دمشق-“القدس العربي”: تبدو الأجواء الإعلامية غير الرسمية ملبّدة وغائمة بين دمشق وموسكو، وتعكس بالحد الأدنى نوعاً من العتب والزعل السوري من الطرف الروسي الذي ترك المجال لجزء واسع من الماكينة الإعلامية الروسية تتحدث عن موقف الكرملين من القيادة السورية وطبيعة ما سمته تلك الماكينة بالانزعاج الروسي من تصرفات الحكومة السورية لجهة المسار السياسي أو لجهة إدارة الشأن الداخلي السوري ومعيشة السوريين.
الوجود الروسي مرتبط بوجود الأسد
الأجواء الغائمة تلك ظهرت في مقالات وتعليقات لشخصيات سورية عديدة، لدى بعضها مكانة ما داخل سوريا. كما تسببت المقالات الإعلامية الروسية بسجال في أوساط النخبة السورية، جرى بعضها بين مسؤولين في نظام الحكم السوري، كالذي حصل عندما كتب أمين سر البرلمان السوري خالد العبود مقالتين هجوميتين على روسيا والرئيس بوتين وردّ عليه عضو القيادة المركزية لحزب البعث الحاكم في سوريا مهدي دخل الله.
كما شن زملاء العبود في البرلمان هجوماً عليه، إلى درجة ان أحد البرلمانيين وصفه بالفرزدق وبجنرال التلفزيونات. فيما كتب القيادي البعثي مهدي دخل الله مقالاً بعنوان: “من الدوائر والمربعات إلى الخفر والمطبات” ردّاً على العبود قال فيه أن النائب خالد عبود نجح في تعويم اسمه بقوة في وسائل الإعلام.
قبل الخوض أكثر في هذا الملف المستجد بين دمشق وموسكو، ثمة ملاحظة يمكن التوقف عندها تتعلق بقول العبود في إحدى مقالاته أن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في الحكم هو الضمانة الوحيدة لاستمرار الوجود الروسي في سوريا. يرى مراقبون انه ربما تكون هذه العبارة هي لسان حال السلطة السورية وليس فقط لسان حال العبود.
السلطة السورية التي لم ينفِ أيٌ من مسؤوليها ما روّج له جزء من الإعلام الروسي عن خلاف بين دمشق وموسكو، في حين نفى الناطق باسم الكرملين تقاريرَ الإعلام الروسي عن وجود أي خلاف.
طلبات سوريا من الوزير لافروف
ليس هذا فحسب، بل أن الأمر تطور إلى أن تُصدِر مجموعة من الإعلاميين والسياسيين السوريين السابقين وعلى رأسهم اللواء بهجت سليمان السفير السوري السابق في الأردن ونضال قبلان السفير السوري السابق في أنقرة بياناً يوم الخميس 14 أيار/مايو وجّهوه لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يطلبون فيه من الوزير اتخاذ ما يلزم لمنع “تكرار الأخطاء المهنية المؤذية والإساءات المتكررة” للعلاقة بين دمشق وموسكو. وجاء في البيان ان “ما تم نشره وبثه على بعض المواقع والمنابر الرسمية الروسية أدى إلى تأليب قطاع واسع من الشارعين العربي والروسي وإثارة توترات وردود ومهاترات نحن جميعا في غنى عنها، وحرف البوصلة عن حربنا المشتركة ضد الإرهاب والمخططات الغربية التي تستهدفنا معاً”.
وقال الموقّعون على البيان في خطابهم للوزير لافروف: نلفت نظركم إلى بعض الإساءات والافتراءات الموثّقة التي وردت على عدد من وسائل الإعلام الروسية في الآونة الأخيرة، وسببت امتعاضا وتجييشا في الشارع السوري باستهداف شخص السيد الرئيس بشار الأسد والإساءة إليه سيّما في ما جاء في حلقتين من برنامج (قصارى القول) على RT العربية استضاف فيهما الصحافي سلام مسافر، شخصا يتباهى بدعمه للجماعات المسلحة منذ 10سنوات (فراس طلاس) وبحقه مذكرات تتهمه بدعمه للإرهاب في أكثر من دولة”.
روسيا العسكرية والسياسية
تكشف شخصية سورية متابِعة لملف العلاقة بين دمشق وموسكو عن تمايزات نسبية قد تكون موجودة بين المؤسستين العسكرية والسياسية في موسكو حيال العلاقة مع السلطة السورية. تقول تلك الشخصية إن المؤسسة العسكرية وكبار القادة العسكريين الروس قريبون جداً في موقفهم من سلطات دمشق وهم الأكثر تشدُّدَاً في الذهاب في دعم الرئيس السوري بشار الأسد، وإن المؤسسة العسكرية الروسية متمسكة بمسألة أن يستعيد الأسد السيطرة على كامل الجغرافيا السورية وأن تلك المؤسسة ترى أن أي مفاوضات أو اتفاقات سواء مع دول إقليمية فاعلة في الحرب السورية كتركيا أو مع فصائل مسلحة هي تفاهمات مرحلية تكتيكية والهدف منها فقط استعادة المناطق الخارجة عن سيطرة القوات الحكومية.
وتُضيف تلك الشخصية لـ”القدس العربي” أن المؤسسة السياسية تبدو أقل تشدداً من العسكرية في الدعم المطلق للرئيس الأسد، وهي ترى أنه لابد من إصلاحات سياسية ولو بسيطة في سوريا، بحيث تسمح تلك الإصلاحات لروسيا بأن تواجه من خلالها دول العالم بأن الدعم الروسي لم يكن فقط للحفاظ على حكم الأسد وإنما لتحقيق الاستقرار والإصلاح في سوريا.
وتضيف تلك الشخصية بأن تأثير المؤسسة الاقتصادية الروسية يبدو محدوداً في سياق العلاقة بين دمشق وموسكو نظراً لكون سوريا ليست دولة يمكن أن تشكل بالنسبة لروسيا مطمعا اقتصاديا بقدر ما تشكل لها هدفاً استراتيجياً من الناحية السياسية والعسكرية.
حتى أن الرئيس السوري في أحد لقاءاته غير المنشورة على وسائل الإعلام مع مجموعة من المحللين السياسيين السوريين في قصر الروضة بدمشق في أيار/مايو من العام 2019 كشف لهم أن هناك تيارات داخل روسيا وانه يتفهم تلك التيارات وتعدُّدها تجاه العلاقة مع دمشق لكنه جزم حينها بأن موقف الكرملين عميق ومحدَّد وثابت.
يرى بعض الخبراء داخل سوريا أن الهجوم الإعلامي الروسي على القيادة السورية يحمل فيما يحمله أسباباً اقتصادية تتعلق بتأخير مقصود أو غير مقصود من قبل الحكومة السورية لأعمال وعقود لشركات روسية تعمل في مجال الطاقة كان من المفترض ان تباشر عملها منذ العام 2019 لكنها تأخرت بسبب الروتين والفساد داخل المؤسسات السورية، حتى أن نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف زار سوريا أواخر العام الماضي ليومين والتقى الأسد حينها بدمشق.
بعض الأجنحة داخل المؤسسة السياسية الروسية بدأت تصف الحرب الدائرة في سوريا بأنها تشكِّل إلى حد ما حرباً أهلية يجب ان تنتهي بحل سياسي وليس فقط عبر العمليات العسكرية وانتصار القوات الحكومية. هذه الأجنحة تميل إلى فكرة أنه بات من الضروري أن تتحقق على الأرض بعض بنود القرار حتى تصدِّر روسيا للعالم بأنها حققت أمراً على الأرض لصالح الجانب السياسي.
الوجود الإيراني والدستور السوري
هما نقطتان رئيسيتان في المشكلة بين دمشق وبعض الأجنحة في المؤسسة السياسية الروسية: الأولى هي عدم حصول أي تقدم في المسار السياسي وتحديداً في مسألة الدستور واللجنة الدستورية وعدم وجود بوادر للتقدم في هذا المجال، أما الثانية فهي مسألة الوجود العسكري الإيراني وعدم تقليص هذا الوجود بل على العكس زيادة هذا الوجود داخل سوريا.
عند حصول التسوية السياسية في المنطقة الجنوبية من سوريا، أي في القنيطرة ودرعا صيف العام 2018 والتي أتاحت استعادة القوات الحكومية سيطرتها على المنطقة وخروج التنظيمات والمعارضة المسلحة منها، كان شرط إبعاد العسكريين الإيرانيين من المنطقة الجنوبية حاضراً من قبل الإسرائيليين لكي يسمحوا للروس بإنضاج وإتمام تلك الصفقة، لكن الإسرائيليين أبلغوا الروس لاحقاً أن الخبراء العسكريين الإيرانيين ما زالوا حتى الآن ينشطون في ريف دمشق الجنوبي الغربي وجزء من ريف القنيطرة، وأن الروس بالتالي لم يفوا بالتزاماتهم تجاه تل أبيب وهذا الأمر أزعج الروس على الأغلب.
إدلب وتركيا
ليست دمشق راضية عن مُخرجات ونتائج اتفاق سوتشي الذي وقّعه الرئيسان الروسي والتركي بوتين واردوغان بخصوص محافظة إدلب شمال غرب سوريا في خريف عام 2018. وترى دمشق أن هذا الاتفاق يجب أن يكون قد انتهى به المطاف لأن تستعيد القوات الحكومية سيطرتها على إدلب، وتعتقد دمشق أن أنقرة استدرجت موسكو ليكون هذا الاتفاق حالة أمر واقع تستمر إلى حين التوصل لاتفاق سياسي وهذا أمر غير مريح بالنسبة لدمشق، يُضاف إلى ذلك أن الجيش التركي استطاع طوال الفترة الماضية منذ توقيع اتفاق إدلب توسيع انتشاره في الشمال الغربي السوري ونشر عشرات النقاط العسكرية هناك حتى وصلت بعض النقاط إلى ريف جسر الشغور غير بعيدة عن محافظة اللاذقية الساحلية.
لا بديل عن الأسد
وسط كل تلك التفاصيل، ثمة حقائق يتم تداولها هنا في العاصمة السورية دمشق مَفادُها أن العلاقة بين الكرملين وقصر الشعب عميقة ومعقدة إلى درجة كبيرة وأن ثمة خلافات بين دمشق وموسكو حول جملة من التفاصيل المهمة، لكن في العمق ثمة توافق تام لم يتغير بأن موسكو ترى أنه لا بديل عن الأسد لحُكم سوريا. وثمة حقيقة خطيرة جداً وهي أن موسكو حتى لو فكرت بأنه يجب على الأسد أن يرحل في وقت ما، فإنه لا يمكنها أن تتجاوز إيران وحزب الله في هذه القضية، لا بل أنها لا تستطيع اتخاذ أي خطوة في هذا الاتجاه من دون موافقة وقبول إيران وحزب الله.
برأيي أن الروس مستعدون وجاهزون تماماً للإطاحة بحزب البعث (إلى الأبد!) فور انتصار التيار المدني بين نخب الانتفاضة وشبابها.