أشقاء لويز غلوك

حجم الخط
3

فوز الشاعرة الأمريكية لويز غلوك بجائزة نوبل للأدب يتوجب أن يعيد التذكير بفئة خاصة من شاعرات وشعراء الولايات المتحدة تسيدوا المشهد الشعري الداخلي، وبعض الأنغلو – سكسوني والأوروبي والعالمي أيضاً، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم؛ من دون أن تتلاقى شعرياتهم، بالضرورة، تحت هذا أو ذاك من الخيارات الجمالية والأسلوبية؛ أو حتى تتعارض أو تتصارع، على غرار عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن ذاته مثلاً. أتوقف هنا، في عجالة تقتضيها المناسبة بالطبع، عند ثلاثة أسماء (من بين عشرة أخرى، على الأقلّ)؛ رحل اثنان منهما، وبقي الثالث الذي كان من حقّه منافسة غلوك على الجائزة، ضمن إطار الشعر الأمريكي المعاصر تحديداً.
مايكل س. هاربر (1938ـ2016) أحد أفضل الشعراء تحريضاً على مناقشة السؤال الشائك: كيف يمكن أن نتحدث عن «إيقاع الجاز» في النصّ الأدبي؟ وكيف يمكن، خصوصاً عند مَنْ لا يعرف الكثير عن الجاز، تمييز عمارة إيقاعية ما، بوصفها تحاكي عمارات الجاز؟ ولعلّ من الخير تقديم مثال فوري من شعر هاربر، في قصيدته الشهيرة «الأخ جون»: رجل أسود/ أنا رجل أسود؛/ أنا أسود؛ أنا ــ/ رجل أسود؛ أسود ــ/ أنا رجل أسود؛/ أنا رجل أسود؛/ أنا رجل؛ أسود ــ».
ففي مستوى أوّل، يكون التصريح الشعري بسيطاً ومؤلفاً من كلمات خماسية المقاطع؛ وفي مستوى ثانٍ يلعب ترتيب الكلمات وحُسن توزيع وتنويع الجملة الاسمية (أنا رجل أسود) دوراً إيقاعياً مميّزاً لا يمكن أن تخطئه الأذن؛ وفي مستوى ثالث، أعمق، تبدو التنويعات الصرفية والإيقاعية والغنائية وكأنها تتضافر معاً من أجل بناء نسيج موسيقي متعدّد السطوح والنقلات، تساعد في تشييده تلك الهندسة الخاصة لتوزيع علامات الوقف وتبديلها، وقَطع السطر، واستعادة التراكيب ذاتها دون تكرارها عملياً. لكنّ «عَروض الجاز» البسيط هذه تخفي سلسلة تعقيدات ذات صلة بموضوعات قصائد هاربر، التي تعتمد على الكثير من عناصر الثقافة السوداء، وتفضيل التورية على التصريح، والاستعارة العميقة على التشبيهات البسيطة.

بعض أشقاء غلوك تركوا بصمات شخصية واضحة تتجاوز خصوصيات موضوعاتهم وأساليبهم وأشكالهم وأدوارهم الجمالية والثقافية، والسياسية أيضاً في معظم الحالات

الشاعر الثاني غالواي كينيل (1927ـ2014) يقترح قصيدة يكمن سحرها في أنها ليست رومانتيكية ولا دينية، ولكنّ احتفاءها المرهف بالعلاقة الروحية بين الكائنات والأشياء والعناصر يرقى إلى مستوى المزمور والترتيلة والصلاة. ثمة ذكاء مذهل في التقاط تفاصيل تلك العلاقات، ونزاهة رفيعة في تنظيم مستويات التكافؤ بين الحيّ والجامد والكبير والصغير والقويّ والضعيف، ومقدار هائل من أنسنة التفاصيل ونفخ الحياة في الروابط: «وإذْ لا أكاد ألمس شيئاً، أراني/ أمْسِكُ بما أستطيع التفكير فيه/ مثل أعمق الذكريات في ذراعيْ،/ ليست ذكرياتي، ولكن كأنما الحياة في داخلي/ كانت تتذكّر ذاتها ببطء./ ترقدين الآن هنا في مادّتك الفيزيائية،/ هذه الدرجة الجميلة من الحقيقة».
وكينيل بهذا المعني مزيج من إميلي دكنسون ووالت ويتمان وت. س. إليوت، وليس من دون دلالة خاصة أنه ظلّ في عداد آخر حماة هذا الائتلاف، سواء لجهة الموضوعات أو الأشكال. «مهمّة الشاعر أن يلتقط ما يجري داخل النفس، وأن يمسك بالرابطة بين الذات والعالم، وأن يسجّل هذا كله بكلمات مشبعة بالشكل، وقادرة بالتالي علي البقاء الطويل»، يقول كينيل؛ المؤمن بأنّ القصيدة رحلة في ذات الشاعر أوّلاً؛ وهي تالياً جولة استكشاف في معنى الحياة، ومعنى الوجود على سطح الأرض.
الشاعر الثالث روبرت بلاي (1923 ـ ) هو أحد أبرز روّاد حركة التجديد العميق والراديكالي التي طبعت معظم النتاج الشعري الأمريكي طيلة عقود؛ ولهذا فإنه، أيضاً، بين أصفى الأصوات التي كتبت قصيدة النثر في الولايات المتحدة وخرجت بها عن إسار الصيغة الفرنسية (بودلير ورامبو)، وصالحتها مع تراثات شعرية أخرى: أمريكية (ويتمان، إدغار ألن بو)، وأمريكية جنوبية (نيرودا، فاييخو) وإسبانية (لوركا)، وألمانية (ريلكه، تراكل).
جانب ثانٍ، وهامّ بالمعنى النظري، كان ثورة بلاي على نظرية ت. س. إليوت حول «المعادل الموضوعي»؛ إذْ ميّز بين نوعَين من الوعي الشعري: ذاك الذي يضيء «أخبار الذهن الإنساني»، والذي يضيء «أخبار الكون». والنوع الثاني يقتضي من الشاعر أن يتوغّل عميقاً في أغوار الدماغ لكي يعثر ــ ربما ــ على «بعض الأخبار السيئة عن النفس، وبعض العذاب الذي تكفّل العقل الخطابي بوقاية الشاعر منه». وفي قصيدة بعنوان «مباغَتٌ بالمساء» يكتب بلاي: «لن ينقضي النهار، نقول لأنفسنا:/ في حوزتنا شَعْرٌ يبدو مولوداً من أجل ضياء النهار؛/ ولكن، في نهاية المطاف، سوف تنهض مياه الليل الهادئة،/ وسيمتدّ جِلْدُنا ببصره إلي البعيد البعيد،/ تماماً كما يفعل تحت المياه».
ويبقى جانب ثالث هو الدور المباشر، العملي، الذي لعبه بلاي في تطوير التجارب الشعرية الأمريكية الشابة، وذلك من خلال مجلّته «الخمسينيات» The Fiftie التي مارست نفوذاً أدبياً ونقدياً واسعاً؛ وتواصلت رسالتها في الأزمنة التالية حين تبدّل اسمها لكي يغطّي العقود اللاحقة: «الستينيات»، «السبعينيات»، «الثمانينيات»، و»التسعينيات».
هؤلاء بعض أشقاء غلوك الذين تركوا بصمات شخصية واضحة تتجاوز خصوصيات موضوعاتهم وأساليبهم وأشكالهم وأدوارهم الجمالية والثقافية، والسياسية أيضاً في معظم الحالات؛ ولا يصحّ، استطراداً، أن يُرى تكريم الفائزة بنوبل 2020 بمعزل عن تزكية منجزاتهم الشعرية الجلية والعالية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آصال أبسال:

    /يقول كينيل؛ المؤمن بأنّ القصيدة رحلة في ذات الشاعر أوّلاً؛ وهي تالياً جولة استكشاف في معنى الحياة، ومعنى الوجود على سطح الأرض/..
    على فكرة، إيمان الشاعر بأن قصيدته رحلة داخل ذاته أولا ليس إيمانا فريدا محصورا ولا متميزا مقصورا على كينيل دون سواه.. فالحكمة والحصافة تقتضيان القول،في هذه القرينة، بأنه ما من شاعر أو شاعرة بحق، وفي أيما زمان أو مكان، يكتب قصيدة بحق دون الإيمان /وأكاد أن أجزم هنا: دون الإيمان المطلق/ بأنها رحلة في الذات قبل أي شيء آخر.. هذه مسألة نفسانية بدهية قديمة قدم التفكير الفلسفي بمبادئ ما سُمي منذ البدء بـ “الشعرية” Poetics.. !!

  2. يقول آصال أبسال:

    سؤالان بسيطان، ومركبان
    أولا، لماذا يعتقد صبحي حديدي أن الشاعر الحي بلاي بالذات من بين الشعراء الأمريكيين الثلاثة الذين تطرق إليهم في هذا المقال /الشاعران الآخران الراحلان هما: هاربر وكينيل/ كان من حقه أن يكون منافسا للشاعرة غلوك، ولم يعتقد البتة من الطرف الآخر أن الشاعر الحي أدونيس بالمثل، على سبيل المثال، كان من حقه أن يكون منافسا كذلك /وبصرف النظر عن عامل الجنسية والأصل والفصل/.. ؟؟
    ثانيا، هل، بناء على ذلك كله، للاختلاف الجذري الموضوعي /واللاشخصي، على أدنى تخمين/ مع هذا الشاعر الأخير في الموقف السياسي من الحياة ومن الثورة، تحديدا، دور كبير ومهم وحاسم في إهماله، ومن ثم في إقصائه؟

  3. يقول أحلام الأحمد - نابلس:

    الأخت الجليلة الدكتورة أصال أبسال
    أتابع كتاباتك الجميلة واللمّاحة والألمعية باستمرار هنا وهناك
    ففيها ينابيع لا تنضب من ما ينور العقل والنفس من شتى مجالات الثقافة
    في النقد الصحافي والإعلامي والنقد الأدبي والفكر الفلسفي والنفسي وحتى الفنون
    جازاك الله خيرا وسدد خطاك أينما حللت وأينما نزلت
    كل المحبة والمودة
    أحلام الأحمد

إشترك في قائمتنا البريدية