في مدينة أصيلة المغربية، التي بدأت قرية مجهولة في أطراف المغرب، تمنح مثقفي وفناني العالم الفسحة التي يحتاجونها للعمل، ولا يجدونها غالباً في بلدانهم، لكي يمارسوا حريتهم في القول الفكري والإنتاج الفني، تيسر لي أن ألتقي لفيفاً من الأصدقاء، بعد غيابات كثيرة، وصحَّ لي اكتساب الصداقات النوعية الجديدة، من فنانين وأدباء وشعراء، صاروا المساهمة الجديدة في اتساع الأفق الذي أسعى إليه منذ ما يزيد على أكثر من خمسين عاماً.
٭ ٭ ٭
أفق لا أصل إليه مهما فعلت، لكن لا أكفّ عن الذهاب إليه. ولو كنتَ أحسن مكالمة البحر، ففي أصيلة بحرٌ أكثر من «البحرين» اللذين تربيتُ فيهما، أفتخر وأعتز بهما، بحر أكتب فيه وأكتب عنه، ويعرف كيف يكتبني. بحرُ أصيلة يأتي من المحيط، والهدير الذي يعزفه ليلاً ونهاراً، يتمكن من إيقاظ الشخص عند الفجر ويغني له عند النوم. وسوف يذكرني صوت موج المحيط بقصة ذلك الملك الذي لم يقدر على النوم لفرط هدير الأمواج في اللوحة المرسومة في حجرة نومه.
٭ ٭ ٭
جئتُ من البحرين برفقة الصديق جمال فخرو، وتلك نعمة نوعية تجعل الطريق ممتعاً (زاخراً بنوم يختصر الوقت ويمسح وعثاء السفر). وفي المرسم الدائم في برنامج اصيلة، كانت الفنانة لبنى الأمين تغنّج ألوانها مع الأصدقاء في المرسم والمهرجان، يبقى أن تعرف مهندس أيام أصيلة منذ ما يزيد عن 43 عاماً، الاستاذ محمد بنعيسى، الذي ظل يسهر على الساهرين في العمل الحر ليلاً ونهاراً.
٭ ٭ ٭
محمد بنعيسى الذي عمل على وضع (قرية) أصيلة – ومعها ثقافة المغرب – في المهب الحضاري لقضايا الناس، العرب والأفارقة، في محاولة لقراءة ما يكتبون ويكتبون، من أجل الحوار الصحي والفعال، لكي تبدو الحياة ممكنة. وظني أن الحياة ستبدو ممكنةً بضربٍ مفقودٍ من الأمل. على أن العبء، الذي يستمتع بالقيام به محمد بنعيسى، هو عبءٌ متماهٍ بالحس الحضاري، ولعل في ذلك من جماليات الكائن الإنساني النبيل، وظني أن من يكون زائراً غير مرة لهذا اللقاء الأصيل، سيدرك ذلك جيداً.
٭ ٭ ٭
كثير ما يزاحم البوح في لقاء أصيلة، غير أن حضور الشاعر بُلند الحيدري سيكون واحداً من أجمل الساعات، ففي المسابقة التي تحمل اسمه وتستعيد تجربته، تجعلني استحضر هذا الشاعر الصديق، الذي كان قد اختزل رده على لامبالاة المختصمين على ريادة تجديد الشعر العربي الحديث، بكلمة: (يصطفلوا) عندما أشرتُ إلى ذلك معه. حضرتُ في أصيلة حفلَ توزيع جائزة الفائزَين في مسابقته، حيث كانت نهاد ذكي من مصر والمغربي عمر الراجي، وكنتُ قد تعرفتُ على موهبة الراجي في المرة الماضية، عندما استمعتُ إليه يقرأ في أمسية في أصيلة، كما تعرفتُ بكتاب ذكي «كأنها القيامة» ومنه:
(هل يشعر الكتّاب بالرضا؟/ لطاما شعرتُ أن الرضا من نصيب الآخرين / وليس لي/ كلما وصلتُ إلى نقطةٍ لامعةٍ/ وجهتُ عينيّ صوب أخرى/ وثالثة ورابعة ولا نهائية/ أريد أن أكتب مئة قصيدة/ مئة رواية/ أن أقرأ ملايين الكتب/ حتى أجمع المكتبات في رأسي/ حتى يصبح دماغي ثقيلاً على الجسد/ ليتحمله/ فيسقط مني). كما تقول في ذلك الكتاب.
٭ ٭ ٭
سوف يتذكر الكثيرون في مستقبل الأيام الندوة الفكرية، في أصيلة، بموضوعاتها المنتقاة، المتصلة بالواقع الإنساني، عبر قارات العالم، والمستوى المنتخب الراقي الذي تشكله تجارب المشاركين في الحوار الحرّ في القاعة الكبرى بالمكتبة. وكان موضوع ندوة هذه الدورة عن «العالم بعد الحرب في أوكرانيا».
٭ ٭ ٭
يبقى تأكيد ما قلته، جواباً لسؤال صحافي، عن فوائد مهرجانات ولقاءات الثقافة والأدب في الواقع العربي. إن من بين أداء اللقاءات الأدبية العربية، أنك تستطيع اللقاء مع أصدقاء قدماء، مثل صبحي حديدي ونوري الجراح وشوقي بزيع وإدريس علوش وحسونة المصباحي، ليس بمقدورك الشخصي أن تراهم في أي مكان عندما ترغب، وكذلك تكتسبُ أصدقاء جدداً يسعفون مخيلتك الأدبية ويصقلونها.
شاعر بحريني
صدقت
ليس المغرب بلد الاولياء فقط بل ملتقى الشعراء والمبدعين
كل أصيلة وانتم بخير