لا شك في أن كتابة الرواية، تطورت بشدة منذ عهد الروايات الأولى التي كتبت في القرون الماضية، وحتى التي كتبت في القرن العشرين، وبداية الألفية الجديدة، وظهرت تجارب عديدة، لا تتبع النهج الكلاسيكي المعروف، ولا حتى تتبع بواكير الحداثة، وإنما هي تجارب وحدها، شيدت بمعمار خاص، وطرحت نفسها للتذوق.
هذا بالطبع يشمل الرواية الغربية والعربية أيضا، ونحن كما هو معروف، بدأنا متأخرين، غالبا في ثلاثينيات القرن الماضي، كما يؤرخ نقاد الأدب، وبالتحديد برواية زينب لمحمد حسين هيكل، وإن كان هناك من لا يرضى بتلك النتيجة، ويذكر أعمالا أخرى كتبت في الشام، بوصفها بدايات الكتابة الروائية العربية.
وفي هذا الوقت بالذات، أي وقتنا الذي نعيشه، نجد كتابات روائية بأعداد كبيرة، لكن دائما ما نشير إلى أن النجاح، وسط هذا الكم الهائل من الكتابات، يحتاج إلى صوت خاص يملكه الكاتب، أو يسعى لامتلاكه بكثرة القراءة والتجريب، والحذف والإضافة، والسؤال واكتساب المعرفة، ويمكن أن أضيف ورش التدريب على الكتابة، رغم اعتراض البعض، أن الورش لا تصنع كتابة. لا يهم أن يكون الأسلوب مقبولا لدى كل الناس، وهذا لن يحدث أبدا، بسبب اختلاف الأذواق، لكن فقط أسلوب خاص بالكاتب، والأسلوب هنا ليس أيضا بالضرورة يعتمد على اللغة، أو الوصف الخاص بالشخصيات، وإنما العالم الذي يتم تشييده، ويظل عالما فسيحا جدا، تسرح فيه مخيلة الكاتب، ويأتي إلينا منه بالدرر، وفي زياراتي الدائمة للمكتبات الكبرى، التي ما زالت تهتم بكتب الإبداع مثل مكتبة جرير، وتضع لها قسما ضخما، لا يقل وجاهة عن أقسام القرطاسية والكومبيوتر، وأجهزة الاتصالات، أعثر دائما على كتب مذيلة بأسماء لم أسمع بها أبدا، ينتابني الفضول، وأقلب الكتب، أحيانا تلفتني الصفحة التي فتحتها، وأشتري الكتاب لأكتشف وراءه كاتب موهوب، لكن كثرة ما يعرض، ويلهي المتسوق، لا يتيح له أن يتعرف إليه.
أيضا أعثر أحيانا على تجارب فيها محاكاة، وأعني هنا العناوين، التي يتوهم الكاتب أو الكتاب أنها ستلفت النظر لأنها صيغت على وزن عناوين أخرى مشهورة، أنا لا ألتفت لتلك المحاكاة، أحسها شيئا متكلفا ومقصودا، أن تسمى عملا لك مثلا: موسم الهجرة إلى الجنوب، أو اللص والثعالب، أو في بيتنا طفل، من دون أن تجيد رسم عالم يخصك، ويمثلك أنت، القارئ الجيد في رأيي لا يبحث عن عناوين تذكره بعناوين أخرى، قرأها مرارا وتكرارا، لكن عن عناوين حديثة وجذابة، وتقدم محتوى دسما ومشبعا.
الحوار بين الأرواح يمكن قراءته كحوار، ويمكن قراءته كسرد متصل من دون التركيز على الشخصيات، لنجد قصيدة ملحمية عظيمة.
أحيانا تأتي المحاكاة بشكل مبدع، وهنا لا يكتب المؤلف شيئا شبيها بالأعمال القديمة، لكن معارضا لها، أو امتدادا لها وقد ذكرت مرة، أن أي نص روائي يحتمل مده في أجزاء كثيرة، لكن الكاتب يكتفي بما يراه مناسبا، وقد يأتي كاتب حديث يمد النص في رواية جديدة، تذكر بالقديمة، وفي الوقت نفسه، تجددها بشخصيات أخرى، وعالم آخر، وفي بداياتي كانت لديّ رغبة كبيرة أن أكتب امتدادا لرواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، التي انتهت بالسفينة تشق النهر وسط مخاطر الكوليرا، وهي تحمل فرنادو داثا وحبيبته التي غدت مجرد هيكل رفيع، وعجوز، وكان ينتظرها كل تلك السنوات، إنها نهاية عظيمة، ومبهرة، وتتوافق مع النص بالتأكيد، لكن ماذا لو عثر الحبيبان العجوزان وسط غابة من غابات الأمازون على إكسير عشبي يعيد شيئا من الشباب، لتبدأ رحلة أخرى من الحب وسط صفاء بعيد عن الكوليرا؟ لقد كنت أتخيل شيئا كهذا، وبالطبع لم أكتبه، إنه مجرد خيال لم يجرؤ على الخروج من الذهن إلى الورق، خاصة أنه كان لماركيز في ذلك الوقت رهبة كبيرة، ومجرد مجاراته تجلب القشعريرة.
من التجارب الجيدة التي مدت من رواية قديمة وأعادتها للأذهان، تجربة الجزائري كمال داوود في محاورته لرواية «الغريب» لألبير كامو. كلنا قرأنا «الغريب» وقد نكون سخطنا على عنف المستعمر، وحادثة القتل في الجزائر، لكن الرواية عادت للأذهان بشدة حين كتب داوود روايته، «معارضة الغريب» وحصل بها على شهرة كبيرة، وعدد من الجوائز، وأظن أن التجربة كانت ناجحة.
هو سمى الرجل القتيل: موسى، صنع له أما وأخا وجيرانا وحبيبات، وعملا وعالما كبيرا كان يمكن أن يورق بشدة، لولا مقتله، ونجد هنا أن أخا موسى هو الذي يحكي، ويهدد، ويشتعل غضبا، هكذا. رواية كمال صغيرة لكنها تشعرك بلذة الكتابة، وتتابع بنشوة ذلك العالم المميز الذي خطه، وهو يتحدى «الغريب».
أعود لمسألة الصوت الخاص في الكتابة، ذلك الذي يقدم الكاتب بصورة مشرقة، وقد يضعه في الصف الأول من الكتاب، من العمل الأول فقط، وأمامي رواية: «لينكولن في الباردو» التي كتبها الأمريكي جورج سوندرز، وحصل بها على جائزة مان بوكر البريطانية، ونقلتها دار أثر العظيمة، بترجمة جميلة جدا من أحمد حسن المعيني.
الرواية ليست تقليدية أبدا، ولا هي أيضا تتبع آخر صيحات الحداثة، إنها رواية مبتكرة، أرواح كثيرة هائمة، تتحاور في البرزخ، وتبدي وجهات نظر في الحياة والموت ومعطيات العالم، ويمكن أن تمدح وتذم، وتنتقد، وتشتكي، وتصف الجمال النسائي والأناقة أيضا، ويأتي الاسم من وفاة ابن الرئيس إبراهام لينكولن، وانضمامه لتلك الأرواح. الحوار بين الأرواح يمكن قراءته كحوار، ويمكن قراءته كسرد متصل من دون التركيز على الشخصيات، لنجد قصيدة ملحمية عظيمة. إذن لنتعلم كيفية الحصول على الصوت المتفرد، الصوت الجهوري الذي ستصرخ به حروفنا، فيسمعها القاصي والداني، ولا يهم، كما قلت، أن تعجب أحدا، المقصود ليس إبهار الناس كلهم، لكن إبهار من يكون مستعدا لينبهر.
كاتب سوداني
من أروع روايات المحاكاة أو بالأحرى تأسيس نص على جملة من النصوص الأخرى، رائعة “أولاد حارتنا ” لنجيب محفوظ، التي أعادت صياغة النصوص الدينية روائيا،حيت روت حكاية البشر منذ كان في الجنة وحتى عصر العلم مرورا بآدم وجبل وعرفة وقاسم أي الأنبياء الأربعة. وتميزت هذه الرواية بعمق و معمار فريد قل نظيره إستحق جائزة نوبل وليس الثلاتية كما هو شائع. وحاكى جيمس جويس في رواية عوليس ملحمة الأوديسة خطوة خطوة، حذو الكعب للكعب، ولكن كي يسخر من هوميروس ولكي يبين أن المغامرة يمكن أن تحدث في يوم واحد ما بين البيت ومقر العمل مرورا بمحل البقالة والمكتبة والماخور. ولا حاجة إذن للأماكن البعيدة والمخلوقات العجيبة وعشر سنوات من التشرد! كم أنت رائع يا جيمس جويس!