إن ما نشاهده من مصائر بائسة للشعر الجديد لا يتعلق فحسب بالمصير «الفاوستي» الذي يواجهه الشعراء العرب، إذ ثمة جغرافيات أكثر تقدماً واجه فيها الشعر الجديد المصير نفسه. هذا ما يقوله الشاعر محمود قرني في كتابه «بين فرائض الشعر ونوافل السياسة.. الشعر العربي بين ثلاثة أجيال» الصادر حديثاً عن دار الأدهم للنشر والتوزيع في القاهرة.
في كتابه هذا الذي يهديه إلى سعد القرش روائيّاً كبيرا وراعياً من رعاة النبل، يقول قرني، إنه كان ينوي أن يكرسه لشعراء قصيدة النثر، بغض النظر عن الأجيال التي ينتمون إليها، لكنه ليس من أنصار عبادة الشكل، كما أنه يدين بالكثير من تكوينه لشعراء ومدارس شعرية هي جزء من المدونة الكلاسيكية، سواء في الأدب العربي، أو في آداب الأمم الأخرى، دون الوقوع في فخاخ المحافظين الذين يعتبرون تفوق القدماء أسطورة لا يمكن تجاوزها.
أعظم الفنون
قرني الذي يرى أن تراثنا العربي، وعلى رأسه فن الشعر، يعد واحداً من أعظم الفنون الشعرية التي تضاف لرصيد الإنسانية، يتصور أن الخطر الحقيقي على الشعر في زمننا يأتي من منطقة أخرى ليس بينها صراع الأجيال وتطاحنها.
كما يرى أن العزلة هي أخطر ما واجهه الشاعر الحديث، الذي من المفترض أن ينتخبه الضمير العام، تعبيراً عن أشواقه للجمال والحرية، غير أن التحولات الفكرية والسياسية التي حدثت خلال القرن العشرين كان لها أبغض الأثر على تلك العلاقة بين الشاعر وجمهوره، وفي ظل زمن جديد يقوم على تبادل المنفعة، يمكن أن ندرك لماذا تثير قصيدة النثر تقزز الساسة ورجال المال والمحافظين الباحثين عن منتجعات للراحة، بعيداً عن الضجيج غير المحتمل لكائنات ستظل في نظرهم حالمة وضالة. هنا يتذكر الكاتب شعاراً شديد الطوباوية دشن به جيل السبعينيات في مصر مشروعه الشعري، يخلص إلى أن «الشعر ليست مهمته تقديم وتبني خطابات الثورة، الشعر هو صانع الثورة وفاعلها».
طبيعة الأشياء
في كتاب قرني هذا نتابع، كما يقول في مقدمته، نماذج شعرية شتى تمثل ثلاثة أجيال متلاحقة، هي أجيال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، رغم أنه لم يتمكن من تقديم كل من أحب من الشعراء في الأجيال الثلاثة، وهذه هي طبيعة الأشياء، غير أنه ينفي عن اختياراته هذه التواطؤ والمصالح.
كذلك يكتب قرني فيقول، إن كل هذه الصراعات التي تبدو في جانب كبير منها تمثيلًا لعبادة القديم، هي عقدة عرفتها الثقافات كافة، وقد عانت منها الثقافة الأوروبية نفسها، إذ ظل التوحيديون يعتقدون بتفوق القدماء حتى أزاحتهم الرومانسية جانباً، واخترقت حصون الذائقة العامة، وهذا يعني، يقول الكاتب، إن على الشعراء العرب البحث عن مزيد من التواضع حيال قرائهم، وتجاوز مفهوم القارئ الافتراضي أو القارئ الميت، فهذا الاعتقاد كان ولا يزال يمثل هزلا تاريخيّا مارسه النقد الشكلاني في أكثر تخاريفه شناعة. هنا يكتب قرني عن شمس عفيفي مطر المهيمنة، عن محمود درويش، عن خيري منصور، عن أنسي الحاج، عن أحمد زرزور، عن محمد صالح، عن محمد سليمان، عن فتحي عبد الله، عن غادة نبيل وغيرهم الكثير.
النص الجديد
كذلك يقول، إن النص الشعري الجديد لا يمثل حقيقة جمالية وحسب، بل يمثل حقيقة اجتماعية أيضا. هذا لا يعني أن النص يبحث عن وظيفة خارج خصائصه النوعية، بل يعني أن التاريخ الذي تشكل النص تحت وطأة أحداثه، لا يمكنه أن يشكل حمولة ما خارج حقيقته الزمنية، ولا يفتأ الشاعر أن ينخلع من تلك الحقيقة، بالمزيد من المراوغة إلا ليبقى هو ونصه فوق الزمن أو خارجه أحياناً. قرني الذي يختتم كتابه ببيانات ملتقيي قصيدة النثر في عامي 2009 و 2010 وبعض المقالات التي كتبت عن أصدائهما، يكتب قائلًا، إن انحيازنا للشعر هو انحياز لما هو نبيل في التاريخ الإنساني، انحياز يماهي بين لحظات الصدق النادرة التي نهضت فيها الحضارة، رغم أنف القتلة والساسة والسلطة الأبوية وحروب العشائر، لتنزع المعرفة العامة من أسر الكهانة بكل صورها، لتشكل الإرث العام لصناع التاريخ الحقيقيين، ولتنزع اللغة من أفواه كهنة المجامع، لتتشكل في حناجر الفلاحين والصيادين والعصافير والكائنات كافة.
كاتب مصري