بعد إقرار أحزاب الإجماع الصهيوني في الائتلاف والمعارضة، الأسبوع الماضي، قانونا يتيح لوزير الداخلية الإسرائيلي سحب جنسية أسرى من القدس ومن داخل الخط الأخضر وطردهم إلى مناطق السلطة في الضفة وغزّة، يبرز بشكل أوضح أن حدّة الانقسامات الداخلية في إسرائيل، مهما بلغت، لا تمس شراسة العداء للشعب الفلسطيني، ولا تطال لبّ التوجهات العنصرية السائدة في الدولة الصهيونية. ويتضح مرّة أخرى أن مسألة الجنسية هي محور الأبرتهايد الإسرائيلي، القائم على قاعدة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، وأنّ التعامل معها مشتق من كوابيس الديموغرافيا ومن هواجس الخوف من الضحية ومن رؤية كل فلسطيني خطرا على الأمن، ما لم يثبت العكس. أمّا استهداف الأسرى المحرّرين، بفرض عقوبات إضافية عليهم، فينبع من رغبة في الانتقام، ويندرج ضمن محاولات نشر الرعب وصناعة الردع، علما أن الإبعاد بالنسبة للفلسطيني لا يقل وطأة عن السجن.
القانون الجديد وما سبقه
صوّت إلى جانب القانون الجديد 94 عضو كنيست من الأحزاب الصهيونية، بما فيها أحزاب المعارضة (حزب العمل لم يشارك في التصويت) وعارضته الأحزاب العربية فقط. ومرّ القانون، بعد تحفّظ المستشارة القضائية للحكومة منه، رغم الصراع المستشري بين الائتلاف والمعارضة حول طبيعة النظام الإسرائيلي. ولعل أكثر ما يوحّد الإسرائيليين، في هذه الأيام العاصفة، هو العداء للعرب وللشعب الفلسطيني، فلهذا العداء دور وظيفي في بناء الأمّة وهندسة كيانها وصيانة تماسكها. ويبدو أن الاحتفال العربي والفلسطيني بتفكّك إسرائيل كان احتفالا مبكّرا سابقا لأوانه، فعوامل الالتحام في مواجهة «العدو الخارجي» ما زالت أقوى من مفاعيل التنافر والتشرذم الداخلي.
أكثر ما يوحّد الإسرائيليين، في هذه الأيام العاصفة، هو العداء للعرب وللشعب الفلسطيني، فلهذا العداء دور وظيفي في بناء الأمّة وهندسة كيانها وصيانة تماسكها
في مستهل نص القانون جرى تسطير الغرض منه وهو «تحديد إجراء خاص لإلغاء الجنسية أو الإقامة الدائمة والإبعاد عن إسرائيل لمن حكم عليه بالسجن الفعلي بعد إدانته بارتكاب عمل إرهابي، وهناك إثبات بأنّه يتلقى مكافأة ماليّة من السلطة الفلسطينية أو من ينوب عنها. ملابسات كهذه تدل على انتماء الشخص إلى السلطة الفلسطينية، التي بدورها تتصرف كأن هذا الشخص هو جزء منها، ما يمنح شرعية لقطع صلته بإسرائيل وإبعاده إلى مناطق السلطة الفلسطينية». هذه هي الطريقة الإسرائيلية للتحايل على القانون الدولي، الذي يحرّم بشكل قاطع سحب الجنسية وترك الإنسان بلا مواطنة. سحب الجنسية ليس جديدا في القانون الإسرائيلي، فقد نصَّ تعديل قانون الجنسية عام 1980 على «حق» وزير الداخلية في إلغاء الجنسية على أساس «خيانة الأمانة للدولة»، وادعت إسرائيل لاحقا، في تقرير قدّمته للأمم المتحدة عام 1998، أن هذا بند ميّت وليس للاستعمال. وفي عام 2008، جرى إدخال تعديل جديد ينص على أنه يمكن للمحكمة، بناء على طلب وزير الداخلية، أن تلغي جنسية مواطن على خلفية خيانة الأمانة بالتورّط بأعمال «إرهابية»، ولكن القانون منع سحب إقامة إذا لم تتوفّر للشخص المعني مواطنة بديلة. ومن أجل استهداف الدكتور عزمي بشارة (الذي اضطر إلى العيش في المنفى بعد تلفيق تهم خطيرة ضده) شخصيا أضيف بند بأن من يعيش في الخارج لسنوات، يعتبر كمن حصل على جنسية وإقامة في بلد آخر. وجرى بعد ذلك تغيير القانون مرّة أخرى، في عام 2017، لاستهداف الدكتور عزمي بشارة أيضا، وسُمح ببحث موضوع سحب الجنسية غيابيا، وأطلق على التشريع الجديد اسم «قانون عزمي بشارة». في عام 2011، سنّت الكنيست قانونا يسمح للمحكمة بإضافة عقوبة سحب الجنسية على العقوبة المفروضة على المدانين بارتكاب أعمال «إرهابية». أما بالنسبة لأهالي القدس، فهم بغالبيتهم الساحقة لا يحملون الجنسية الإسرائيلية، ومكانتهم القانونية هي إقامة دائمة، وينص القانون الإسرائيلي على أن أهل القدس الشرقية «دخلوا إلى إسرائيل» عام 1967، وإقامتهم قائمة ما داموا يعيشون في المدينة، ويمكن سحبها إذا «خرجوا من إسرائيل» لبضع سنوات. كما يمكن إبعادهم كما جرى مع أعضاء المجلس التشريعي ومع الكثير من المقدسيين. ما الجديد إذن في القانون الجديد؟ النص الجديد يربط بشكل خبيث بين سحب الجنسية أو إلغاء الإقامة وبين تلقّي دعم مالي من السلطة الفلسطينية، بالادعاء الأعوج بأن مجرد تلقي الدعم يعني انتماء إلى مناطق السلطة وليس إلى منطقة إسرائيلية. والجديد والخطير هنا هو تنظيم إجراءات طرد أسرى القدس والداخل المحرّرين. بموجب القانون عمليا، يصبح وزير الداخلية الإسرائيلي مجبرا على الشروع بإجراءات سحب الجنسية لأسرى الداخل والقدس، وإذا لم يفعل ذلك فعليه، حسب القانون، أن يقدّم شرحا مقنعا للجنة الداخلية في الكنيست، لماذا لم يقم بإجراء الطرد رغم توفّر الشروط اللازمة.
الأسرى والإبعاد
حظي القانون الجديد بإجماع صهيوني، وهذا يدل على أنّه مدعوم أيضا من الأجهزة الأمنية، حتى لو تحفّظت عليه المستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية. ومن سنّوا القانون وصوّتوا عليه يعرفون تماما مدى حساسية قضية الأسرى بالنسبة للشعب الفلسطيني، وهم يعرفون أيضا أن طرح قضية الإبعاد والطرد هو رش الملح على الجرح الفلسطيني المفتوح. القضية أيضا هي أن الإبعاد هو فرض عقوبة إضافية على من قضوا في السجن سنين طويلة وأحيانا عشرات السنين، وهي بالنسبة للفلسطيني لا تقل وطأة عن السجن. إسرائيل تعد لمعركة جديدة ويجب الاستعداد لمواجهتها، وهي لن تتراجع إلّا إذا تيقنت بأن الشعب الفلسطيني سيهب لنجدة أسرى الحرية، ولن يسمح للدولة الصهيونية أن تستفرد بهم وتستهدف حقوقهم وظروف حياتهم، سواء داخل السجون، كما يصرّح وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، أو بعد خروجهم من السجن، مثلما جاء في قانون إبعاد الأسرى وسحب جنسيتهم وإقامتهم. المقلق حقّا أن هذا ليس قانونا بيانيا شعبويا فحسب، بل هناك نوايا وخطط بالبدء في تنفيذه، خاصة في ظل طغيان التوجهات اليمينية والاعتبارات الأمنية والهواجس الديموغرافية والسياسات الشعبوية. والمقلق أكثر، وفي ظل هذا الطغيان، هو أن بابا جديدا فُتح هو باب الإبعاد وسحب الجنسية، وتبعا لما يجري في إسرائيل فمن المؤكّد أن تأتي قوانين أخرى تضع شروطا جديدة ومبتكرة للإبعاد وسحب الجنسية. فقد طرحت في الماضي أفكار كثيرة في هذا الاتجاه، ومن الممكن أن تتحول قريبا إلى قوانين في ظل الإجماع المعادي للفلسطينيين. من هذه الأفكار مثلا سحب جنسية من لا يعترف بإسرائيل دولة، وإلغاء مواطنة من لا يعترف بها دولة يهودية، وربط المواطنة بالولاء للدولة وغير ذلك. وعليه فإن الوقوف ضد الموجة الحالية هي حماية من الهجمات المقبلة.
المواطنة والبقاء
لم يختر فلسطينيو الداخل المواطنة الإسرائيلية، ولم يستشرهم أحد في أمرها. هي فرضت عليهم بعد نكبة 1948، وكان عليهم أن يتمسكوا بها لأنّها شرط البقاء في الوطن. في البداية حاولت إسرائيل التملّص من موضوع منح الفلسطينيين الموجودين في الأراضي التي احتلتها عام 1948، ولكن الأمم المتحدة أجبرتها ووضعت ذلك شرطا لقبول عضويتها. والآن تقوم الدولة الصهيونية بطرح موضوع المواطنة من جديد في سياق الإبعاد، إبعاد الأسرى حاليا وآخرين لاحقا. القانون الجديد يمس مباشرة المئات، بل الآلاف من الفلسطينيين والفلسطينيات في القدس والداخل، وهو يقع ضمن الهجمة الشرسة على سجناء الحرية وعلى حقوقهم ومكتسباتهم، ويندرج في إطار استهداف المقدسيين وفلسطينيي الداخل، القضية هنا هي قضية الشعب الفلسطيني كلّه وهو قادر وجاهز للذود عن أسرى الحرية والدفاع عن البقاء والصمود في وجه قوى الاضطهاد الصهيوني.
كاتب وأكاديمي فلسطيني
شكرا جمال، على إضاءة مشهد مخجل ومنتهك لحق الحياة في الوطن، والإحتلال والإستيطان والعنصرية والفاشية ، يتفنن في هندسة محاكم وقوانين ضد الحقوق والحريات الأساسية للواقعين تحت الإحتلال،
بموجب القانون الدولي الإنساني .
لا حرمنا الله قلمك الرائع الحر