يلتبس الأمر عند الغرباء حين يقول المصري المقيم في دمياط أو الإسكندرية، إنه سيتوجه إلى مصر، التي تعني القاهرة لدى جموع المصريين، والأمر نفسه في سوريا، فالسوري في حمص أو حماة، يذهب إلى الشام، ويعني دمشق، وكأنه يقيم خارج الشام، وتعكس هذه الوضعية حقيقة المشاعر التي حملها المصريون والسوريون للعواصم الإدارية في بلدانهم، وفي بلدان أخرى، مثل الجزائر وتونس، كانت العاصمة تطغى بشخصيتها على البلد بأكمله، فما الذي كانت تعنيه العاصمة بالنسبة لسكان الأقاليم، التي لم تكن دولاً بالمعنى المتعارف عليه في الحقبة العثمانية التي تشكلت خلالها هذه المفاهيم.
اختزلت الدولة في المدينة التي يسكنها الموظفون الكبار الذين يقع على عاتقهم جمع الضرائب وتسيير الأمور، وكثيراً ما تنطلق منها الفرق المكلفة بالعمل على جمع الشباب، من أجل الالتحاق بالجيوش التي تمضي إلى مناطق لا تتماس بأي شكل أو صورة مع مصالح المناطق التي يسكنونها، وبعضهم لا يعرف أين تقع هذه الجبهات التي تأكل أولادهم في أعمار مبكرة وغضة، حتى أن الغنائم إن تحققت فهي تذهب إلى الأستانة، أو الباب العالي، ولا يكون لها أي أثر على الحياة الفقيرة في الأرياف والبوادي المختلفة.
حملت المدينة الكبيرة ذات الدور الإداري طابعاً منفصلاً من الناحية الروحية والنفسية تجاه بقية البلد/ الإقليم، وأصبحت تحتكر قوة الخوف والقهر، وتفاقمت المشكلة مع تحديد الشكل شبه النهائي للدولة الحديثة، بعد خروج الاستعمار، فمنذ العشرينيات من القرن الماضي أخذ العديد من البلدان تهبط عمودياً على خريطة العالم، من سايكس ـ بيكو إلى باكستان ودول الغرب الافريقي، وفي المنطقة العربية لم يكن الأمر يمكن أن يقوم على أساس جغرافي واضح، وحتى الأرض المسكونة بعرق واضح يمتلك تاريخه مثل كردستان ومناطق القبائل الأمازيغية في بلدان المغرب، فإنها لم تكن مشروعات لتقف أمام تأسيس الحدود الحديثة للدولة.
مع تأسيس الدولة الحديثة بقيت السلطة المحلية في المدن والأقاليم تلعب دور الوكالات، وإن كانت تتخذ في بعض الأحيان شكلاً ديمقراطياً هشاً ومظهرياً
بقيت المناطق الداخلية، والأقاليم خارج العاصمة، مجرد فضاء جغرافي يفتقر للمؤسسات، فالوجود كان بصورة أساسية للوكلاء الذين يخدمون العاصمة ويرتبطون بها، فالعمدة أو المختار في القرية، كان يمثل السلطة وينطق بمصالحها، ويحتمي بنفوذها وقوتها، قبل أن يكون ممثلاً للأهالي، ومع تأسيس الدولة الحديثة بقيت السلطة المحلية في المدن والأقاليم تلعب دور الوكالات، وإن كانت تتخذ في بعض الأحيان شكلاً ديمقراطياً هشاً ومظهرياً، فالعاصمة هي التي تتخير رجالها، وفي مرحلة التحول، كانت العاصمة تلعب دور الوكالة للقوى التي انتقلت من الاستعمار المباشر إلى الوصاية، قبل أن تجد نفسها في مرحلة أخرى، تبحث عن وكالة طوعية في زمن الحرب الباردة. أدركت الدولة هذه المعضلة، فأخذت تتعسف في فرض مفهوم الوطن، الوطن الذي يشكل تمثله الأعلى العاصمة وجهازها الإداري وأدوات السيطرة، وبقيت المناطق الأخرى مجرد فضاء فلكلوري يمكن استعادته في بعض المناسبات، لكن تحت طائلة العمل على تحديثه ودمجه في النموذج القياسي للدولة ومشروعها، الذي لا يعني سوى التمركز حول العاصمة وأخلاقياتها، فالبورسعيدي والسكندري والصعيدي والسيناوي جميعهم فقرات تحضر بالأزياء الشعبية والرقصات المحلية في العاصمة، من غير أن تحضر بمشكلاتها وأولوياتها وخصوصيتها، والأمر كذلك بالنسبة لسكان الجزيرة أو الساحل في سوريا، والأهوار في العراق، والريف في المغرب، وفي وسط ذلك، أخذت تنمو إشكالية الانتماء، بين ما هو ملموس من خلال الواقع المعاش بصورة يومية، وما هو متخيل ويتحدث عن التفاف متواصل حول الصورة المعتمدة للدولة وروايتها. لم تتوقف سطوة العاصمة التي تختزل الدولة ككل، لكن العاصمة نفسها أخذت تعمل على فرز نفسها، فمنها المقرب من السلطة، ويعتبر من أدواتها ولوازمها أو متحالفاً معها ومؤيداً مطلقاً لسيطرتها، ومنها من يعتبر على الهامش ووظيفته إدامة الحياة فيكون عاملاً بسيطاً وهامشياً يجب أن يبقى قريباً من العاصمة، ويعمل على صيانتها بصورة مستمرة وبتسعيرة مناسبة، وبدأت بعض الأحياء تنمو على الأطراف للأثرياء ومقابلها الأحياء الخدمية العشوائية، فالسلطة لا تتسع للجميع، ومن يمسك بالسلطة يدرك أن عليه تحصين مكتسباته وموقعه الاجتماعي.
في المقابل، من هو خارج السلطة ومركزيتها، يحاول أن يقتنص الفرصة، لكن في المناطق المحيطة بالعاصمة والطرفية، فإن ذلك يتخذ نفساً ثأرياً ينتظر اللحظة المواتية، وعليه، تحدث قصة التمدد والهرب إلى الأمام في العواصم والأحياء الجديدة، التي تعتبر الصورة القابلة للتصدير ولتأكيد نجاح السلطة وأهلية جماعتها في القيادة، لأنهم ينفذون شيئاً يراه الناس، صورة مناسبة للالتقاط من الطائرة أو للجولات السياحية، لكن وراءها تختفي الصورة الحقيقية من مناطق ما زالت مثلما كانت على امتداد قرون من الزمن، مجرد أوعية ضريبية وإنتاجية يتم توظيفها لمصلحة الوكلاء الذين يجيدون لعبة التوسط، ومع تزايد الوسطاء الذي يعبر عن فشل الدولة في إدارة توسعها وتقدمها على السواء، وأنتجت هذه الحالة دفقاً متواصلاً من الفقر المتأتي من خلال الوفر في التنمية المجهضة يذهب جميعه إلى بعض الجيوب المحظوظة.
الحديث عن الانتماء يصبح ناقصاً في هذه الصورة، بين انتماء للروافع المحلية التي تستهدف البقاء، سواء كانت العائلة أو القرية أو تقاليد الجهة أو المنطقة، والدولة وتصوراتها ومشاريعها المنفصلة التي تتركز في فضاءات معينة بعيدة، وتتطلب التضحية من الجميع، بينما تجني القلة ثمارها، وهذه وصفة مهما استطالت قدرة المركز على فرض رؤيته وقراره ستؤدي إلى التفسخ وستظهر مدى إشكالية مفهوم الانتماء، الذي لم يفعل أكثر من وراثة دور المركز ووكلائه.
كاتب أردني
الحل يكون بتكريس مبادئ الحرية و حقوق الانسان في الوطن كله ثم اللامركزية او الفيدرالية التي ستخلق عواصم عديدة للبلاد و في اللامركزية امثال عديدة متنوعة منها المانيا و الهند و اسبانيا و سويسرا و الامارات العربية