«أضغاث ربيع» مجموعة القاص المغربي عبد الرحيم سليلي: السخرية إزاء أزمات الوجود العربي

عادل ضرغام
حجم الخط
0

في المجموعة القصصية «أضغاث ربيع» للكاتب المغربي عبد الرحيم سليلي، هناك عودة لكتابة القصة الطويلة التي تثبت تميزا، وقدرة لافتة في الاشتغال على حركة السرد، وعلى حركة المعنى في تولدها داخل نسق رمزي شفيف يتشكّل بالتدريج، ليصبح ذا مشروعية مكوّنا أفقا للتلقي والقراءة. فالقصر البنائي – بالرغم من مشروعيته – يشير حتما إلى نسق تأملي كاشف عن مساحة من التيبس الكتابي المشدود إلى مناح شعرية، مهمومة بتلخيص التجارب الإنسانية التي تشترك مع منجز آخرين سابقين، في الدوران حول الجاهز، وتأمل فيوضهم للوصول إلى أمثولات، يكيّفها القصر، ويجعلها داخل حيز اليقين دون مساءلة.
القصص في هذه المجموعة لا تخلو من امتداد وحركة وانتقال ونمو، بعيدا عن اللقطة المعرفية التأملية الساكنة، وهذا ينبهنا إلى بكارة وفوران الطرح وقيمته الفنية، وينبهنا أيضا إلى جدارة المشروع الكتابي، وإن كان قيد التشكّل والبناء. فهي قصص نابعة من التأمل والمقاربة للواقع الفردي، وللواقع العربي في بعض البلدان دون إشارة واضحة مباشرة في النص، هناك فقط بعض الإحالات المكانية مثل (سفح سنجار)، ليتوجه القارئ إلى مكان محدد ذي خصوصية، أو إلى تناول (القات) الذي يحدد مكانا معلوما للجميع. وكل هذه التأملات تشير إلى عمق أزمة الوجود العربي، وإلى السياق المضطرب الذي يعيش فيه الإنسان العربي، فمعظم الأمكنة خاضعة للصراع والتحزّب المذهبي والأيديولوجي. وهذه المقاربة تحتاج إلى كثير من الوعي بالصراع بمكوناته وجذوره للوصول إلى بنية فنية قادرة على حمل مساحات من السخرية السوداء التي تطال كل التكوينات المذهبية، وكذلك الأشكال الرسمية للحكم.
فالتوجه في كل القصص – خاصة في الجزئين الأوليين – لا يخلو من إطار نقدي لكل السياقات المهيمنة في البلدان العربية، خاصة البلدان التي فقدت تصالحها مع تاريخها القديم، أو فقدت قدرتها للاستجابة نحو تعدد نسيجها، أو مع هويتها، من خلال العماء الذي يمعن البعض في تشييده، فتبدو الحركة أو التوجه دائرة في فضاء منبت لا أساس له. ففي كل فترة هناك بداية من الصفر، تنتهج هدم الماضي بدلا من الوعي به وفق لحظة حداثية تسلط الضوء على فجواته وظلماته. تبدو البلدان العربية في الجزء الأول (نيران شقيقة) موضوعة في بؤرة الاهتمام للتأمل والمقاربة، وإن أبرقت بعض القصص إلى رؤية وجودية عامة، ترتبط بطبيعة الحياة القائمة على الاختلاف، وإسدال الحواجز والسياجات بين الأعراق.

السخرية من الوجود الجزئي إلى الإطار

السخرية في قصص الجزء الأول لا تتوجه في ظل حالة التفتت إلى اتجاه دون آخر، بل تشكل سياقا عاما للرؤية، فهناك سخرية من ممثلي السلطة، وذلك من خلال الجملة التي تحضر بشكل دوري على لسان الضابط في قصة «أضغاث ربيع» في وصفه لحال الثورة وأثر الثوار (السماء توشك أن تقع على الأرض)، بل تصل السخرية باتجاه ممثلي السلطة مداها في اتهام ماسح الأحذية البسيط، ووضعه داخل حيز المساءلة بوصفه المسئول من خلال اتصاله بجهات خارجية عن قيام الثورة، فهذا يشكل نمطا جاهزا وتفسيرا مؤسسا، يجلبان السخرية السوداء، في ظل تهافت أصحاب السلطة للتعاظم على الجهل وغياب المعرفة.
السخرية في القصة السابقة لا تقف عند حدود السلطة وخطابها، بل هي انتقاص لكل أشكال النزاع، حتى فصيل الثوار. يتجلى هذا في البداية من عنوان القصة «أضغاث ربيع» وفي متنها النصي من خلال الإشارات إلى بعض الشخصيات التي كانت سببا في اشتعال الربيع العربي، مثل الإشارة إلى البوعزيزي (ألم يعد انتحار بائع مخمور كافيا لإسقاط ديكتاتور على عرشه، حجزه لنفسه بالدم والحديد) في رد الضابط على تصغير ماسح الأحذية لنفسه. ومن ذلك تأخذ السخرية مداها من التخيل أو بنية الحلم، لأننا نكتشف في النهاية أن القصة تدور في إطار حلمي، أو في إطار به نوع من التغييب من خلال المخدّر، فقول الضابط لماسح الأحذية أثناء التحقيق بوجود شبيه له، تولّى رئاسة دولة من دول الثقل السياسي والثقافي والحضاري، يفتح عمل المخيلة، ومن خلالها تتشكل مساحات السخرية، في تعامل هذا الرئيس مع الفصائل البشرية لشعبه، مثل النساء التقدميات، أو مثل الجالسين على المقاهي في انتظار تغيير النظام.
قصة «رمال حارقة» تأخذ منطقا نقديا من خلال الاتكاء على السخرية لفصيل التشكيلات الدينية التي نشأت في العقود الأخيرة، من خلال توالدها الداخلي وتناسلها إلى فرق عديدة، وذلك بالاعتماد على خطابات بعض المنتمين إليها، فيتكوّم الشك حولها من خلال وسائل عديدة. يتمثل أولها في العبث بالأسماء للانتقاص منها، وتعرية أصحابها داخل نسقها الأيديولوجي، فحين يقول واحد منهم واصفا القائد (بأبي حمارة الدهشقي)، أو (الجنرال المفخخ)، فهو يؤسس لسخرية الانتقاص، في الكشف عن التدثر بالديني للوصول إلى السياسي بوصفه هدفا أساسيا. وهناك سخرية الفعل، فهناك حكايات جزئية كثيرة، تمارس الكثير من السخرية للوصول إلى فعل التعرية لهذه الفصائل التي تحتمي بالدين، مثل حكاية المرأة الكردية التي تمّ أسرها وقتل مرافقها، أو حكاية الرجل السجين الذي أعلنوا وفاته، لكي يتناوبوا الاعتداء على زوجته الأجنبية.
تؤسس بعض القصص شكلا من أشكال السخرية، يمكن أن نطلق عليه سخرية الإطار، حيث تتحرّك القصة في بناء فكرتها الساخرة في استنادها إلى نموذج شائع، يتمّ نقله وتحويله إلى لحظة آنية معاصرة. في قصة «نوستاليجا» تتحقق السخرية السوداء اللاذعة من خلال استحضار دون كيخوته بطل سرفانتس، حيث تحضر شهوته في إصلاح العالم التي تستدعي السخرية حتما. ولكن هذا المشهد في بداية القصة والكاشف عن مرحلة عمرية يتمّ استدعاؤها في لحظة آنية، تمارس البنية السردية عليه نوعا من النقل والتحوير، لكي يبدأ تفعيله في نسق جديد، وتعاد في ظل ذلك مقاربة فكرة الوطن، ودور الخطابات الرسمية في التمسك بحدوده، أو يتحوّل إلى فكرة غير واضحة شبيهة بمرآة مغطاة بالتراب.

بنية القص والآليات الفنية

تتعدد البنيات الفاعلة في قصص المجموعة، وتتعدد – تبعا لذلك – الآليات الفنية التي تستحضرها هذه البنيات. فالبنية في قصة «أضغاث ربيع» بنية أقرب إلى الحلم، لأنها كتبت تحت تأثير الإفاقة من المخدّر المستخدم في العملية الجراحية بعد أن داست الأقدام بطل القصة ماسح الأحذية أثناء الثورة. وفي هذا الحلم أو في هذه المساحة الخاصة بسريان المخدّر حتى الإفاقة منه، تتداخل العوالم والأزمنة، ويتماس الواقعي والخيالي والفانتازي. فهذه الآلية تعيد تأسيس العوالم النفسية شديدة التعقيد لماسح الأحذية في فرادته وابتعاده عن جانبي السلطة والثوّار، ومن ثم يصبح تمرير السخرية نحو الجانبين مقبولا، وتمرير وجوده حاكما متخيلا له مشروعيته، فالتخدير منفتح على الحلم، وفيه تذويب وإظهار للباطني الغائر داخل النفس الإنسانية.
تتأكد فاعلية الارتداد نحو الماضي ومقارنته بحاضرها في قصة «رمال حارقة» فالقصة تبدأ من لحظة خاصة يترقب فيها البطل موته وينتظره، ومن خلال آلية الارتداد وتأمل ماضيه يعيدنا إلى سفح (سنجار) وحدود أزمة الأيزيديين فيدخلها إلى بؤرة القص. يقدم لنا السرد ارتدادات سردية، للكشف عن تحوّل البطل من فرد عادي ينتمي إلى الأيزيديين إلى مقاتل إرهابي في تنظيم الدولة الإسلامية، بعد هجوم أفراد التنظيم على عائلته في السفح، وقتلهم أفراد عائلته من الذكور، ولم يتبق سواه ووالدته وأخواته الصبايا.
في بعض القصص يلمح القارئ حضورا للعجائبي، وهو حضور ليس عاريا من الدلالة أو الوظيفة السردية، ففي كثير من الحالات يبدو العجائبي مهما للكشف عن طبيعة الشخصية التي تعاني هزائم داخلية على مستويات عديدة، فالعجائبي في بعض القصص أقرب إلى حلم اليقظة الذي يكفل للذات القدرة على الاستمرار في ارتباطها بواقع مأزوم. يتجلى ذلك في قصة «يوم العمر»، حيث يجد القارئ شخصية البطل متجذّرة في إطار بنائي خاص في ارتباطه بالقسيم الأنثوي، أو في ارتباطه بالآخر في عمومه وتنوّعه، يقول النص واصفا البطل وتشكيله الذي لا يخلو من منحى عجائبي (وحين يحسّ نظرات الريبة الجبانة تتوجّه إليه من تحت جفون مواربة، ينمو له ريش كثيف، فيفرد جناحيه، ويحلّق عبر النافذة المفتوحة، يطير وسط فضاء غائب عن وعيه).
الوصف في قصص المجموعة يأتي غالبا في الفقرة الأولى من القصة، سواء في قصص الجزء الأول أو الأخير، فيكون هاديا وموجّها لعملية التلقي، فحين يقرأ القارئ الجملة الوصفية الأولى في قصة «أحضان دافئة» (كان الوقت مبكرا ذاك الصباح، السماء بين الرمادي والأزرق، وقرص الشمس يناور باستماتة، كي يطلّ من سردابه الكبير. بضعة طيور مشاغبة تملأ الجوار شقشقة) يدرك أنها بداية هادية وموجهة لمجمل التغييرات التي سوف تأتي في القصة، وأنها توجه حركة المعنى والتأويل التي تتكوّن بالتدريج، في حسم المرأة توزعها واختيارها الذي يتجلى في نهاية القصة، من خلال الجوار الذي يشغله الفتي أو الشاب القادم من القرية. وربما تجعلنا قدرة الكاتب في استخدام الوصف الكاشف عن حركة المعنى في النص، نعاين التصديرات النصية التي يضعها قبل الأجزاء والقصص المفردة.
وهناك قصص أخرى تستند إلى ثقافة ذات خصوصية، فهي ليست ثقافة عادية، بل تشكل نوعا من المعرفة، فالحديث عن قبائل التبو في قصة «طريق الفردوس»، وصراعها المستمر مع الطوارق، تعيدنا إلى الصراع في الصحراء الأفريقية التي تضمّ ليبيا وتشاد وبلدانا أخرى. فالصحراء في الجزء الثاني الذي يحتوي على قصتي «السياج» و«طريق الفردوس» مكان له فاعلية، سواء في تأجيج الصراع واستمراره، أو في القدرة على تشكيل هوية مغلقة ثابتة لا سبيل للانفكاك منها. فالتكرار الدوري لشكل السياج من خطين ملونين بين الأطراف التي تنتمي لأصل واحد، إلى سياج من الحطب أو القصب، إلى سياج من الطين الراكز القوي، إلى سياج من بناء بارتفاعات مختلفة، يشير إلى هوية انفصالية انعزالية تبتعد عامدة عن التجاوب والاكتمال، ربما يكشف عن تلك الخصوصية احتراق الكتب الصفراء للجد الأكبر (المبروك). فالكتب تحمل إشارة إلى المعرفة والتاريخ، واحتراقها يشير إلى أنها – أي هذه القبائل – خسرت لقاءها مع تاريخها، ولم تؤسس وجودها بناء على معرفة حقيقية، ولهذا ظلت ـ وستستمر- رهينة محبسها الانفصالي، فهي تشكل أفقا للسياجات التي تغلق أفق الضوء ونوافذه. وفي قصة «طريق الفردوس» تتكسّر كل المحاولات التي يقوم بها البطل الذي ينتمي إلى قبائل التبو، للخروج من الأفق المغلق للهوية الضاغطة، فكلما فُتح باب أمام عينيه، وجد انسدادا يعود لأسباب خاصة وثيقة الصلة به وبسياقه. فالقصتان في الجزء الثاني تشكلان فضاء مغلقا بالثبات، يشير إلى خصوصية وإشكاليات عديدة لقبائل الصحراء.
عبد الرحيم سليلي: «أضغاث ربيع»
بدوي للنشر، القاهرة 2024
191 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية