، في الحدّ الأدنى لمعنى المفهوم.
حين تعاقبت التفاصيل الرهيبة عن كيفية تصفية خاشقجي، بدا أنّ وقوع هؤلاء في حيص بيص أخلى مكانه سريعاً لخلاصات أبسط، وأشدّ وضوحاً، لأنها إنما ارتسمت بالدماء القانية وليس بفقاعات الأساطير.
ولقد شاء بندر أن يدشن «الحداثة» من العاصمة الرياض، مقترحاً تحويلها إلى عاصمة ثقافية ومعمارية «حداثية»، فابتدأ من اقتراح تشييد صرح أسطوري هائل ينبثق مثل واحة من المرمر الأبيض وسط مساحات موحشة من الصحراء الجرداء، هو «مركز الملك فهد الثقافي» حسب التسمية الرسمية. لكنّ المبنى اتخذ صفة «دار الأوبرا السعودية» ،حسب التسمية التي اعتمدتها الأوساط الدبلوماسية الأجنبية، والتي لم تجانب الصواب إذا صدقت التفاصيل التي سردها جون لانكستر، مراسل صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، في تقريره عن الموقع. ذلك لأنّ التصميم الأصلي لهذا الصرح المعماري المستقبلي بدأ كدار أوبرا بالفعل، وصالة العروض الموسيقية تعدّ واحدة من أشدّ دور الأوبرا تعقيداً في العالم: ثلاثة آلاف كرسي، إضاءة بالليزر، خشبة مسرح هيدروليكية، صالات استراحة وتدخين وقصف مؤثثة على الطراز الإكزوتيكي لقصص ألف ليلة وليلة، 180 كادر عامل في التشغيل والإدارة، و140 مليون دولار كلفة مبدئية.
ولم يكن عجيباً أن يذهب لانكستر، دون إبطاء، إلى التفسير الكلاسيكي حول التوتر بين الحداثة والتقليد، في الشرق الأوسط إجمالاً وفي السعودية بصفة خاصة؛ فاستخلص أنّ عدم تطوير الصالة الموسيقية إلى دار أوبرا مردّه عمليات الشدّ والجذب بين أفراد من الأسرة الحاكمة (على غرار بندر، من طالبي «الحداثة»، بعضها أو كلها)؛ وطائفة «العلماء» ورجال الدين (الذين يريدون العكس، بطبيعة الحال). كذلك اكتشف صاحبنا أن المرونة هي سيّدة الأحكام هنا، ونقل على لسان بندر قوله إن الأسرة الحاكمة تتعامل مع رعاياها بالمنطق الذي يحكم العلاقة بين رجلين يمسك كلّ منهما بطرف خيط رفيع: إذا شدّ الأول، أرخى الثاني، والعكس صحيح.
هي، إذن، شعرة معاوية دون سواها، إذا شئنا ردّ ذهن الأمير إلى خلفيته العربية. ولكنّ تقرير لانكستر يشير إلى أنّ علاقات الشعرة هذه تبدو أحادية، أو مقتصرة على الإرخاء من طرف السلطة دون الشدّ من طرف العلماء، أو الإرخاء الأقصى اتّقاءً لشرّ شدّ محتمل. والناظر إلى برامج هذا المركز سوف يدرك، دون كبير عناء هنا أيضاً، أنّ المبنى لا يختلف في اعتناق «الحداثة» عن أيّ مركز ثقافي في طول المملكة وعرضها؛ ما خلا، بالطبع، أنّ فخامته المعمارية فائقة واستثنائية، تظلّ مع ذلك أقرب إلى فقاعة عملاقة آتية من باطن الخرافة.
هي «ثورة من فوق»، هكذا سارت الأسطورة الأمريكية المركزية في وصف «إصلاحات» بن سلمان، الذي قيل إنه تجاسر فاعتقل عدداً من كبار أمراء آل سعود، وخان طبقته، وتمرد على 15 ألف عضو في الأسرة الحاكمة. هكذا ردّد، سرّاً أو علانية، أمثال أوبرا وينفري، توماس فردمان، بيل غيتس، سيرغي برين (دماغ «غوغل»)، وجيف بيزوس (مؤسس «أمازون»). وحين تعاقبت التفاصيل الرهيبة عن كيفية تصفية خاشقجي، بدا أنّ وقوع هؤلاء في حيص بيص أخلى مكانه سريعاً لخلاصات أبسط، وأشدّ وضوحاً، لأنها إنما ارتسمت بالدماء القانية وليس بفقاعات الأساطير.
وعلى درب «حداثة» بن سلمان، أعلنت «هيئة الترفيه السعودية» عن مشروع لإنشاء دار أوبرا، فعلية هذه المرّة وبالتسمية الدقيقة والصريحة؛ واستضافت عرضاً أوبرالياً حمل اسم «عنتر وعبلة»، لأوّل مرّة في تاريخ المملكة، في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، وليس في الصالة الموسيقية المشهودة! فإذا قُرىء الخبر على ضوء جريمة القنصلية في اسطنبول، فللمرء أن يتخيّل ثلاثي «فريق التقطيع» وقد استلهم عنترة، على النحو المعكوس الأشدّ بشاعة: المناشير نواهل/ وبيض السواطير تقطر من… دم خاشقجي!
يسلّم هالأيادي يا صبحي حديدي. لقد أظهر صبحي حديدي حداثة آل سعود على حقيقتها العارية!
هل غادر آل سعود من متردم أم عرفوا الحداثة بعد توهم..
كما هي الفأس ، يدها من الشجرة التي تقطعها ، أجهزة الدولة كانت .
أياً تكن حالة ولي العهد من البراءة أو عدمها ، فقد أُصيب بمقتل ، و ” وربَّ رمية من غير رامي”
بصراحة ، لن يمكن الجزم ، بلا أدنى شك ، ببرائته ، أو ذنبه ( إلاّ إذا إعترف !)
لذا قد لا يكون هناك مخرج ، لمن هناك شبه بما حدث له ، بماكبث ، بطل مسرحية شكسبير ، سوى مغادرة المسرح
لا يجب أن ننسى أن الاغتيال من أعراف آل سعود وتقاليدهم. عبد العزيز الوالد المؤسس الثاني لدولتهم تزعم كوماندو لرهيب لاغتيال الأسرة المحلية الحاكمة في الرياض بمنطقة نجد في سنة 1900 عندما كان والده لاجئا مستجيرا بأمير الكويت الخاضعة آنذاك للنفوذ البريطاني. وقد شكل هذا الاغتيال في ذلك الوقت عملا أسطوريا يفتخر به آل سعود ويتباهون به. آه لو ساير شريف مكة مصالح الانجليز بعد الحرب العالمية الأولى لما قامت لآل كلبون قائمة تذكر.