أسس الدولة الديمقراطية

تمر دول عربية عدة حاليا بثورات، تهدف كلها إلى إقامة حكم مدني ديمقراطي، السودان والجزائر هي الدفعة الأولى من دول الربيع العربي الثاني، والتي ستشمل عاجلا أم آجلا الأرض العربية كافة، فالثورات المضادة رغم عنفها المفرط وقوتها والدعم الأجنبي، لن تغير تاريخ المنطقة السائر باتجاه الحرية والالتحاق بركب الحضارة العالمية.
هل الديمقراطية وهي الهدف المعلن لهذه الثورات، ستؤمن لدولنا بالمستقبل الرخاء والعدالة والحرية؟

الثورات الاجتماعية

لو درسنا الثورات الاجتماعية بالدول الأخرى، بكل قارات الأرض، لرأينا أن نجاح الديمقراطية لا يعني نجاح النموذج السياسي المطروح، وهو ما يهدد دائما بعودة الاستبداد تحت أشكال وبمظاهر مختلفة، وهذا ما نراه في روسيا بعد سقوط النظام الشيوعي، إذ رغم الانتخابات وتأسيس نظام ديمقراطي خلال سنوات التسعينيات، إلا أن الوضع الحالي لا يختلف كثيرا عن الأنظمة المستبدة.
وكذلك نرى شيئا قريباً من ذلك ببعض دول أوروبا الشرقية، ولا ننسى حروب البلقان والتي تبعت انهيار النظام في يوغوسلافيا وانشاء أنظمة ديمقراطية، وقريباً منا عودة النظام العسكري المصري بعد عام واحد من نظام ديمقـراطي حقيقـي.
ما هي إذا الضوابط التي يجب علينا وضعها لنجاح المشروع الديمقراطي؟
هي حقيقة كثيرة مثل احترام حقوق الأقليات وانهاء النزاعات المسلحة، وفتح المجال العام للنقاش الفكري وغيرها، ولكن هناك ثلاث نقاط محورية هي الأهم برأيي وهي: 1 – وضع دستور توافقي.
2- احترام قيم حقوق الإنسان كما تنص عليها الأعراف والقوانين الدولية.
3- أخيرا بناء المجتمع المدني القوي.
الدستور كعقد اجتماعي، ينبغي أن يكون توافقيا بالضرورة، وليس فقط قانون الأغلبية الحاكمة، بمعنى تعبيره عن مجمل مكونات الشعب بآرائه المختلفة وتنوعاته الثقافية والعرقية واللغوية. عدم احترام ذلك يجعل الدستور وسيلة الأغلبية لفرض سياساتها على الأقلية، وهو ما يتناقض مع السلم الاجتماعي الذي هو هدف الدستور الأول. أما تغيير الدستور المستمر، فهو دليل غياب البعد التوافقي بالأصل، أو الانحراف عن الديمقراطية، الإجماع على الدستور يعني توافقه مع رغبات الكل، بمعنى توافق شبه كامل للاتجاهات الفكرية والسياسية داخل المجتمع، وعدم ترك مجموعة من الناس على هامش الدولة، وهذا التوافق يطرح على الشعب لتبنيه باستفتاء عام.
لا يمكن لدولة ديمقراطية عريقة أن تضع دستورا ذا بُعد ديني، لأن الأديان متعددة والمعتقدات مختلفة لدى كل الشعوب، وبالتالي لا يمكن وضع دستور يحدد الهوية العرقية للدولة، لأن الأعراق متعددة، وهكذا بمجالات عديدة.

الدستور التوافقي

يرتبط بالدستور التوافقي النقطة الثانية، وهي احترام حقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا، فالمساواة بين المرأة والرجل أو حقوق الطفل والحقوق الثقافية للأقليات، واحترام حق اللجوء والعمالة الأجنبية وعشرات النقاط الأخرى، تصب كلها باتجاه ربط النظام السياسي الجديد بأواصر الحضارة العالمية الحديثة، فالحضارة الإنسانية واحدة تختلف مع الازمان، ولكنها دائما ذا صبغة عالمية.
الخلط كما حدث ببعض دول الربيع العربي الأول بين الحضارة الواحدة والثقافات المختلفة، أدى إلى ترعرع اتجاهات متطرفة عنيفة، وأفكار متخلفة تسحب المجتمع إلى الخلف تحت شعار خصوصية الحضارة العربية أو الاسلامية، بينما لا توجد هناك أي خصوصية لأي شعب مهما كان بإطار المفهوم الحضاري، بينما توجد خصوصيات ثقافية كثيرة ومهمة تساهم في تنوع المجتمعات وتزيدها تألقا وبريقا، كالأدب والبناء والتعبير الفني وغيره، ولا يمكن التمييز بحق المرأة بالإرث مثلا، أو بتولي مناصب قيادية بحجة أنه جزء من الثقافة العربية، بل هو جزء من حضارة سابقة، لم تعد موجودة حاليا بأي مكان.

من اليابان البوذية إلى البرازيل الكاثوليكية

لا توجد دولة ديمقراطية على وجه الأرض تبنت مفهوما حضاريا خاصا بها، من اليابان البوذية إلى البرازيل الكاثوليكية أو جنوب افريقيا بأعراقها المختلفة، أو دول الاتحاد الأوروبي بماضيها المسيحي وحروبها الدينية.
الدستور التوافقي المتناغم تماماً مع قيم حقوق الإنسان، لا يمكن أن يحتوي على مواد تتنافى مع هذه القيم، وهذي هي أسس أي دولة تبحث عن الثبات السياسي والاجتماعي كي تتفرغ للبناء، ولكن هذان الأساسان قد ينهارا أمام أطماع مجموعة من الناس ذوي الأهداف الخاصة، والذين يحاولون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فمن سيمنع انتكاسة كهذه، والنموذج الروسي وكذا المصري واضحان وشاهدان على ذلك.
وحده المجتمع المدني القوي، بمفهوم المؤسسات والجمعيات المنضوية تحت لوائه، والتي هي بطبيعتها خارج أطر الدولة الرسمية، هو من يملك القدرة على تأمين استمرارية النظام الديمقراطي، وإبعاد خطر الفساد السياسي أو الانحراف عن الحقوق.
المجتمع المدني الواعي يمنع المجتمع الديمقراطي نفسه، من إهمال آراء وحقوق الأقليات، ويبقيها حاضرة بالفعل السياسي والاجتماعي، مبعدة بذلك خطر ما يسمى بدكتاتورية الأغلبية.
مؤسسات المجتمع المدني، حتى بالدول الديمقراطية، تحافظ على تماسك المجتمع وتلاحمه، وتراقب عمل الدولة والأحزاب. وحده المجتمع المدني كما رأينا حاليا في حراك ثورة الشعب السوداني ومنظماته المدنية، من يستطيع تثبيت أسس الديمقراطية الواعية، التي تحترم حقوق كل مكونات المجتمع، وهي برأيي من يؤمّن ديمومة الدستور التوافقي، وينجح بربط المجتمع والدولة الديمقراطية الناشئة بالمجتمع الدولي والحضارة الإنسانية المعاصرة.

كاتب ومحلل سياسي مستقل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية