«أشهر الرسائل العالمية»: لينكولن المخدوع وسلحفاة تكتب قصة حياتها

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»: دائماً ما تكون الرسائل الشخصية كاشفة جانباً خفياً لهذا الشخص أو ذاك، خاصة إن كان قائداً عسكرياً، أو أحد الساسة، أو حتى رجل دين، حيث تبتعد هذه الرسائل عن الصورة النمطية التي خلدها التاريخ لمثل هؤلاء، والذين حرصوا كل الحرص على صورة نموذجية تظل راسخة وباقية في مخيلة العامة.
يأتي كتاب «أشهر الرسائل العالمية» لمحمد بدران، الذي ترجم الرسائل عن الإنكليزية، والصادر مؤخراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة في 470 صفحة من القطع الكبير. وهو طبعة جديدة من الكتاب، الذي صدر في جزأين عام 1946. ويذكر بدران في مقدمته أن «الرسالة تسجل الحياة العقلية لكاتبها، وتعين على تحليل غرائزه وعواطفه، والأسس الحقيقية التي تقوم عليها أعماله. والرسالة تنم عن أخلاق كاتبها، وعن الأسباب الخفية لسلوكه وأعماله، عرف ذلك أو لم يعرف، وتظهر الأمور الصغيرة التافهة الكامنة وراء الحقائق العظيمة، وتذكّرنا بأن التاريخ كان في يوم من الأيام حياة حقة، وأن أشخاصه كانوا رجالاً ونساء أحياء». وسنحاول استعراض بعض رسائل شخصيات أقل شهرة من أسماء قُتلت بحثاً، وتناول النقاد حياتها وآثارها في مسار التاريخ..

قد تكون روحه روح رجل حُر

في رسالته إلى الفيلسوف الأبيقوري لوسليس، يؤكد لوكيوس أنّايوس سينيكا (4 ق.م ــ 65) الخطيب والسياسي والمسرحي الروماني، على أسس فلسفته الأخلاقية، وهي خاصة بمشكلة (العبيد). ويبدو ـ للأسف ـ أن الرسالة لم تزل صالحة للقراءة حتى بعد مرور كل هذه القرون، فيقول.. «يسرني ما حدثني به بعض القادمين من عندك، وهو أنك تعيش مع عبيدك معيشة الصديق مع الصديق.. وقد يقول الناس إنهم عبيد! كلا، إنهم أصدقاء منزهون عن الزهو والصلف، إنهم عبيد مثلنا، إذا ما فكر الإنسان أن للأقدار سلطاناً متساوياً على العبيد والأحرار.. عاملوا مَن هم دونكم كما تحبون أن يعاملكم مَن هم فوقكم، وكلما ذكرتم ما لكم من سلطان على عبيدكم، إذكروا أيضاً أن لغيركم هذا السلطان نفسه عليكم».
أشرف سينيكا على تربية نيرون وتعليمه أصول الكلام والمنطق والحكمة، وأصبح مستشاره الأول حتى عام 62، إلا أن نيرون قرر بعد ذلك أن يضع حداً لحياة معلمه، فأمر جنوده بالذهاب إلى قصر سينيكا، وإخباره بحكم نيرون، بأن يقتل الرجل نفسه، وقد فعل، دون إتاحة الوقت له لكتابة وصيته الأخيرة.

أليس الحب أقوى على ربط قلبينا من الزواج؟

بيتر أبلار (1079 ــ 1142) فيلسوف فرنسي من طبقة النبلاء، قام بتدريس اللاهوت في باريس، وأسس مع اثنين من زملائه مدرسة تطورت حتى أصبحت في ما بعد جامعة باريس. ذاعت شهرة أبلار، والتقته إلواز وحضرت إحدى محاضراته في بيت عمها فلبرت، فأعجب بها أبلار وقرر أن يكون أستاذها في الفلسفة. ويصف أبلار قصة الحب هذه في خطاب لصديق له، عُرف باسم (خطاب المصائب) قائلاً «لقد حاولت عبثاً أن أتجنبه ـ الحب ـ وأنا فيلسوف، لكن هذا الحب العارم استبد بعقلي فغلب على حكمتي، وكانت سهامه أقوى من منطقي».
وتحولت هذه الدروس إلى لقاءات غرامية، إلا أن الفتاة رفضت زواجه، لأنه سيؤثر في منصبه في الكنيسة ـ لم تكن هناك بعد قوانين تسمح برهبنة المتزوجين ـ وقالت له «أليس الحب أقوى على ربط قلبينا من الزواج؟».
لكن العلاقة استمرت وأسفرت عن مولد طفلهما عام 1118، بل تزوجها سراً، حتى علم عمها بالأمر، فاستأجر بعض الأشرار، فقاموا ببتر عضو خطيئته. فهرب وأمر حبيبته أن تلتحق بالدير، وكذلك حاول هو في عدة أديرة، إلا أن قصتهما شاعت كما شاعت خطاباتهما. وحتى إن شاب هذه الكتابات بعض الأساطير والإضافات وما شابه في الكثير من قصص الحب المتمردة، إلا أنها أصبحت رمزاً للثورة على العقل والتقاليد، خاصة أن إلواز دُفنت بجوار أبلار في حديقة (الروح القدس)، التي دُمرت أثناء الثورة الفرنسية، ثم نقل ما يُظن أنه رفاتهما إلى مقبرة الأب لاشيز في باريس عام 1817 لتصبح وتظل مزاراً أيام الأحد من فصل الصيف، يؤمه الرجال والنساء وهم يحملون الأزهار لتزيين قبرهما. تقول إلواز.. «ليس ثمّة ما يمنعنا أن نتبادل الرسائل، لأن هذه المتعة البريئة لا يحرّمها علينا الناس، فعلينا إذن ألا نضيع بإهمالنا تلك السعادة التي لم يبق لنا غيرها، ولعلها هي السعادة الوحيدة التي لا يستطيع حقد أعدائنا أن يغتصبها منا. وسأقرأ في رسائلك أنك زوجي وسأوقعها بأني زوجتك، وستكون أنت في هذه الرسائل ما تحب أن تكون… النعمى قلما تختار جانب الفضيلة، والحظ كما علمت أعمى… أكتب إليّ إذن من فورك ولا تنتظر حدوث المعجزات فهي جد نادرة، وإذا حدثت فقلّ أن تكون من نصيبنا نحن، لأننا تعودنا سوء المصير».
إلا أن شجاعة إلواز في تعبيرها عما تعيشه وتستشعره، يقابلها خوف وخذلان أبلار، إذ يقول «تقولين إنك من أجلي ترتدين ثياب الراهبات، بالله لا تدنسي مهنتك المقدسة بهذه الألفاظ، ولا تغضبي ربك بهذا الضلال».

أبيلار وألواز

عُد ولا تدع أحداً يعرف مَن أنت

ومن الرسائل اللافتة رسالة ملك الهند أورنكَ زيب ـ تولى الحكم عام 1658 ـ وهي رسالة إلى مُعلمه في صباه، يطلب منه هبة أو منصبا ما، بعدما تولى الرجل الحكم. ويبدو أن الرجل ابتليّ بمعلم أشباه معلمينا، فكان رد الملك كالتالي.. «ماذا تريد منّي يا أستاذ؟ هل يُعقل أن أهبك أنت منصباً من المناصب الرئيسية في بلاطي؟ أين ذلك التعليم الذي علمتني؟ لقد علمتني أن بلاد الإفرنج كلها بلاد حقيرة الشأن، لا تعدو أن تكون جزيرة صغيرة، وصورت لي ملوكهم في صورة صغار الأمراء عندنا، لأن ملوك الهند هم العظام الفاتحون، ملوك العالم بأجمعه، ألا ما أعظم هذا العلم وأعجبه! أردتَ أن تعلمني اللسان العربي والقراءة والكتابة، ألا ما أعظم فضلك عليّ إذ أضعت وقتي في تعلم لغة لا يستطيع أحد أن يتقنها إلا بعد عشر سنين، كأن من واجب ابناء الملوك أن يكونوا علماء مبرزين في النحو أو جهابذة في القانون.
ما زلت أذكر أنك ظللت تسليني بفلسفتك الجميلة زمناً لا أعرف طوله، ثم لم يبق منها في ذاكرتي إلا طائفة كبيرة من الألفاظ الهمجية الغامضة، خليقة بأن تحيّر أذكى العقول وتشتتها وتوهنها، ولم يبتدعها أصحابها إلا ليستروا بها جهل أمثالك من الناس وغرورهم.. ألم يكن واجباً عليك بدل أن تتملقني أن تعلمني بعض ذلك العلم الذي لا غنى للملوك عنه، أعني به ماذا يجب عليهم لشعوبهم، وماذا يجب على الشعوب لهم… إني مدين لغيرك بعلم هذه الأشياء، ولست مديناً بها لك. فعُد إذن إلى القرية التي جئت منها، ولا تدع أحداً يعرف مَن أنتَ، وماذا أصابك».

لا نكاد نبصر في حياتنا جنازة

الرسالة هذه المرّة من سلحفاة رداً على رسالة فتاة تدعى إستر ميلسو، كتبتها شعراً عام 1784. كانت السلحفاة الشهيرة (تيموثي) قد ورثها رجل الدين الإنكليزي جلبرت هويت، وذاع صيتها وقتها، حتى أن صدفتها حتى الآن معروضة في المتحف البريطاني.
الرسالة بالطبع جاءت من خلال هويت نفسه، وعلى لسان الصديقة تيموثي، متحدثة عن بلدها الأصلي وكيف جاءت إلى إنكلترا، وكيف تاقت إلى رفاقها وحلمت بهم، أنسن هويت تاريخ السلحفاة، وتخيل رحلتها وما شعرت به، وكذا رأيها في ما يحيطها من بشر، وكيف تغضب وتسخر من يقينهم، وكأنهم هم وحدهم الذين يمتلكون العقل والمعرفة، فتقول.. «سرني خطابك أعظم السرور لأنه أول خطاب شرفت به.. فلتعلمي أني أمريكية، ولدت عام 1734 في فرجينيا. في ذلك المكان قضيت سني شبابي مغتبطة بين أهلي، وكنت أرى من حولي المُعمّرين من أقاربي الذين بلغوا من الكبر عتياً، ذلك لأن بني جنسنا يعمرون في الغالب، حتى لا نكاد نبصر في حياتنا جنازة ميت… لكن صبياً بحاراً كان يطوف في تلك الأرجاء يبحث عن شيء يلتقطه من الأرض، ففاجأني وأنا أستمتع بضوء الشمس، تحت عشب من الأعشاب، فقذف بي في حقيبته، ثم حملني بعدئذ إلى سفينته، التي بعد أن رست على شاطئ إنكلترا باعني إلى سيد من سادة الريف، كان قد جاء ليحضر حفلة انتخابية، وأطلق عليّ اسم «تموثي».

أبراهام لينكولن (يمين) و ليون فويشتفانغر

تضحية ثمينة على مذبح الحرية

سمع أبراهام لينكولن (1809 ــ 1865) بأمر سيدة فقدت خمسة من أولادها في الحرب الأهلية الأمريكية، ذلك عن طريق وزارة الحرب، وتقرير مساعد القائد العام. فكتب إليها رسالة تحمل الكثير من الأسى والتمجيد وطلب السلوان للمرأة التي مات أولادها «ميتة شريفة في ميدان القتال» حسب تعبير لينكولن نفسه. هذه الرسالة التي انتشرت بعد ذلك عن طريق مساعد القائد العام نفسه، الذي أرسلها إلى معظم الصحف وقتها. لكن.. ما حقيقة السيدة (ليديا) وأولادها أصحاب الميتة الشريفة؟ اتضح أن المرأة كانت تعارض الحرب، وبالتالي تجنيد أولادها، الذين تباينت مصائرهم، فأحدهم أُسر وافتديّ وعاد إلى أمه، والآخر فرّ إلى صفوف الأعداء، والثالث فرّ من التجنيد ومن أمريكا كلها!

ستسكن في بيوت لم تشيّدها

ونختم برسالة من الأديب الألماني ليون فويشتفانغر (1884 ــ 1958)، الذي هاجر من ألمانيا بعد صعود النازي، إلى باريس أولاً، ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية حتى وفاته. هذه الرسالة بعث بها إلى أحد أعضاء الرايخ، عندما علم بأنه يقيم في منزله بعد مصادرته، وقد عنونها بـ»خطاب مفتوح إلى السيد (س)». فيقول.. «سيدي العزيز.. لست أعرف اسمك ولا الطريقة التي امتلكت فيها بيتي… ما رأيك في منزلي يا هر (س)؟ ولست أدري في أي الأغراض استخدمت الحجرتين اللتين كانتا تضمان مكتبتي. لقد قيل لي إن الكتب ليست من الأشياء المرغوب فيها كثيراً في الدولة التي تعيش في كنفها، وإن مَن يُظهر شيئاً من الاهتمام بها يُعرّض نفسه للمتاعب. لقد قرأت كتاب زعيمكم، وحكمت وأنا صادق في حكمي أن المئة وأربعين ألف كلمة التي يحتويها، ليست إلا مئة وأربعين ألف جريمة ارتُكبت في حق روح اللغة الألمانية. وكانت نتيجة حُكمي هذا هي وجودك أنت في منزلي.
أطيب التمنيات إلى بيتي (ليون).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية