عام 2017، وتحديداً في شهر أيلول/سبتمبر، انتهى حصار مدينة دير الزور السورية، بعد قرابة ثلاث سنوات من المعارك الشرسة بين القوات الحكومية وتنظيم الدولة الإسلامية. كانت الفرق التطوعية الإغاثية والإنسانية على رأس الداخلين للمدينة فور فك الحصار، ومعهم الشاب محمد الذياب، وكان عمره حينها 22 عاماً تقريباً، ومتطوعاً في فريقي الإسعاف والإعلام مع منظمة الهلال الأحمر السوري.
«كيف بدي أوصف المشهد اللي شفته؟ ما في معالم. المدينة وأحياؤها كلها كانت دون أي معالم. مجرد دمار» يقول الذياب وعيناه يملؤهما خليط من الحزن والألم.
تلك اللحظة، على قساوتها، كانت محرّكاً مباشراً للشاب، وهو خريج كلية الهندسة الميكانيكية، ليطلق مشروعاً يهدف لتوثيق ما بقي من تراث مدينته المدمرة، ومختلف أوجه الحياة فيها، وللتعريف بالشكل الذي كانت عليه، ومعالمها التي طُمست بفعل الحرب. «أنا أنحدر من مدينة جميلة، غنية بالتاريخ والتراث وزاخرة بالعادات والتقاليد، وعشت فيها طفولتي وجزءاً من شبابي. حين رأيت ذلك المشهد المهول من الدمار، عرفت أن هناك واجبا ودينا عليّ أن أسدّه تجاه دير الزور» يحكي الشاب لـ»القدس العربي» أثناء لقاء في أحد مقاهي العاصمة دمشق.
آلاف المتابعين من الدير وخارجها
نهاية عام 2019، أصبحت الفكرة مختمرة تماماً في ذهن الذياب، فأطلق مشروع «دير غراف» بشكل أساسي على منصتي فيسبوك وأنستغرام، واشتق الاسم من جمع كلمتي «دير الزور» و»التصوير الفوتوغرافي» مع كونه يعمل في مجال التصوير والتصميم الغرافيكي، كما أنه حرص على البحث عن اسم يمكن للمتابعين حفظه بسهولة وربطه بالمدينة نفسها. ومرّ المشروع بمراحل عدة كما يشرح: «بداية، كنت أسير أنا وكاميرتي في جولات تصوير في أنحاء المدينة، وأحاول توثيق ما أجده من تفاصيل جميلة فيها، كصناعة حلويات الكليجة الديرية الشهيرة، أو خبز التنور، أو طبقي البامية والكباب الديريين، أو الأماكن كالمساحات الخضراء حول المدينة، أو حتى ما بقي من الجسر المعلق الذي تعرض بمجمله للدمار، وطبعت بعض هذه الصور وصرت أعرضها للبيع في محل تجاري صغير داخل المدينة».
انتقل الشاب بعد ذلك، مستفيداً من تطوير مهاراته في مجال التصميم، خلال فترة الحجر الصحي عام 2020، إلى مستوى مختلف من تقديم المحتوى والتفاعل مع الجمهور، الذي كان عدده يتزايد بشكل مطرد مع انتشار الصفحة تدريجياً داخل المدينة وخارجها.
«خدم التصميم عدة أهداف في آن معاً، فمن جهة، أستطيع من خلاله محاكاة أماكن وتفاصيل لم تعد موجودة بسبب الدمار، ويصعب الحصول على صور أرشيفية أو بدقة عالية لها، بسبب ندرة المصادر ذات الصلة، ومن ناحية أخرى، يمكّنني من تقديم منشورات تفاعلية وغير جافة، أرى أنها تحظى باستحسان كثير من المتابعين» وكأمثلة عن هذه المنشورات، تلك التي تشرح معاني بعض الكلمات باللهجة الديرية المختلفة بشكل ملحوظ عن لهجة كثير من المدن السورية الأخرى، أو التي تسرد أجزاء من تاريخ المحافظة، وتعرّف بشخصياتها المغيبة عن الحضور الإعلامي.
«أحد أهم دوافعي لإطلاق المشروع كان تعريف الجيل الجديد المنحدر من دير الزور بتاريخ محافظته التي لم يتسنَّ له الحياة فيها لوقت طويل، والتصدي لكثير من المعلومات المغلوطة التي تنتشر حولها على مواقع التواصل» يقول الذياب، ويضيف بأنه يستعين بعدد من المصادر، على رأسها المواقع السورية المختصة بالأرشفة والتاريخ، وكبار السن من المدينة خاصة والديه وعائلته، والكتب القديمة.
ويلاحظ الذياب انتشار مشروعه بشكل أساسي بين الشباب، والمغتربين «يخبرونني بأنهم سعيدون لأنني أذكّرهم بتفاصيل غابت عنهم، أو أعرّفهم بها للمرة الأولى كونهم من فئة عمرية صغيرة». أما المتابعون من خارج المدينة، فمعظمهم يهتم لما تقدمه المنصة مع كونها من المنصات القليلة المشابهة على مواقع التواصل، والتي تعرّف بدير الزور بشكل بعيد عن النمطية المعتادة.
وحتى بالنسبة للذياب، فإن المشروع وما يرافقه من أنشطة تصوير وتصميم ونشر، يذكّره بكل الأماكن الجميلة في مدينته، التي يشتاق إليها اليوم بشدّة. «أكثر ما أحن إليه هو الجسر المعلق، الذي اعتدنا الذهاب إليه والمشي عليه وبمحاذاته ونحن صغار، وكذلك شارع سينما فؤاد، وهو مرتبط لديّ بعشرات الذكريات الجميلة» يضيف بلهجة يشوبها الكثير من الحنين.
صورة «غير مألوفة» عن المدينة
بداية، كان الذياب يشعر بنوع من الخجل أو عدم الثقة عند الكتابة والنشر بلهجة أهل دير الزور، خاصة أنها قد لا تكون مفهومة لكثير من السوريين، أو محط سوء تقدير من بعضهم.
«لكن الأمر تغير تماماً بمرور الوقت، وصار المتابعون يطالبونني بالمزيد من المنشورات، التي تتحدث بلهجتنا وتعرّف بها، وصارت لديّ سلسلة تحت وسم #بالديري». ومن آخر ما نشر ضمن هذه السلسلة صورة تشرح معنى كلمة «كحّز» أي «افسح لي» وأخرى عن كلمة «مشنطل» أي «ما يسيل من الشيء» ومجموعة صور عن المصطلحات المستخدمة في المطبخ الديري مثل «الجيدان» أي الإبريق، و«الطبشي» أي الصحن، «الجمجة» أي المغرفة.
التفاعل الذي يحصده الشاب اليوم على منصته بات محفزاً له لتقديم المزيد كما يقول، خاصة وأنه لمس دوراً إيجابياً لها في تقديم صورة جميلة عن دير الزور.
يضيف: «للأسف كثر كانت لديهم صورة مغلوطة عن الدير والديريين. يعتقدون بأن مدينتنا هي مجرد صحراء، وبأننا نعيش في خيام، وليس لدينا أي نوع من التعليم أو الثقافة، وحتى سذّج يمكن مغافلتنا بسهولة، وللأسف فإن بعض الأعمال الدرامية كرّست تلك الصورة النمطية. اليوم أعرف بأنني أساهم، سواء من خلال المشروع أو التعامل اليومي مع الناس خارج مدينتي، في التعريف بالوجه الحقيقي للدير، التي عرفت دور السينما والسيارات والكثير من أوجه الحضارة منذ عقود، وبأن يكون اسمها متداولاً بطريقة مختلفة على مواقع التواصل، وبألا تبقى مجرد شيء غريب وبعيد بالنسبة لشريحة واسعة من السوريين».
أسأله في نهاية اللقاء عما تعنيه فكرة «التراث» بالنسبة له، فيجيب دون تردد: «هو هويتي. ما هي قيمتنا دون هويتنا؟ أنا أفتخر بكل ما له علاقة بدير الزور، خاصة وأنا مقيم اليوم خارجها. لذلك وضعت في وصف الصفحة: كل ما هو جميل في دير الزور».
كاتبة سورية