كان الشعر العربي وما يزال واجهة نطل من خلالها على جوانب مهمة من حياة الإنسان وتفاعلاته، هو سجل لتاريخ الأمة في تطورها؛ بدءا من الوقوف على الأطلال وحديث الناقة والخيل، مرورا بالمدنية وتطور نُظم الحكم، إلى درجة أنه مازال يغرينا بكلماته الرنانة، لندخل عوالمه التي لا تنتهي.
وقراءة الشعر العربي والإقبال عليه؛ في حد ذاتها، مغامرة وفي الآن ذاته، لذة من أجل اكتشاف أسراره وخباياه؛ وهي عملية تختلف من شخص لآخر؛ بين قائل أن الدافع هو تذوقي ـ موسيقي، وآخر يرى أن قراءته تنمي رصيد متلقيه المعرفي وتضيف ألفاظا ومعاني أخرى لخزانه اللغوي، ورأي ثالث يعتبر قراءة الشعر تنفيسا له، لما ينتابه من أحاسيس تجاه أمر ما، بل ما يكتنفه من أحوال يتجاذبها الخير والشر والحب والألم، إلخ.
فالشعر لغة ثانية تبتعد عن لغة النثر، إنها إنتاج المعنى بطريقة جذابة ومثيرة للعين والعقل، حيث تأسرنا لمتابعة تردد الكلمات في شكلها الأفقي؛ إذ الوزن والقافية يتعاقبان على طول المنتج الشعري. فتفرد الشعر بلغة الوزن والقافية، هو أحد مدخلات القراءة؛ إنه انبهار بلغة مجازية إيقاعية، تبتعد عن نمطية القول العادي والكلام النثري، حيث تضيف تلك الموسيقى لذة أخرى وجمالية آسرة، لا نجدها إلا في الشعر أو القصيدة ذات المصراعين. فحاجتنا النفسية إلى إيقاع شعري ممُوَسق ومتزن بميزان البحور الخليلية، تجعلنا نهرول إلى القصيدة بحثا عن شيء جامد فينا يحركه الشعر بكل مكوناته اللفظية والدلالية، فهو ممتع في قراءته لأنه موسيقي بشكل عام. كما أن الصورة الشعرية وما يطبعها من ميزات تعتبر عاملا آخر يغري المتلقي للاستمتاع بقراءة الشعر فـ: الرمز، والاستعارة، والتشبيه، والمجاز، والكناية، هي ملح القصيدة وزينتها؛ فهي تقوم على تشبيه الأشياء وتمثيلها في العقول والأذهان، عن طريق التصوير الفني، حيث يتحقق مبدأ التخييل، وما يطبعه من تأثير وتأثر وانفعال أمام المتلقي وهو يقرأ القصيدة. فالشعر يقربنا من الأشياء المحيطة بنا بطريقة تشكيلية رائعة، ما يجعلنا نعيد النظر في مكوناتها وخصوصياتها، فهو فرصة سانحة للإحساس بما يحيط بنا. فنحن نعايش مجموعة من الأشياء ونتفاعل معها بشكل يومي، لكن الصورة الشعرية توقظ فينا، بل تنبهنا إلى قيمة تلك المعطيات بطريقة مغايرة. فقول المتنبي:
إذا نظـرت نيوب الليث بارزة فلا تظنـن أن الليـث مبتسـم
هي صورة ناطقة تجمع بين قوة التعبير وبلاغة التصوير، وتأخذنا إلى عالم القوة والشجاعة والحذر والابتسامة أمام الآخر مهما كانت خلافاتك معه. فالقراءة الأولى للشعر لا تبيح لك بأسرارها، بل إدامة النظر وإمعان الفكر سيدخلانك عوالم أخرى. وتبقى النظرة السطحية؛ كالناظر إلى لوحة فنية، بدون أن يتمكن من فك مغاليقها وخباياها. عكس ذلك فالعارف بسرائر التشكيل سيكتشف ما لم يكتشفه الإنسان العادي، من حيث الألوان والظلال والعمق الفراغي، وهذا لن يتأتى إلا إذا تسلحت بمعرفة قبلية عن القصيدة والكلمة الشعرية، وتثقفت خبايا المعرفة البيانية. كما أن حاجتنا إلى التخييل والبعد عن حقائق الواقع وروتينيته، بل جمود بعض من علاقتنا الإنسانية التي يطبعها الفتور في أحيان كثيرة، تجعلنا كَلِفين بالإقبال على الشعر، إنه متنفس من نوع آخر؛ إنه حقا يحرك القوة المخيلة عندنا.
وقد يكون الالتجاء إلى الشعر هروبا من هول الواقع، ونمطية الكلمة، إلى مجازية التعبير ورمزيته. إنه مجاراة لعالم الشاعر وبحث عن حقيقة ضائعة في دواخلنا، بل واكتشاف لبعض من حقيقتنا. فقد كان الشعر سحرا يضاهي سلاح السيف والسهم، وإعلانا بدخول القبيلة المحدودة الجغرافية نادي عكاظ ومدونة المعلقات؛ حيث المجال كان يسمح بالإشهار والإعلان والفخر والافتخار، ليصير الشاعر المجيد لسان قبيلته، وحديث الألسن في ربوع الجزيرة العربية آنذاك. وهي درجة لم يخفت صداها عبر العصور المتتالية، بل إن وادي عبقر ما انفك يتردد بطريقة أخرى، لايزال فيها الشاعر الماهر متميزا وقراءة شعره تتردد في أزمنة وأمكنة متعددة.
كما أننا نقرأ الشعر لأننا نعتقد أن الكلمة لها فعلها ووقعها السحري وأسرارها على أذهاننا وأحاسيسنا ومشاعرنا. فللشعر حِكم لا تنتهي، وخصوصا الأشعار الجيدة، وقد صدق النبي في الحديث المثبت في صحيح البخاري، عندما قال «إِن مِنَ الشعْرِ حِكْمَةً». وهي حكمة قد يستحضرها الإنسان في طلب حاجة، أو يستشهد بها آخر في الدفاع عن رأي أو دحض حجة. ولا غرابة إذا وجدنا أن النحاة والنقاد واللغويين، استعانو بالشواهد الشعرية في تقعيد اللغة؛ فالشعر العربي شكّل، على مر العصور، إطارا مرجعيا لكل المهتمين باللغة وأسرارها.
فقراء الشعر يختلفون ويتمايزون؛ صحيح أن القصيدة عندما تخرج إلى سوق التداول والتفاعل، تصبح ملكا لمن يقرؤها، لكنها قراءة تتباين من شخص لآخر؛ فالمتلقي الخبير بأحكام الشعر وقواعده، يرى ما لا يراه القارئ العادي أو الظرفي.
معطى آخر ومهم ينبغي استحضاره ذلك المتمثل في أن قراءة الشعر لن تأخذ منحاها العلمي والمعرفي، إلا إذا فهمنا معنى الشعر وأدركنا معنى القراءة في الآن نفسه. فهي ليست مسألة فنية تذوقية وحسب، بل هي أكثر من ذلك، قضية ثقافة وحضارة ضاربة في القدم، تمكننا من معرفة الطريقة التي كان يتعاطى بها الإنسان مع دورة الحياة، وقد توقظ فينا على الأقل إحساسا جميلا بالشعر وذلك أهم سر نحيط به علما.
كاتب مغربي
الشعر العربي تاريخ وعبر وأسرار