في عام 1951 نشرت الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت كتابها «أسس التوتاليتارية»، وبه قدمت تحليلا تاريخيا وسياسيا لمفهوم السلطة الشمولية المستندة من جهة إلى القمع من أجل البقاء في الحكم ومن جهة أخرى إلى نزع الإنسانية عن الدولة والمجتمع وتحويل المواطنات والمواطنين إلى حشود جماهيرية تؤيد القمع معجبة به أو توافق عليه في صمت. رأت أرندت أن السلطة الشمولية كالحكم النازي في ألمانيا ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين والذي دفعها هي كمنتمية للديانة اليهودية إلى اللجوء إلى الولايات المتحدة وكالحقبة الستالينية في الاتحاد السوفييتي السابق تسعى إلى السيطرة على عمليات صياغة الوعي العام وبناء الرأي بين الناس الذين يتحولون إلى حشود جماهيرية منمطة الرأي عبر الاستبداد بالمعلومة والترويج للحقيقة الواحدة وتوظيف الأجهزة الإعلامية والدعائية لنشر الخوف.
ومنذ خمسينيات القرن العشرين، طور البحث السياسي أفكار حنا أرندت باتجاهات متنوعة، ميز بعضها بين السلطة الشمولية التي تجسدت في النازيين والحقبة الستالينية وبين أنماط أخرى للحكم غير الديمقراطي تمارس القمع والانتقاص من الحقوق والحريات ونزع الإنسانية والسيطرة على صياغة الوعي العام بدرجات من الفاعلية والكفاءة تقل عن الحكومات الشموليات وترتبط إما بسيطرة نخب عسكرية لا تعدم أبدا الحلفاء المدنيين أو نخب مدنية تعتمد على المؤسسات العسكرية والأمنية ومعها أدوات أخرى كالمؤسسات الدينية والأحزاب السياسية والأجهزة الإعلامية لإخضاع المواطن وضبط المجتمع والهيمنة على البنية المؤسسية للدولة. ولتلك الأنماط الأخرى من الحكم غير الديمقراطي ابتدعت أدبيات العلوم السياسية مفهوم الحكومات السلطوية.
أما في عالمنا العربي، فقد قارب البحث السياسي منذ خمسينيات القرن العشرين نظم الحكم الجمهورية والملكية باعتبارها تنويعات على الأنماط غير الديمقراطية تفاوتت قدراتها ودرجات كفاءتها وتمكنت ـ باستثناء نظام صدام حسين في العراق الذي أسقطه الغزو الأمريكي في 2003 وحكم العقيد معمر القذافي الذي أنهاه خليط من الحراك الشعبي والتدخل العسكري الخارجي في 2012 ـ من البقاء طويلا. تجاوز بعض نظم الحكم العربية ثورات وانتفاضات شعبية وأزمات مجتمعية كبرى، وأحبط فرص التحول الديمقراطي التي سعت إليها الشعوب.
مصر اليوم تغوص بالكامل في مرحلة انتقام السلطوية الحاكمة من المواطن والمجتمع عقابا لهما على الخروج السلمي إلى الفضاء العام في 2011 وعلى طلب التداول السلمي للسلطة بعيدا عن الرئاسات الأبدية
وفي مصر التي بدت في أعقاب ثورة 2011 على أعتاب الخروج الكبير من غياب الديمقراطية تدفع ترتيبات الحكم القائمة منذ صيف 2013 بما تحويه من تجديد خلايا السيطرة الأمنية على الفضاء العام وعسكرة مخيلة الناس وانتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان والحريات وتشويه وعي المواطن عبر حجب المعلومات والحقائق والضغط القمعي والعقابي على أصحاب الرأي المختلف وإعادة صياغة الذاكرة الجماعية باتجاه تجريم المطالبة الشعبية بالديمقراطية في 2011 عبر المرادفة بينها وبين الفوضى وهدم المجتمع والدولة، كافة تلك الترتيبات تدفع باتجاه التمكين طويل المدى للسلطوية المحاطة بشيء من التأييد الشعبي والمرحب بها إقليميا وعالميا.
مصر اليوم تغوص بالكامل في مرحلة انتقام السلطوية الحاكمة من المواطن والمجتمع عقابا لهما على الخروج السلمي إلى الفضاء العام في 2011 وعلى طلب التداول السلمي للسلطة بعيدا عن الرئاسات الأبدية. مصر اليوم تغوص بالكامل في مرحلة تمكين السلطوية الحاكمة من إخضاع المواطن والسيطرة على المجتمع والهيمنة على مفاصل الدولة في سياق رئاسة للجمهورية لا ترد على سلطاتها قيود ولا تحدها اشتراطات دستورية تتعلق بفترات ومدد. وليس بالتعديلات الدستورية المتداولة حاليا في الأروقة البرلمانية والتي يتوقع تمريرها سريعا سوى الدليل الأكثر صراحة على عزم السلطوية الحاكمة الربط بين تمكينها وبين بقاء طويل لرئيس الجمهورية في منصبه وبين ممارستها للاستقواء تجاه المواطن والمجتمع والدولة وبين نزع استقلالية السلطات العامة التي قد تقاومها مستقبلا (التعديلات المقترحة بشأن السلطة القضائية مثالا).
صارت بلادنا تعيش على وقع تهجير المواطن من الفضاء العام تحت وطأة التهديد الدائم بالقمع، وفي ظل حصار المجتمع بإماتة السياسة وتعقب منظمات المجتمع المدني المستقلة وبإلغاء الحق العام في صون حقوق الإنسان والحريات والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع التعددية والنزيهة، ومع هيمنة المؤسسات الاستخباراتية والأمنية على كل ما عداها. لا ترى السلطوية الحاكمة في المواطنين غير حشود منمطة مهمتها التأييد العلني حين تستدعى له (الاستفتاءات والانتخابات) والصمت عندما يراد لها الصمت، لا ترى السلطوية الحاكمة في المجتمع غير مشروع لإعادة التأسيس لجمهورية خوف يتصدر واجهتها حاكم تحيط به أوهام الزعامة والتفرد التاريخي «كبطل مخلص ومنقذ» يدعي امتلاك الحق الحصري للحديث باسم الوطن والوطنية، لا ترى السلطوية الحاكمة في الفضاء العام غير مساحة لتنزيل عمل ماكينة دعائية تنتج وتروج لخطاب «إما الرئيس وإما الفوضى» وتجدد باستمرار صناعة الأعداء المتوهمين وإطالة قوائم الموصومين زيفا بالخيانة والتآمر لمجرد التعبير الحر عن الرأي ورفض تكميم الأفواه أو ممارسة النقد السلمي لانتهاكات الحقوق والحريات المتراكمة. وفي سبيل ذلك ستواصل السلطوية الحاكمة توظيف خليط ممنهج من الأدوات والسياسات والممارسات غير الديمقراطية، يبدأ باستصدار قوانين قمعية ولا يتوقف عند تعديل الدستور لإلغاء القليل المتبقي من الإرث الديمقراطي لثورة 2011.
كاتب من مصر
إن ما تحويه السلطة من تجديد خلايا السيطرة الأمنية على الفضاء العام وعسكرة مخيلة الناس، يعيدنا إلى التحليل الهيغلي الممعن في التنوع نحو الماركسية في تطبيقاتها اللينية المنضوية تحت رداء تفلسف اللاوعي من حيث المنطوق الديماغوغي الزاحف باتجاه منطقة رمادية تدفع إلى تهجير العقل من المعقول إلى الميتافيزيقية المقمعة في سراديب الهياج النفسي الإنساني.
العلوم التطبيقية في مواجهة العلوم النظرية(1)
تميزت العلوم التطبيقية وباحثيها في مجالات كالطب والهندسة والفيزياء والكيمياء بثبات نوعي لنظرياتها التي ارتقت فيما بعد لدرجة المسلمات بحيث أصبحت فيما بعد أساسا لاختراعات بنيت أساسا على قواعد ومقاييس صلبة وراسخة – فكانت نظريات نيوتن وبلانك ورزرفورد واينشتين وغيرهم أساسا أدى لاحقا لثورة في المخترعات واكتشافات في الميكانيكا والكهرباء والالكترونيات والتي ترجمت لاحقا الى تطور في المجال الصحي ومجالات الأجهزة والمعدات كالطائرات والصواريخ والالكترونيات والحواسيب والفضاء وغيرها .
فمن الصعوبة بمكان لعالم أو باحث في هذه العلوم أن يخضع اكتشافا أو اختراعا لمزاجه وتقديره الشخصي .
ليس هذا إقلالا من شأن العلوم النظرية .. ولكن على الأقل هذا ما يشهده العالم في فترات الاهتزازات والحروب والانقلابات والثورات
وليس أدل على ذلك مما شهدناه نحن في مصر والوطن العربي من انهيار لمنظومة ومفاهيم سياسية اجتماعية ذات صلة بالديمقراطية ومنظومة القيم والحريات التي يفترض ان ينادي بها أساتذة وباحثين في العلوم السياسية والاقتصادية . وهم الذين يدرسونها لطلابهم على مقاعد الجامعات والدراسات العليا .
العلوم التطبيقية في مواجهة العلوم النظرية (2)
وعلى النقيض من هذه العلوم التطبيقية تأتي العلوم الإنسانية أو النظرية في مجالات كالاجتماع والفلسفة والأدب والسياسة وبدرجة اقل الاقتصاد . والتي تخضع في كثير من الأحيان لمزاج وهوى وتقدير باحثيها ومدى ملائمتها للتوجه والأفكار والايدولوجيا التي يعتنقها صاحبها .
ليس هذا إقلالا من شأن العلوم النظرية .. ولكن على الأقل هذا ما يشهده العالم في فترات الاهتزازات والحروب والانقلابات والثورات .
وليس أدل على ذلك مما شهدناه نحن في مصر والوطن العربي من انهيار لمنظومة ومفاهيم سياسية اجتماعية ذات صلة بالديمقراطية ومنظومة القيم والحريات التي يفترض ان ينادي بها أساتذة وباحثين في العلوم السياسية والاقتصادية . وهم الذين يدرسونها لطلابهم على مقاعد الجامعات والدراسات العليا .
فوجدنا نخبة من هؤلاء وكأنهم لم يدرسوا ولم يقرءوا شيئا عن تلك القيم والمفاهيم .. وقد اوجدوا مفاهيم وتفسيرات تكاد تسير في الاتجاه المعاكس لما استقرت عليه سابقا
العلوم التطبيقية في مواجهة العلوم النظرية (3
في مصر والعالم العربي ومع بداية الثورة المضادة وما نتج عنها من انقلاب عسكري دموي على إرادة الشعب في تقرير مصيره واختياره وحريته .. وجدنا أساتذة وباحثون ومختصون يشار إليهم بالبنان .. سقطوا في أول اختبار عملي جدي مع اول تجربة حقيقية للديمقراطية قي مصر منذ ما سمي بثورة 52 .. فيخرج علينا احد أساتذة العلوم السياسية ليفسر ويقولب ويعيد نحت ونقش مفاهيم جديدة عن الديمقراطية والدستور والصندوق ليرضي ويتماشى وينافق سلطة ديكتاتورية باطشة مستبدة .
فضلا عن آخرين قاموا ( بلحس ) ما كانوا ينادون به واختراع مبررات هذيلة لانقلابهم على ما كنا نحن من غير المختصين والبسطاء ان اعتبرناه مفاهيم مستقرة للحريات و بما تنتجه الصناديق .. فوجدنا من هؤلاء المختصين والباحثين والأساتذة مالا يصدر من بسطاء وربما أميين في فهم تلك المعاني والقيم .
ورغم انكشاف هؤلاء ( النخبجية ) والمتثوقفين الا ان جلهم مازال يقوم بإعادة تدوير نفسه من جديد ويقوم بدور تنظيري في اعادة شروحات ذات القيم بخط يتجاهل ويتفاغل نكوصهم القريب ليعيدوا تلوين وترويج انفسهم كباحثين محايدين لم تلونهم الأهواء والأمزجة .
أخى ألصعيدى ألمصرى،((ورغم انكشاف هؤلاء ( النخبجية ) والمتثوقفين الا ان جلهم مازال يقوم بإعادة تدوير نفسه من جديد ويقوم بدور تنظيري في اعادة شروحات ذات القيم بخط يتجاهل ويتفاغل نكوصهم القريب ليعيدوا تلوين وترويج انفسهم كباحثين محايدين لم تلونهم الأهواء والأمزجة)) .
أكثر من رائع، سلم قلمك،
الخطورة من سيطرة جمهورية الخوف والقمع، هو إصابة الغالبية العظمي من الشعب بكم هائل من التشوهات، بداية من الإحباط واليأس من أية إمكانية للتغيير إلي الأفضل، مرورا بالعدوانية تجاه الآخرين، انتهاء بالعمل لحساب الأجهزة التابعة لهذه النظام، مما يساعد علي إطالة عمر هذا النظام، مع مزيد من الأزمات والكوارث بكل أشكالها. هنا يصبح السؤال المطروح: كيف الخروج من هذا؟. تحياتي للجميع
كالعادة مقال مفيد و متميز
الحزن كل الحزن لو تم تمرير مشروع التعديل لتمديد و تكرار الفترات الزمنية للحاكم المستبد