أسرار العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا

على الرّغم من هذا الزّخم الهائل الذي يطبع العلاقات بين إسبانيا والمغرب، والبريق اللمّاع الذي يضيئها في مختلف المرافق، والقطاعات، وحتى لا ننأى عن الواقع في هذا الطّرح فإنه ينبغي لنا ألاّ ندير ظهورَنا لقضايا أخرى ثنائية هامّة عالقة، وإكراهات مُؤرقة ما زالت تثقل كاهلنا، وتواجهنا بإلحاح، ولا ينبغي لنا نسيانها أو أن نتّبع حيالها سياسةَ النّعامة في إخفاء رؤوسنا تحت الرّمال، وعدم رؤية الواقع الحقيقي الذي نعيشه. من هذه القضايا:

الصّحراء المغربية

تحتلّ قضيّة الصّحراء المغربية – كما هو معروف – مكان الصّدارة في السياسة المغربية على الصعيديْن الداخلي والخارجي، ومع وصول الحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني إلى الحكم لابدّ أن يأخذ المغرب زمام المبادرة في البحث عن الوسائل الناجعة، والآليات الكفيلة للحفاظ على المكتسبات الهامة التي حققها على الصّعيد الدولي، وعلى مستوى العلاقات الثنائية التي تربطه مع جارته الشمالية إسبانيا حول مختلف القضايا الحيويّة ذات الاهتمام المشترك، وبشكل خاص حول موضوع قضيّة مطالب المغرب في استكمال وحدته الترابية في صحرائه، خاصّة وأنّ الحزب الاشتراكي الحاكم حالياً الذي أتخذ زمام المبادرة للإطاحة بحكومة الحزب الشعبي لا يتوفر سوى على 84 مقعداً في البرلمان الإسباني في الوقت الراهن، والحالة هذه قد يجد رئيس الحكومة الجديد (بيدرو سانشيس) نفسه مضطرّاً لمحاباة الأحزاب اليسارية، والقومية، والانفصالية التي ساعدته، وساندته في الوصول للحكم من أجل تنفيذ برنامجه الحكومي، وتمرير ميزانية الدولة، وفي طليعة هذه التجمّعات الحزبية الإسبانية حزب «بوديموس» (نستطيع) ذو الميول اليسارية الذي يرأسه الراديكالي بابلو إغليسياس، وسواه من الأحزاب اليسارية الأخرى المعروفة بعدم تفهّمها لمطالب المغرب.

سبتة ومليلية

المدينتان المغربيتان السّليبتان سبتة ومليلية، والجزر الجعفرية، وصخرة النكور، والجزر الصغيرة المحاذية لشاطئ «الصّفيحة» بأجدير (قرب الحسيمة)، وجزيرتا بادس، وليلى تورة كلها ما زالت تذكّرنا عند إنبلاج كل صباح بأنّه ما زالت هناك قضايا تاريخية جادّة عالقة، ومواضيع ثنائية هامّة شائكة بين البلدين تمسّ السّيادة الوطنية في الًّصّميم. وكلّما أُثِيرَ الحديث عن هذه القضية يقفز إلى أذهاننا على الفور البيت الشعري المبثوث في كتاب «أزهار الريّاض في أخبار القاضي عياض» والذي يقول الشاعر فيه عند تحيته لمدينته سبتة: (سلامٌ على سبتة المَغربِ / أُخَيَّةَ مَكّةَ ويثربِ). مداخل ومخارج العبور من وإلى هاتين المدينتين خيرُ مثال على الوجه الآخر للشّعور بالحَسْرة الذي يتغلغل في نفس كلِّ مواطنٍ عندما يَعْبُرُهما ذهاباً أو إيّاباً، هذان المعبران يفصلان بقعةً جغرافيةً واحدةً متماسكة، ويشطرانها شطرين تنشطر معهما أهواءُ السكّان الآمنين، وتتضاعف معاناتُهم، وتطلعاتُهم لعناق إخوانهم في الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة، أوالأسوارالعالية التي تفصل بينهما في زمنٍ تهاوت وتداعت فيه كلّ الجُدران مهما كان عُلوُّها وارتفاعُها.

الغازات السامّة في الرّيف

هذا وقد أصبح موضوع استعمال إسبانيا للغازات السامّة، والأسلحة الكيميائية المحظورة في حرب الرّيف يُثار بإلحاح في المدّة الأخيرة داخل المغرب وخارجه، بل إنّه أمسىَ يُثار حتى في إسبانيا نفسها، وكان قد تعرّض له وزير الخارجية الإسباني السّابق (في حكومة راخوي)، فهل في مقدور الجارة الأوروبيّة اليوم – على عهد الحزب الإشتراكي المُستلم لدفّة الحكم الذي طالما أدان زعماؤه التاريخيّون هذا الاعتداء الغاشم- الإقدام على اتّخذ خطوة تاريخية جريئة للمصالحة النهائيّة مع ماضي إسبانيا المُعتم بتقديمها اعتذارٍ شجاع للشّعب المغربي بشكلٍ عام، ولأهل الرّيف على وجه الخصوص، أيّ للمتضرّرين الفعلييّن، من السكّان الآمنين، وتعويضهم إنسانيًّا، وحضاريّاً – حسب ما تمليه القوانين الدّولية في هذا القبيل – عن هذه الجريمة النكراء، وقد أصبح هذا الموضوع الحيوي يستأثر بحدّة بإهتمام المثقفين والرّأي العام المغربي والمتعلق بالتظّلم المُجحف، والأضرار الجسيمة التي حاقت بالعديد من الأسر التي ما زالت تُعاني في مختلف مناطق الرّيف من الآثار الوخيمة لـ(أوبئة السرطان اللعين) التي خلفتها جريمة استعمال هذه الأسلحة الكيميائية الفتّاكة من طرف إسبانيا بعد الهزائم المنكرة التي تكبّدتها في حرب الرّيف التحرّرية الماجدة ؟

الجالية المغربية

يقارب عدد الجالية المغربية المقيمة في إسبانيا في الوقت الراهن المليون نسمة، وهي ما فتئت تعاني من ضائقة خانقة في خضمّ الأزمة الاقتصادية التي تعيشها إسبانيا اليوم، والتي تنعكس سلباً عليها وعلى الجالية العربية المقيمة في هذه الديار والتي أصبحت عرضة للتسريح المجحف. وحسب الخبراء فإنّ الحلول لا تبدو في الأفق القريب، نظراً لإنعدام تواصل هذه الجالية مع النّخب السياسية الإسبانية، وعدم توفّر وسائل الدفاع عنها وعن حقوقها، وقد دفعت هذه الأزمة الحكومة الإسبانة السابقة إلى المصادقة على قانون جديد للهجرة غيرِ مُنصفٍ بالنسبة للمغاربة، مقابل السياسة التفضيلية التي يحظى بها مواطنو بلدان أمريكا اللاتينية في هذا القبيل.
والحالة هذه ينبغي للمغرب أن ينظر مع المسؤولين الإسبان الجدد بعين الاعتبار إلى هذه الوضعية الصّعبة التي أصبحت تعاني منها هذه الجالية لمعالجة مثل هذه القضايا، وتحسين ظروفها.

الهجرة غير الشرعيّة

ولا شكّ أنّ موضوع تدفّق الهجرة غير الشرعية نحو إسبانيا كان من أولى الإهتمامات في محادثات الرئيس الإسباني بيدرو سانشيس مع المسؤولين المغاربة خلال زيارته للمغرب حيث بلغ عدد المهاجرين خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الجاري نحو إسبانيا 55 ألفا و 949 مهاجرا، وعلى الرّغم من الجهود التي بذلت في هذا المجال لوضع حدٍّ لهذه المعضلة التي تفاقمت بشكل مهول في المدّة الأخيرة، ما فتئت التساؤلات تطرح عن الإجراءات التي إتّخذها أو ينوي اتخاذها المغرب لإيجاد الحلول العاجلة لمواجهتها حيث إتّخذت من المغرب ممرّاً، ومقرّاً، ومستقرّاً لها من مختلف الجهات، ماذا تمّ حتى الآن في هذا القبيل لمواجهة هذا الزّحف الذي أمسى ينذر بعواقب قد لا تُحمد عقباها على المدى القريب في مختلف الواجهات الأمنية، والإرهابية، والاجتماعية، والإنسانية، والصحّية وسواها..؟ خاصّة بعد أن إتّضـح:
«إنّ المغرب يتجه إلى تغيير راديكالي في سياسة الهجرة واللجوء بعد المبادرة التاريخية التي أطلقها الملك محمد السادس لملاءمة القوانين والتشريعات الوطنية حتى يتسنّى للمهاجرين الذين استقرّوا في المغرب الإستفادة من جميع الخدمات مثلهم مثل أيّ مواطن مغربي».

محنة الموريسكييّن

إشكالية طرد «الموريسكيّين» الأندلسيّين المسلمين «المُهَجَّرين» قهراً وقسراً من مواطنهم بإسبانيا، والذين استقرّ معظمُهم في المغرب، وفي الجزائر وتونس، ما فتئت تثيرغير قليل من التساؤلات، (معروف أنّ العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل سبق له أن قدّم إعتذاراً لليهود (السيفارديم) الذين أُبْعِدُوا من إسبانيا، ولم يقم لا هو، ولا خلفُه العاهل الإسباني الحالي فليبي السادس بالمبادرة نفسها التاريخية حتى الآن مع المسلمين). ينبغي لإسبانيا أن تتحمّل مسؤوليتها التاريخية حيال هذ الحيف الذي لحق بهذا الموضوع الشائك. وتبذل «مؤسّسة ذاكرة الأندلسييّن» التي يوجد مقرّها في الرباط المساعي الحميدة لتسليط الأضواء على هذا الموضوع.
ولقد نظمت مؤخراً مؤتمراً دولياً (عقب الموريسكيّين والسيفاراديم بين التشريع الإسباني والقانون الدّولي) الذي إعتبرخطوة رائدة في هذا القبيل، (كان لي شرف المشاركة فيه)، حيث أزاح النقاب عن غير قليل من مظاهر التظلم الذي طال أجدادَنا في الأندلس الذين تعرّضوا لعمليات طرد جماعي منها، وما انفكّ المثقفون الإسبان والمغاربة يثيرون هذا الموضوع بلا هوادة لعلّ إسبانيا تخطو هذه الخُطوة الشجاعة حياله مثلما فعلت مع اليهود السيفارديم !. الطريق إذن على ما يبدو بين البلدين، ليس طريقاً مفروشاً بالزرابي المبثوثة بل تعلوه كذلك مطبّات، وفجوات ينبغي تذليلها، وتجاوزها، والتغلّب عليها بإرادة سياسية قويّة، وحكمةٍ ورزانةٍ، وتبصّر بين البلدين.

كاتب وباحث من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية