وسط مناخ عام لم تتجذر فيه ملكة «الفكر النقدي» بالمعنى العميق والمزلزل الذي وصلت إليه واكتسبته أوروبا عبر عقود من الصراع الاجتماعي والتطور الفكري المصاحب، بل لعله من الأدق أن نقول إن منحى فكريا كهذا، إن مر على بلداننا، فلم يمر مرور الكرام (بدرجات متفاوتة بالطبع بين بلد وآخر) وسط دوائر ضيقة للغاية، تحيط بها غابة كثيفة من حواجز ومتاريس التربص والرفض أقامتها في وجهها قوى رجعية لها مواقف مسبقة ومصالح تدعمها بطارية من الحجج التراثية الموغلة في القدم، المغروسة والمتجذرة بحق في طبقات النفس والوعي الجمعيين.
لعله من الجائز تماما أن نقول إن هذه المجتمعات، الدائخة وراء لقمة العيش وأساسيات الحياة الأخرى، لا تعبأ على الإطلاق بمفاهيم ومنهجية كـ «الفكر النقدي»، بل وقد تجافيها وتناصبها العداء في جملة ذلك التحفظ والريبة التي ترمق بها «الفكر» بصورة عامة، باعتبارها في المجمل قد تشربت «موقفا نفسيا» إن جاز التعبير يماهي بين كلمة «الفكر» وكل ما من شأنه تقويض ثوابتها الأخلاقية ومرجعياتها، ويرى فيها بضاعة غربية منحازة ضده.
لا أظن أن هناك متسعا للجدل أو الخلاف على كون تنامي تأثير التيار الديني جاء خصما من رصيد مدارس الفكر والفلسفة الأخرى، الغربية في الأساس، والتي تعتمد منهجية الفكر النقدي والجدلي، ذلك الرصيد الذي اتفقنا على ضآلته ومحدودية اتساعه حتى في أوج لحظاته (ربما بما يعكس رثاثة البورجوازية العربية واستعصاءها التاريخي).
المهم هنا، وهو ما يخص موضوعنا بصورة لصيقة، أن كثيرا من التعابير، مصطلحات كانت أم منطلقات فكرية مزعومة أم أهدافا، مرت هي الأخرى (ولم تزل!) مرور الكرام، لم تخضع لما ينبغي من تمحيص ودرس، بل هي لم «توزن» جيدا، في حقيقتها، مع قدر يسير من التأمل، ليست أكثر من تعبيرات غامضة عن أفكار في بعض الأحيان وأشواق في أغلبها غامضة بدورها، لكن مع غياب ملكة «الفكر النقدي» أو لأن طور تحقيق هذه الأحلام أو الشعارات ظل بعيدا متباعدا طيلة الوقت فلم يلتفت لها كما ينبغي، بل ترك تمحيصها (باستثناءات قليلة لم تحظ بما ينبغي لها من صدى) إلى حين ميسرة.
مثال ذلك الأقرب إلى ذهني (والأكثر فكاهة بصراحة شديدة) هو شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، وليت أحدا يشرح لنا ما هي ماهية هذه الرسالة الخالدة وما الذي يميزها عن غيرها من رسالات الأمم (بفرض وجود شيء كهذا) ولماذا يتحتم التصديق في رسالة كهذه كحقيقة علمية نصهر ونقيم مجتمعات على أساسها. في رأيي أن السبب وراء شعارات كتلك كما أسلفت لا يعدو أشواقا نفسية ورغبة في السجع حسن الوقع على الأذن والمحبب للنفس.
مثال آخر على ذلك، وهو موضوعنا، فكرة «أستاذية العالم» التي روّج لها حسن البنا وشاعت من ثم في أدبيات الجماعة ودرجت على الألسنة وفقا «للتقسيمة» أو «مخطط» التطور ذاك ومراحل التدرج فإن مشروع البناء الذي تبناه المرشد المؤسس كان يبدأ ببناء الفرد «الإخواني» المسلم ثم الأسرة المسلمة (بمعناها التنظيمي) فالمجتمع المسلم، ثم «نخرج» إلى الفضاء الأوسع رواداً و»أساتذة» للعالم عبر استعادة الخلافة (حيث سقوطها كان لم يزل حديث العهد مسببا جرحا وخللا ذهنيا مرجعيا ونفسيا لدى كثيرين كحسن البنا). ولعل المرشد المؤسس لم يلتفت إلى أنه بذلك يحاكي، وإن في سياقه وعالمه الخاص الموازي، نموذج التطور التاريخي من المشاعية البدائية مرورا بالعبودية فالرأسمالية حتى المجتمع الاشتراكي المأمول وفق النظريات اليسارية، لكنه يضغط التطور ويخلط فيه بين الأخلاق والسياق الاجتماعي – الاقتصادي.
الطفرات النوعية ممكنة في التاريخ، لكن يلزمها العمل والعلم والتنظيم، والأهم من ذلك تبني الفكر النقدي والتخلي عن أوهام الريادة
أيا كان، فإنه على الرغم من شيوع هذه الفكرة، فهي ككل شيء يخص الجماعة وتيارات الإسلام السياسي، وقعت في منطقة النزاع التقليدية بين تبني أفراد الجماعة والمتقبلين لأفكارها لهذه الفكرة أو على الأقل قبولهم بها وتعاطفهم معها، ومن ثم تكرارها دون تمحيص في إمكانيتها وجدواها، ناهيك مما تحمل من ثقة مفرطة في الذات مقترنة باستعلاء تجاه الآخر. ومن الناحية الأخرى رافضو الجماعة وأعداؤها الفكريون الذين يكتفون برفض ما في جعبتها من أفكار جملة وتفصيلا، ومن بينها فكرة «أستاذية العالم « التي لا تحظى سوى بالسخرية على الأغلب نظرا لما يرون فيها من نزق يتنطع مفارقا الواقع المزري على طول الخط.
ولما كنا جميعا (أو أغلبنا من باب التحفظ) نعاني من غياب الفكر النقدي بدرجة أو بأخرى، ونشأنا على مدرسة التلقين والتكرار، فقد ركن كل فريق إلى موقفه وموقعه من هذه الفكرة دون إعادة تقييم أو مساءلة إلا باستثناءات بسيطة.
لكنني في السنين الماضية، عقب هزيمة ثورة يناير/كانون الثاني (والثورات العربية عموما) وما تبعها من حوادث غارقة في الدماء والسخرية السوداء والعبث وجدتني أعيد تقييم كل المواقف والأحداث والتجارب، في المجالين العام والشخصي؛ أبتعد قليلا عن المسلمات ثم أعيد فحصها وتقصي أصولها، ولا بد أن أعترف أن حوادث بعينها كانت فاقعة للغاية أجبرتني أو دفعت بي للسير في هذه الطريق الموحشة.
وصلت لاكتشافات لا بأس بها، وقد شاركت بها على صفحات هذه الجريدة. ومن جملة ما شغلني، أو بالأحرى فرض نفسه علي، هو مفهوم أستاذية العالم، والنتيجة التي خلصت إليها هي أن هذا المفهوم أو هذه الفكرة أكثر تجذرا وانتشارا في النفسية والذهنية العربية مما نتصور، عابرة التقسيمات الطبقية والطائفية والمذهبية والفواصل السياسية. الأهم من ذلك هو أن من يناصبون الإسلام السياسي العداء الصريح ليسوا أقل تشربا لهذه الفكرة ومضمونها، وغاية ما هنالك إنها تجد تعبيرات وصياغات مختلفة للخروج إلى السطح، وهي دائما ما تفعل.
للوهلة الأولى قد نتصور أن ذلك نتيجة الخطاب والشحن الرسميين خاصة من أنظمة الأشاوس، أولئك الذين مروا «بالثورية التقدمية» في مرحلة ما، إلا أن الأقرب إلى الصواب في نظري أن الأشاوس و»الثورجية» من الضباط والأنظمة المسخ التي بصقوها إلى الوجود كانت في حقيقة الأمر تستجيب لهذا الاحتياج أو تعبر عن هذه الأفكار الضاربة في المجتمع.
إن ذلك المفهوم في حقيقة الأمر هو ابن الهزيمة، العميقة للغاية، لشعوب ذات تاريخ مديد وحضارات من أهم الحضارات البشرية التي لها إسهامات وبنى فكرية مؤسسَة لم تزل تجد امتدادا لها في الفلسفة والفكر الحديثين، إذ من الموضوعي القول بأن أفكارها وأساطيرها هي الطبقة «الأثرية» الأعمق التي بثت في الأديان وما لها من تأثير وتجليات في الفكر الشرق أوسطي والغربي بعد ذلك، وقد تضاءلت قيمة منطقتنا نتيجة تطورات سياسية واقتصادية مما لا مجال هنا لتداوله عبر الخمسة قرون الماضية إزاء صعود الغرب اقتصاديا وسياسيا وما صاحب ذلك من اكتشافات بل ثورة في العلوم الطبيعية.
وتتعقد الأمور نظرا للعداوة التاريخية بيننا وبينهم نتيجة طمعهم التاريخي في ثرواتنا والمتسربل بغلالة واهية من الدعاوى الدينية في بعض الأحيان التي وجدت أبلغ تعبير عنها في الحروب الصليبية. إن هذا الغرب، وقد تفوق، عاد مستغلا في طور الإمبريالية الرأسمالية ليجرف الثروات ويزيد من الإهانات معمقا ذلك الشعور بالهزيمة والرغبة في الثأر واللحاق به، ذلك الأمل أو المطلب الذي لم يزل يروغ منا كالسراب للأسف.
إن مفهوم «أستاذية العالم»، إذن، بمعناه الأوسع أن نعود إلى الصدارة والريادة، يلبي احتياجا نفسيا لدى الجمهور، المهزوم على شتى الأصعدة، والمتعطش للتحقق، وقد لعب المستبدون الذين تسلطوا علينا على هذا التوق ودغدغوا المشاعر، حتى أن ديكتاتورا كالسيسي مثلا كثيرا ما لعب على هذا الوتر حين وعد بأن مصر ستكون «قد الدنيا وأكبر من الدنيا».
لكن التجلي الأعظم والأكثر إبهارا لهذه الفكرة جاءت مع عبد العاطي وجهاز الكفتة، وقد اختصر كل الطموحات كما جسد كل العلل، على كل المستويات، التعليمي والفكري والهيكلي والإعلامي، فقد كنا بإزاء شخص غير مؤهل على الإطلاق، وأؤكد على الإطلاق، يتصدى بصورة شخصية أحادية لمهمة تضطلع بها هيئات بحثية كبيرة في أكثر الدول تقدما فترصد لها ميزانيات ضخمة وباحثون متخصصون بحق في المجالات المطلوبة، ثم يأتي بهذا الجهاز المسخرة فيتم ترقيته لرتبة لواء وتتبناه المؤسسة العسكرية حتى نجح في الضحك على السيسي شخصيا… وقد هلل الناس، في هزيمتهم وجهلهم وغياب الفكر النقدي لديهم، لهذا الهراء، فهذه هي الفرصة التي كانوا ينتظرونها والدليل على أننا تخطينا الفجوة التاريخية بيننا وبين الغرب فما الذي حير الغرب وأعياه؟ «الإيدز» نحن سنعالجه، أفضل منهم وقبلهم، وسيأتوننا صاغرين ليتعلموا منا ويتعالجوا لدينا. لكن دائرة الجنون تكتمل حين نرى أطباء وأساتذة في كليات الطب يتحمسون لهذا الهراء!
نحن جميعا مهزومون، نبحث عن الشيء نفسه… ربما كان الفارق الرئيسي، وهو ما يفسر حقيقة تلك الحدة المميزة مع التيارات الإسلامية، تتمثل في الرفض أو ما قد نسميها القطيعة الفكرية بين الإسلام السياسي والغرب، فكرا ومضمونا، كما أنهم بصياغتهم لفكرة «أستاذية العالم» صاروا البوق لهذه النزعات والأشواق الغامضة النابتة من أرضية الهزيمة، إلا أن السواد الأعظم مشارك فيها. حتى ثورة يناير/كانون الثاني رأينا فيها إبهارا للعالم، أستاذية، وعمدها البعض كأهم أو أكبر ثورة في التاريخ، كأن الثورتين البلشفية والإيرانية كانتا لعب أطفال!
لا شك أن الطفرات النوعية ممكنة في التاريخ، لكن يلزمها العمل والعلم والتنظيم، والأهم من ذلك تبني الفكر النقدي والتخلي عن أوهام الريادة والأستاذية وإخراج لساننا للغرب وردم الفجوة بالفهلوة لصالح البحث عن حلول إنسانية لمشاكل حقيقية.
كاتب مصري