خلال الأسبوع المقبل سوف ينظم أنصار جوليان أسانج، مؤسس موقع «ويكيليكس» الشهير، سلسلة أنشطة وتظاهرات تستهدف التضامن مع الرجل، استباقاً لجلسة محكمة بريطانية عليا سوف تنظر في قرار محكمة بريطانية دنيا رفضت ترحيله إلى الولايات المتحدة؛ ويُخشى، استطراداً، أن تقرّر العكس بما سوف ينطوي عليه الحكم من عواقب جدّية على أسانج في حال تسليمه إلى السلطات الأمريكية. وأياً كانت الاعتراضات على شخصية أسانج، وعلى علاقاته وارتباطاته وما نُسج حوله من أقاويل شتى وشائعات متضاربة، خصوصاً خلال فترة لجوئه إلى سفارة الأكوادور في لندن طوال سبع سنوات؛ فإنّ اعتبارات الواجب الأخلاقي، فضلاً عن حرّية التعبير والحقّ في تفضيح مستور القوى الكونية العظمى والدفاع عن الصحافة الاستقصائية وسوى ذلك، تفرض التضامن مع الرجل ومناهضة ترحيله. وفي المقابل، فإنّ ترحيله إلى أستراليا، بلده الأصلي، ليواجه كلّ ما قد يتهمه به القضاء هناك، بما في ذلك ملفّ الاغتصاب في السويد؛ أمر آخر مختلف تماماً، ولا جدال حوله.
جديرة بالاستذكار حقيقة أولى كبرى تقول إنّ أسانج، عبر موقع «ويكيليكس» كشف النقاب عن كتلة وثائق دبلوماسية أمريكية بلغت قرابة 1,7 مليون، من البرقيات والمذكرات والتقارير. ورغم أنّ السلطات الأمريكية رفعت الصفة السرّية عن كثير من هذه الوثائق، بالنظر إلى تقادمها طبقاً للقوانين المرعية، فإنّ الاطلاع عليها ظلّ مقيداً بشروط الدخول إلى الأرشيف الوطني الأمريكي؛ ومن هنا كان امتياز نشرها، وفتحها للعموم. حقيقة أخرى، يتوجب عدم نسيانها، هي أنّ كلّ ما فعله أسانج، بوصفه أحد أبرع مخترقي كلمات السرّ في الحسابات الإلكترونية، هو مساعدة المجندة في الجيش الأمريكي شيلسي ماننغ على تحميل مئات الآلاف من الوثائق التي تدين جرائم الولايات المتحدة في أربع رياح الأرض، وفي أفغانستان والعراق ومعسكر اعتقال غوانتانامو بصفة خاصة. وماننغ دخلت السجن الانفرادي لأنها رفضت الإدلاء بشهادة أمام هيئة محلفين في قضية «ويكيليكس» تحديداً، وبالتالي فإنّ ترحيل أسانج إلى الولايات المتحدة سوف ينقلب إلى وسيلة ضغط إضافية ضمن مسار إدانة ماننغ، وتصفية حساب أجهزة البنتاغون والاستخبارات مع كلّ مَنْ تسوّل له نفسه اختراق المحرمات!
جولات هتك الأسرار التي تعاقبت على صفحات «ويكيليكس» أعلمتنا بسلسلة من العجائب والغرائب (كما في واقعة تفكير الملك حسين بن طلال بمخطط لاغتيال الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة)؛ وأخرى ليست مدعاة استغراب، لأنها ببساطة مزيج من المأساة والمهزلة (كأن يفكّر العقيد معمّر القذافي بدعم الإسلاميين المعارضين لنظام حافظ الأسد في سوريا، ثمّ يرسل مساعده عبد السلام جلود إلى دمشق، لطمأنة النظام هذه المرّة!). وأمّا هذه السطور فإنها منحازة إلى الرأي القائل بأنّ فضيلة «ويكيليكس» الأبرز هي تزويد المرء بوثيقة محسوسة، حول سلوك أمريكي رسمي كان واضحاً كعين الشمس، بيّناً ومنطقياً ومنتظَراً؛ ما خلا أنّ الدليل عليه ظلّ غائباً، أو مغيّباً في واقع الأمر.
على سبيل المثال، ما الذي فعله الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن حين ارتأى الانحناء أمام «إلهام ربّاني» حسب تعبيره، أراده (وعلى ذمّته: أوكل إليه) أن يجتثّ شرور الشرق الأوسط من جذورها، وأن يرسل مَنّ الحرّية وسلوى الديمقراطية إلى شعوب المنطقة البائسة؟ الخطوة الأولى على درب تلك «الحملة الصليبية الخيّرة» في تعبيره هنا أيضاً، كانت قراءة كتاب «حجّة الديمقراطية: جبروت الحرّية في التغلّب على الطغيان والإرهاب» لمؤلفه… ناتان شارانسكي، السياسي الإسرائيلي، والمنشقّ السوفييتي السابق! الأرجح أنّ بوش لم يجد في هذا الاختيار أية مفارقة أخلاقية، كأنْ يبدو من غير اللائق نصح المقهور العربي باعتماد فلسفة القاهر الإسرائيلي؛ إذْ لعلّ سيّد البيت الأبيض قدّر العكس تماماً، وربما وعلى مبدأ: داوها بالتي كانت هي الداء!
وثائق «ويكيليكس» كانت بمثابة غسيل دماغ، بالمعنى الإيجابي للتعبير، عند أولئك الذين اعتقدوا أنّ السياسات الأمريكية الكبرى، بصدد الشرق الأوسط تحديداً، يمكن أن تشهد طفرات جوهرية، أو تبدّلات تكوينية
أو، في مثال ثانٍ، حين قادت برقيات «ويكيليكس» إلى قطع الشكّ باليقين حول السياسات المراوغة التي اعتمدتها إدارة رئيس أمريكي أسبق آخر، باراك أوباما، بين مداهنة المسلمين، علانية، في خطبتَيه أمام البرلمان التركي ومن جامعة القاهرة؛ وبين الإمعان أكثر فأكثر، سرّاً، في تخريب العلاقات مع العالم المسلم، هنا وهناك في المنطقة. كأنّ ما تغيّر على مستوى الأفراد في البيت الأبيض، ظلّ في المقابل ثابتاً أو يكاد على مستوى السياسات؛ فكانت إدارة أوباما، في شخص أمثال هيلاري كلنتون وجون كيري ودنيس روس، تعيد إنتاج السياسات ذاتها التي اعتمدتها إدارتا بيل كلنتون وجورج بوش الابن.
بذلك فإنّ وثائق «ويكيليكس» كانت بمثابة «غسيل دماغ» بالمعنى الإيجابي للتعبير، عند أولئك الذين اعتقدوا أنّ السياسات الأمريكية الكبرى، بصدد الشرق الأوسط تحديداً، يمكن أن تشهد طفرات جوهرية، أو تبدّلات تكوينية تفضي إلى انقلابات رأساً على عقب. هؤلاء كانوا أوّل المصابين بصدمة اكتشاف صلة الاقتداء بين بوش وشارانسكي؛ وأنّ جميع استلهامات الأوّل «الربانية» حول الخير والشرّ، طُويت على لسان وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، في تبشيرها بـ«شرق أوسط جديد». وهؤلاء، في المقام الثاني، كانوا أوّل خائبي الرجاء من ذلك اللغط الأمريكي الذي تعالى عشية غزو أفغانستان والإعداد لغزو العراق؛ حين أشاع البيت الأبيض أنه بصدد الانتقال من سياسة عقد صفقات التسوية مع أنظمة الاستبداد، بذريعة ترجيح مبدأ الاستقرار حتى على حساب الشعوب؛ إلى سياسة الانفتاح على الشعوب البائسة ذاتها وتزويدها بمختلف الصادرات الديمقراطية، شاءت الشعوب استهلاكها أم أبت!
وقد يكون أساس التضامن مع أسانج أنه في نهاية المطاف مبلِّغ شجاع، من الطراز الذي تصنّفه الرطانة الأمريكية تحت مسمى الـWhistleblower، أكثر ميلاً نحو التفضيح الانتقائي ربما، أقلّ استعداداً لهتك الأسرار على نحو متساوٍ وعادل (كما في تجنيب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مغبّة الكثير من الفضائح). ذلك، وسواه عناصر كثيرة كما يتوجب القول، لا يبدّل من الخدمة المعلوماتية الكبرى، الثمينة والنادرة وغير المسبوقة، التي قدّمها للعالم بأسره حول أجهزة الاستخبارات والدفاع والدبلوماسية الأمريكية، المخفيّ المكتوم من أفعالها على وجه التحديد. وليس غريباً استشراس هذه الأجهزة في السعي إلى ترحيل أسانج وإخضاعه لقضاء أمريكي لا يمكن له إلا أن يبدأ من حكاية الـ»باتريوت أكت» إياه، الذي اعتمده الكونغرس على سبيل التحصين القانوني لأعمال التلصص على المواطنين، والتجسس على خصوصياتهم، والتضييق على حرياتهم الشخصية وحقوقهم المدنية.
وقد لا يصحّ الحديث عن التبليغ والمبلّغين من دون ذكر أبرزهم: دانييل إلسبرغ، الذي كان وراء فضح أسرار السياسة الأمريكية بصدد التدخل في فييتنام، وما عُرف سنة 1971 باسم «أوراق البنتاغون» التي سرّبها إلسبرغ إلى صحف كبرى مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» وأُحيل بسببها إلى المحاكمة استناداً إلى قانون التجسس العائد لسنة 1917، وطلب الادعاء الحكم عليه بالسجن 115 سنة. التاريخ أنصف الرجل، غنيّ عن القول، فحصد جوائز تقديرية عديدة ثمّنت شجاعته الأخلاقية وضميره الحيّ؛ وكذلك فعل القاضي الأمريكي وليام ماثيو بيرن، الذي ردّ القضية وبرّأ إلسبرغ من الاتهامات كافة بعد محاكمة دامت سنتين.
ليس مؤكداً أن أسانج سوف يحظى بقاضٍ مشابه في أمريكا هذه الأيام، وليس حين تقول الإحصائيات إنّ مختلف أجهزة الاستخبارات الأمريكية تضم 1,4 مليون موظف، في 18 على الأقلّ من فروع الأجهزة، بميزانية سنوية تبلغ 81 مليار دولار؛ مع تقديرات قصوى تشير إلى أنّ اثنين أو ثلاثة، كحدّ أقصى، يمكن أن ينشقوا عن هذا الجيش كلّ عقد، ليبلغوا رسالة أو يهتكوا ستراً!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس