أساطير غارقة: لماذا لا نبتكر سرداً جديداً؟

انتشرت، قبيل انتفاضات «الربيع العربي» وبعدها، أشكال معيّنة من السرد والتعبير الثقافي، وُصفت آنذاك بـ»الشبابية»، وتجسّدت أساساً بقوالب وأنماط مثل، المحاكاة الساخرة والتهكّم؛ الديستوبيا؛ الذاتية المفرطة والصوت الواحد. كل هذه القوالب بدت أشبه بتعبير متمرّد ورافض للسرد الرسمي السائد. ومفردة «رسمي» هنا تشير لأكثر من معنى، من المقولات الوطنية، وحتى الأدب الاجتماعي الجاد. بدا وقتها أن المعاني القديمة كلها، التي ارتبطت بـ»دولة الاستبداد»، أي أنظمة الاستقلال والتحرر الوطني في عصر اضمحلالها، بل حتى معارضاتها، أصبحت مثاراً للسخرية أو الاشمئزاز، فبات تحويرها؛ وقصّها ولصقها بشكل مشوّه؛ وتضخيمها أو تصغيرها بشكل كاريكاتيري؛ والانسحاب منها بشكل علني، شاغلاً لكثير من الروائيين والمصمّمين والمدونين وكاتبي الأغاني، بل حتى صانعي «الميمز» في فترة لاحقة.
ربما لم يتسم ذلك السرد والتعبير وإعادة الترميز بكثير من التعمّق، أو حتى الخيال المتفرّد، وربما لم يكن مطلوباً منه ذلك، إذ بدا وقتها أننا نعيش مرحلة «خروج» من رواية تعفّنت فعلاً، والمقبل سيكون أكثر أهمية، إلا أن ما يحدث اليوم يبدو مخالفاً لتلك التوقعات: حدثت «ردّة»، إن صح التعبير، ليس إلى السرد التقليدي لدول الاستقلال، في عصر انفتاحها، بل إلى ما هو أعتق من ذلك، وكأن الزمن عاد بنا إلى عصر المد القومي في خمسينيات القرن الماضي وصولاً لسبعينياته، إضافة لكثير من أجواء «الصحوة الإسلامية»، ورومانسيات القضايا الكبرى، بل أيضاً لغة «جيل الهزائم» في مطلع التسعينيات. الأغرب أن الشباب المتمرّد، وناشطي التغيير أنفسهم، هم حاملو تلك اللغة. دون داعٍ لذكر أمثلة، لن تفيد إلا في شخصنة المسألة، خاصةً في الظرف الحالي، الذي لا يبدو أنه يتحمّل الجدل والنقد.
يظهر إذن أن التمرّد قد عاد إلى حضن الأمة ومجازاتها، وهذا يطرح أسئلة كثيرة: ماذا كانت مشكلة المتمردين حقاً، خاصة الطليعيين أدبياً وفنياً منهم، مع أنظمتهم؟ هل أنها خانت تطلّعات الأمة مثلاً، ولو كانت أكثر اخلاصاً لسكتوا عن استبدادها؟ لماذا كان إذن كل تلك المحاكاة الساخرة، والتشويه للروايات الوطنية، وللدراما الاجتماعية الملتزمة، وللصور والترميزات القديمة؟ هل كانت المشكلة مع المجازات والمعاني نفسها، أم مع حامليها؟ أم لعل التمرّد كان سطحياً، لدرجة أنه لا يعرف فعلاً عمّ يتكلّم، وعلى ماذا يتمرّد؟
ما هو مؤكد أننا لم نخرج بالتأكيد من سرد الإسلام السياسي والقومية العربية، حول الذات والتاريخ والآخر والعالم، حتى على مستوى أشد الناشطين تقدميّة، بل حتى من طرف من يُعتبرون «شواذَّ» على المستوى الأخلاقي والاجتماعي. وهذا يعني أن الروايات التي تحملها تلك الأيديولوجيات ما تزال صامدة، وقادرة أكثر من غيرها على إنتاج المعنى. وهذا قد يبدو غريباً من زاوية نظر، لا ترى إلا الخراب والانهيارات والهزائم في المجتمعات التي آمنت بتلك الروايات، أو اضطرت للإيمان بها. هل هنالك إذن أسباب «واقعية» أو «مادية» تدفع الناس للعودة دوماً إلى سرد الأمة؟ أم أن المسألة أقرب لإصرار عبثي على تكرار الصيغ والعبارات الفاشلة؟

الوظيفة القاتلة
من غير المجدي والصحيح بالتأكيد، الاكتفاء بنعت مكرري السرد القومي/ الإسلامي، والعائدين إليه، بالغباء أو التحجّر أو الانفصال عن الواقع، فهذا قد ينفع في الهجاء، ولكن ليس في التفسير؛ من جانب آخر فإن افتراض أن الناس تعود إلى المربع الأول، وكل ما هو أصيل في الهوية، في مواجهة تهديد وجودي، من الغرب أو الاستعمار أو العدو، لا يوجد ما يدعمه، فحتى لو كان التهديد الوجودي قائماً، فهو لا يفسّر عجز كتل سكّانية ضخمة، وشديدة التنوّع، عن إنتاج صيغ سياسية وفكرية أكثر فعّالية في المواجهة. ثم إن الأصيل، ليس أصيلاً للدرجة التي يتخيلها البعض، بل يمكن تحليل وتتبع نشأته، بطريقة تبيّن مدى اصطناعه. نحن نتحدث هنا عن أيديولوجيات معاصرة جداً، تراكمت خطاباتها بالتدريج، بناء على عمليات سياسية واجتماعية؛ وصراعات متعددة الأطراف؛ ومسارات دمج، أو استبعاد وإلغاء، لفئات ومنظورات أخرى، بعضها أيضاً اعتبر نفسه الأصالة.
على هذا الأساس، فقد يكون السرد القومي/الإسلامي يؤدي وظيفة لا يمكن الاستغناء عنها، أو لا بديل فعّالاً لها، في المجتمعات المتكوّنة عن تلك الصراعات، وهي تقديم الأسطورة المؤسِّسة ـ أي الرواية التاريخية والاجتماعية، التي تجعل الوضع القائم يحمّل الحد المعقول من المعنى. ودون ذلك ستصبح الحياة مجموعة من الإكراهات، وعمليات القمع والكبت والإيلام والانسحاق تحت أنظمة صارمة، على المستوى القانوني والاجتماعي والديني والسياسي، وستتعطل معظم عمليات الاندماج الممكنة في المجتمع. وتلك الرواية منحازة بالطبع لتاريخها الخاص: السمات التي نعتبرها الهوية كانت موجودة دائماً، وجذورها ضاربة في عمق الأرض. وبالتأكيد فإن الحل الأمثل هو العودة إلى الوضع الصحيح والطبيعي: الدين الحق، الوطنية السليمة، القضايا العادلة.
محاولات النيل من تلك المعاني، أو السخرية منها وتشويهها، ستبقى مجرّد تمرّد عارض، قابل للإدماج لاحقاً، إذا لم يستطع إنتاج روايات بديلة. وفي حالة دول المنطقة، فإن المتمردين، لم يجدوا أمامهم ما هو بديل، إلا أيديولوجيات لا تصطدم جذرياً بالسرد القومي/الإسلامي، مثل اليسار المناهض للإمبريالية، أو الناشطية، وكلتا هاتين الأيديولوجيتين المتداخلتين، تؤكدان وجود الأمة والهوية المضطهدة، التي قد تكون عودتها إلى الأصول رد فعل، أو إفرازاً متوقّعاً ومبرراً، في سياق مقاومة الظلم والاستغلال، بل إن الأيديولوجيا الأخيرة، أي الناشطية، تتحدّث بوضوح عن أصلانية معارضة للتشويه الكولونيالي/الحداثي، ولذلك تكرر تعبير «سكان أصليين»، وتتجنّب قدر الإمكان ذكر مفردة «شعب»، نظراً لـ»الشبهة» السياسية الحداثية فيها.
كان من الممكن القول إن الحفاظ على سرد، يؤدي وظائفَ مثل الموصوفة أعلاه، أمر معقول ومنطقي، إلا أن الإشكالية تكمن في أن تلك الوظائف باتت قاتلة، فهي تحقق تماسكاً وإدماجاً لا يزيد الأمور إلا سوءاً، إذ لا نشهد في المنطقة سوى انتشار معمم لخراب، يمكن قياسه بوضوح؛ واختفاء لكثير من مظاهر التنوّع، ومنها عدد من الأقليات الدينية والعرقية، التي كانت متبقيّة في بلدان المشرق خصوصاً؛ فضلاً عن كبت وقمع مروّع للأفراد، يصل إلى حد التعطيل الشامل لطاقاتهم؛ وانتهاكٍ لحياة وحقوق النساء، يزداد ترسّخاً في ما تبقّى من البنى القانونية والمؤسساتية، إذا كان كل هذا بسبب الإمبريالية أو الكولونيالية، فيبدو أن مقاومة «الأصليين» تساعدهما على تحقيق غاياتهما، لا العكس. ألا يمكن ابتكار مخيّلة سياسية وثقافية أخرى، تنجي قليلاً من تطبيع كل هذا الفشل، بل ربما التلذذ به؟
التشويه المحافظ
لا تنبع المحاكاة الساخرة، والتصورات المتشائمة عن المستقبل، من مواقف تقدميّة بالضرورة، بمعنى السعي لتجاوز أوضاع وتصورات معيّنة، نحو أخرى يُعتقد أنها أكثر عدالة أو كفاءة أو تحرراً، بل قد تكون موقفاً محافظاً بالعمق، يقوم على النفور العميق من تلطّخ المثال الاجتماعي، أو القومي، أو الديني، بالفساد، ولذلك فقد يكون المتهكّم أو أديب المدن الفاسدة نذيراً لمعاصريه: لقد ابتعدتم كثيراً عن الحق الذي تعلمون، فأصبحتم مثيرين للضحك أو الشفقة.
ربما كانت إعادة قراءة أدبيات وتعبيرات «الربيع العربي» اليوم موصلة لهذه النتيجة، فالمخيلة التي انبنت عليها لا تظهر لنا إلا أوطاناً وشعوباً خائبة، بسبب مستبدّيها، الذين بات كلامهم فارغاً من المعنى، ليس بسبب بنيته نفسها، بل بسبب نفاقه. بمعنى أننا لو عشنا ديناً ووطنية ومقاومة حقيقية، تحقق لنا الانتصارات والعزّة القومية، لما عرفنا الخيبة، واضطررنا للتشاؤم. يصعب أن نجد نقداً فعلياً، أو أسئلة جديّة، تجاه أسس السرد القومي/الإسلامي نفسه، اللهم إلا بعض التعبيرات الأقرب للعشوائية، التي تجعل «الإسلام» و»العروبة» أسباب كل الشرور، وأقرب لشيطان عابر للتاريخ، بدأت معه مسيرة «الانحدار الحضاري». وهي تعبيرات يبدو أصحابها أقرب لإسلاميين وقوميين معكوسين، أي أنهم يوافقون على أصلية وجوهرانية الدين والقومية المعاصرين، ولكنهم فقط يقلبون أحكام القيمة. يبقى السؤال: لماذا هذه المخيّلة الفقيرة؟
أبٌ ومدينة
قد يكون التركيز على نمط التنمية والتطوير الحضري في عصر ما بعد الاستقلال، والتحرر الوطني، مفيداً للغاية في فهم فقر المخيلة المعاصرة، فهو قد عرقل نشوء فئات وطبقات مستقلة نسبياً عن جهاز الدولة، من حيث إدراكها لمصالح ومواقع ذاتية، قد تختلف وتتعدد، وإن كانت لا تتعارض بالضرورة مع مفهوم المصلحة العامة، الضروري لكل جماعة سياسية حديثة. لقد رُبطت كل الفئات بأبوية جهاز دولة، عبر عمليات اختلف المتخصصون في وصفها (توزيع ريع، زبائنية، تفليح، تبعيّة، إلخ)، إلا أن النتيجة واحدة: لا يوجد في المدينة إلا جمهور أحادي، يعوّل كثيراً على الدولة/الأب، وأحياناً يحقد عليها، ولكن، في كل الأحوال، لا أفق له إلا عوالمها، ورغم كل عنف الانتفاضات العربية، إلا أنها فعلاً لم تخرج يوماً عن تلك العوالم، إذ لا ذات ممكنة أو متخيّلة إلا داخلها.
السرد القومي/الإسلامي كان غالباً المؤسس لعوالم دولنا، والمنتج لما يُفترض أنه تجانس وتناغم جمهورها. ومع اضمحلالها الشامل، فقد لا يؤدي التمسّك بذلك السرد إلا لمزيد من الاضمحلال، والعنف العبثي، الطامح لاستعادة الأمة كما يجب أن تكون. لقد انحط أو تدمّر اليوم كثير من مدن المشرق خصوصاً، ولا يمكن التنبؤ بما يمكن أن ينتجه كل هذا الدمار. ما هو أكيد أن التهكم على السرد إياه لم يعد بحاجة متمردين، فقد بات مجرد تكراره كما هو محاكاةً ساخرة.
كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية