الرباط – “القدس العربي”:
كلما ساد الظن بأن عبد الإله بنكيران غاب وأن نجمه أفل في المشهد السياسي المغربي، إلا عاد، كما كان، بأسلوبه الذي يصفه معارضوه بـ”الشعبوي”، زعيماً سياسياً قوياً وناقداً لاذعاً للأوضاع العامة، مؤكداً احترامه للمؤسسات ومنتقداً أداءها.
ومنذ إعفائه من رئاسة الحكومة في ربيع 2017، والحيلولة دون عودته أميناً عاماً لحزب العدالة والتنمية في صيف العام نفسه، يغيب بنكيران ويعود للظهور، وكلما ظهر ترك أثراً في حزبه والأغلبية الحكومية وفي الحياة السياسية المغربية.
مساء الخميس، كان بنكيران نجم المشهد، مغطياً على ما تعرفه بلاده، من أحداث وتطورات، التي اتخذ منها منطلقاً لعودته، ليتحدث بلغة الحكيم، وإحساس ألم المواطنين، وهو الماهر في استخدام هذه اللغة لتوصيل رسائله لكل الجهات التي يريد مخاطبتها.
العلاقة بين حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح كالعلاقة بين الأم وولدها
وقال عبد الإله بنكيران، الأمين السابق، لحزب العدالة والتنمية، إنه فكر بعد إعفائه من طرف الملك من رئاسة الحكومة العودة إلى النشاط وسط حركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي للحزب، إلا أنه أمام إلحاح بعض الأصدقاء والناس قرر العودة إلى النشاط من داخل الحزب.
وأوضح في حديث أمام أعضاء من نقابة حزبه، في شريط فيديو بثته الصفحة الرسمية لسائقه الخاص، أن الحركة تبقى هي الأم بالنسبة للحزب، مضيفاً قوله: “حتى عندما ساد النقاش عن الفصل بين الحركة والحزب وكان هناك بعض الإخوان يشعرون بالحرج لإظهار العلاقة بين الحزب والحركة، قلت لكم بأن العلاقة بين الحركة والحزب كالعلاقة بين الأم وولدها”، مؤكداً أن الابن لا يمكنه أن يتنكر لأمه قائلاً: “نحن لسنا حيوانات”، لأن الابن يظل يتواصل مع أمه ويساعدها، مستشهداً بما فعله هو نفسه عندما ساعد الحركة لما كان على رأس الحكومة، وحصل لها على الترخيص الرسمي والنهائي بوجودها.
واستطرد بنكيران أنه عدل عن فكرة العودة إلى الاشتغال من داخل الحركة، بعد تدخل “بعض الإخوان المحبين والمخلصين والصادقين، ومن بينهم أخوان أو ثلاثة من أصدقائي السابقين، لا ينتمون إلى الحزب، ظلوا يصرون علي كي لا أغادر وأبقى في الميدان، بالإضافة إلى الإخوان الذين يرون أن اختيارهم لهذه الطريق كان لأسباب من بينها وجودي أنا، وكأن بيني وبينهم عهوداً، وكذلك عموم المواطنين الذين يقول لي بعضهم “سي عبد الإله ما تخلاش علينا “لا تتخلى عنا”، وأن الأمر لا يتعلق بنوع من الإقصاء له كمن أقصي من الدور الأول، وإنما بـ”أمانة ومسؤولية”.
وقال إن في البلاد الصلاح والمصلحين، والفساد والمفسدين، وقد عبر الملك عن ذلك في عدة خطب “فليسمح لي سيدنا (الملك)، فهو طالعلو الدم.. وطاير لو.. (غاضب) تكلم عن التعليم والصحة..” لكن “ما العمل؟” “هل نبقى ننظر إلى بلادنا تتكسر وتدمر، ونظل ساكتين؟”.
هناك معارضون يعملون بسوء نية مع جهات أجنبية لدفع الدولة إلى الانهيار
وأوضح رئيس الحكومة السابق أن الأوضاع التي يمر بها المغرب لا تعجب الملك محمد السادس، بسبب ما يحدث على عدة مستويات في البلد، وهو ما عبر عنه في عدد من خطبه الرسمية، وقال إن هناك مجهودات للإصلاح، إلا أن حجم الفساد كبير، وهو الأمر الذي عبر عنه الملك بغضب في كثير من خطبه. واتهم جهات معارضة لم يسمها بالعمل على تفكيك الدولة المغربية: “هناك معارضون يعملون بسوء نية مع جهات أجنبية لدفاع الدولة إلى الانهيار، وسيأتي وقت يفتضح أمره طال الزمن أو قصر، دون أن يحدد طبيعة هؤلاء المعارضين وموقعهم في الدولة. وأبرز بنكيران أنه كان في وقت سابق معارضاً للملكية وليس للدولة، ولكنه مع مرور الوقت فهم أموراً كثيرة، داعياً معارضي الملكية إلى أن يراجعوا موقفهم، “إنهم على خطأ ولا يريد أن يستعمل مصطلحاً أكثر حدة. ملاحظاً تزايد استهداف الملك بشكل مباشر والتجرؤ عليه، وقال إن استهداف الملك مباشرة أمر لا يجب أن يعجب أي مغربي، ولا يمكن تصور ما سيحدث للمغرب إذا وقع شيء للملكية. لذلك الملك يجب أن يُوقر لأنه رمز، والدولة غير قائمة على السلطة والقمع، بل على المشروعية منذ المولى إدريس، مشدداً على أن المغرب لا يُحكم بالحديد والنار.
لا يمكن تصور ما سيحدث للمغرب إذا وقع شيء للملكية
وقال إن ” الله لن يمكنهم من هذا البلد، ما دام الشعب متمسكاً بالمرجعية الإسلامية ووحدة الوطن والتمسك بالملكية”، وقال: “الملك محمد السادس كان له دور كبير في إنقاذ المغرب من الهلاك، إبان الربيع العربي، بسبب الإجراءات التي أعلن عنها آنذاك، مثل إصلاح الدستور وتنظيم انتخابات مبكرة”.
واعترف بنكيران بأنه كان معارضاً للنظام الملكي في وقت سابق، قائلاً: “أنا أيضاً كنت معارضاً للملكية، ولكن تبيّن لي لاحقاً أنني كنت على خطأ، وأدعو معارضي الملكية إلى أن يراجعوا موقفهم فهم على خطأ، وليحاولوا الإصلاح”، وتابع: “الملك بعد الله هو ملجأُنا. مْلي وْحلنا (تورطنا) في 20 فبراير، شكون اللي فك القضية؟ (من تدخل لحل القضية؟) جلالة الملك، الذي أقام الخطاب الشجاع يوم 9 مارس، وفي الغد جمع مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية، وأنشأ لجنة تعديل الدستور الذي تلته الانتخابات التي أوصلت حزبنا إلى الحكومة”، وقال إنّ “المَلكَ بعد الله اعْتق المغرب، وأنقذه من هلاك محقق، وكان المغرب سيقع فيه ما وقع في دول أخرى”. وقال: “انتقدوا الحكومة، وانتقدوا الأحزاب، ولكن الملك وقروه. يجب أن يظل موقراً، وأن تُحفظ له مكانته الخاصة”، وكشف أنه كان السبب “في نزع القداسة عن الملك في الدستور، لأنها جاءت من الأوروبيين الذين كانوا يعتقدون أن الملك مقدس عند الله، ونحن لا يوجد شيء كهذا في تراثنا الإسلامي”.
ودعا بنكيران أعضاء حزبه إلى العمل من أجل تجاوز الوضعية الصعبة التي تمر بها الدولة، مشيراً أنه حان الوقت ليستعيد قوته كما كان حتى لو اقتضى ذلك التواجد خارج الحكومة، وأن نالدعوة لانتخابات سابقة لأوانها أمر لا يمكن أن يخيف الحزب لأنه “تلميذ مجتهد”، و”إذا نجح الإخوان في الحزب في تسيير الحكومة فهذا شيء جيد بالنسبة للحكومة وللمغرب وللشعب وللحزب، وإذا فشلت الحكومة، لا قدر الله، فيجب أن نبقى صامدين ومتمسكين”.
ووجه رئيس الحكومة السابق انتقادات حادة إلى مسؤولين كبيرين في الدولة، هما إدريس جطو، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، بخصوص تقريره حول المديونة العمومية، وتقريره حول إصلاح صندوق التقاعد، وقال “فليسمح لي إدريس جطو.. المديونية درناها (قمنا بها) مضطرين، وفلوسها مادرناها فجيوبنا (أموالها لم نضعها في جيوبنا)”.
وكشف بنكيران أن ميزانية المغرب السنوية تعادل 300 مليار درهم، تأتي من الضرائب التي ترتفع مداخلها إلى نحو 180 مليار درهم، بالإضافة إلى 40 مليار من موارد داخلية أخرى، والباقي يأتي من الديون، والدولة تسدد سنوياً 30 مليار درهم لتسديد الدين وفوائده.
وقال إنه كان على جطو في تقريره حول إصلاح صندوق التقاعد، أن يعترف بالإصلاح الذي قامت به حكومته لهذا الصندوق والذي سمح للصندوق الحالي بتسديد معاشات المتقاعدين حتى سنة 2029 أو 2030. وإن كان هذا الإصلاح ما زال ناقصاً وعلى الحكومة الحالية أن تنجزه.
اذا كان لدى اخنوش عقل يترك السياسة ويذهب لتجارته وفلاحته ويريحنا
وهاجم بنكيران بقوة عزيز أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري، وزعيم التجمع الوطني للأحرار، والمقرب من المرتجع العليا وقال: “إلى كان عندو شي عقل يمشي يقابل فلاحته (اذا كان لدى اخنوش عقل)، وأقول له الحقيقة، يخلي عليه السياسة راه ما خلاق ليها (يترك السياسة)، ويمشي يقابل التجارة ديالو والفلاحة ديالو، ويهنينا، راه أنا قلت له باراكا بما فيه الكفاية” (ويذهب لتجارته وفلاحته ويريحنا، وأنا قلت له كفى) ودعا أخنوش إلى التخلي عن الحزب “لقد جيء به على عجل، ويمشي يدبر شكون لي يقابلو ويمشي يبعد وهذه نصيحتي له”.
من جهة أخرى، أعاب عبد الإله بنكيران على الحكومة الحالية عدم تدخلها العاجل لإنقاذ حياة الراعي الذي مات تحت الثلج بعد أن داهمته عاصفة ثلجية بشعاب جبل “بويبلان” قبل أسبوعين، وقال إن الإعلان عن فقدان الراعي سبق وفاته، وكان يمكن إرسال طائرة مروحية للبحث عنه وإنقاذه قبل وفاته. وعلى الحكومة والمسؤولين أن يعيدوا القيمة للإنسان، وعلى رجال السلطة أن يلطفوا بالمواطن، وقال إنه يتحدث عن هذه الفاجعة وتحز في نفسه فواجع أخرى وقعت في عهد حكومته، وذكر من بينها مأساة بائعة الخبز التي أضرمت النار في جسدها عام 2016، بعد أن صادرت السلطات العمومية بضاعتها، وقال إن تلك المأساة التي عرفت بمأساة “مي فاطمة” ما زالت تحز في نفسه.
وقال الباحث السياسي المغربي، بلال التليدي، إن الخرجة الإعلامية الجديدة لعبد الإله بنكيران “تضمنت رسائل متعددة، من أهمها موقفه الثابت من الملكية، ومواجهة ظاهرة خطيرة أصبحت تبرز في الاحتجاجات، وهي التوجه مباشرة إلى الملك بأسلوب غير لائق في بعض الأحيان، وإنه يدرك تراجع شعبية حزبه، لذلك فهو يحاول تطمين النفوس داخل الحزب أولاً من أجل رفع الجاهزية والاستعداد لأي مواجهة مباشرة مع أعداء الحزب، وعدم ارتياحه لحكومة سعد الدين العثماني، ليس بسبب حصيلتها أو إنجازاتها، بل لوضعيتها السياسية وموقع حزب “العدالة والتنمية” داخلها.
وأوضح التليدي أن خرجة بن كيران غير مرتبطة بتوقيت، فالرجل اعتاد على ترتيب أي لقاء عندما يطلب منه ذلك، وعندما يكون له كلام مهم سيصدره يقوم ببثه.
وأضاف التليدي أن “بنكيران يدرك أنه من الصعب عليه مواجهة كل تعبيرات الدولة في آن معاً، فعندما كان هو رئيس الحكومة كان يهاجم الأصالة والمعاصرة بشكل مباشر، وعاد لمهاجمة اخونش رئيس التجمع لأنه يعرف أن أخنوش الذي كان في عهد بنكيران ليس هو أخنوش الآن، الذي يقدم نفسه أنه هو رئيس الحكومة الفعلي، وليس العثماني، ويجول في الجهات وينتقد تسيير بعض القطاعات كالصحة والتعليم، ويقدم نفسه كبديل مفترض لسنة 2021”.
وأكد التليدي أن بنكيران ليس له تصور خاص عن المعارضين الذين اتهمهم بالعمل مع الخارج ومحاولة تفكيك المغرب، هو يقصد- كما قال بفمه- الأشخاص الذين يسبون الملك ويدعون لمواجهته، سواء كانوا في الداخل أو الخارج، وليس المعارضة العادية.
وشدد التليدي على أن بنكيران لم يقم بالتهويل أو المبالغة عندما قال إن المغرب يقترب من الدول التي تعيش فوضى، لأنه يعرف ما يقول، والمؤشرات الاجتماعية كلها تؤكد ذلك، فالمطالب الاجتماعية ارتفعت، والإمكانيات الاقتصادية للدولة محدودة، وبالتالي النتيجة ظاهرة للعيان، وشروط تفجر الوضع بالمغرب قائمة.
وشدد التليدي على أن بنكيران من خلال خرجاته الأخيرة يؤكد أن إمكانية استئنافه لدوره السياسي ورجوعه لواجهة الأحداث أمر وارد جداً، سواء أجريت الانتخابات في موعدها أو في انتخابات سابقة لأوانها، خاصة أنه يعرف أن الحزب يتراجع.